السودان والعلمانية.. رحلة شاقة نحو الديمقراطية
26 مايو 2021
تتجه أنظار السودانيين إلى عاصمة جنوب السودان، جوبا لبداية مفاوضات تاريخية بين الحكومة الانتقالية في البلاد والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، بقيادة عبد العزيز الحلو في أعقاب توقيع اتفاق بين الطرفين نص على “علمانية الدولة السودانية- فصل الدين عن الدولة” كمبدأ أساسي للدخول في المفاوضات بعد تمترس الحركة الشعبية حول موقفها لسنوات.
وأثارت اتفاقية إعلان المبادئ التي وقعتها الحكومة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، جدلًا واسعاً حول علمانية الدولة، وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض للاتفاقية، في ظل لغط واسع بين السودانيين حول تحول الدولة إلى علمانية حسب ما تطلبه الحركة الشعبية.
” فشلت تجربة الدولة الدينية في السودان بدليل تأريخ الانتهاكات التي تمت ضد المواطنين المسلمين وغير المسلمين باسم الدين “. محمد يوسف المصطفى |
– أزمة تاريخية
وظلت قضية علاقة الدين بالدولة، تشكل أزمة سياسية في تأريخ السودان الحديث، حيث كان الصراع حولها ممتدًا منذ بداية تكون الأحزاب السياسية في بداية الأربعينات من القرن الماضي.
ومر السودان بعدد من الاتفاقيات التي تضمنت بند فصل الدين عن الدولة، في محاولة لحفظ حقوق الأقليات المهمشة، ولكنها كانت دائما تجهض إما عن طريق الانقلابات العسكرية أو الانتخابات التي تغلب دعاة الدولة الدينية، ومنها الاتفاقيات مع الحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق منذ أديس ابابا 1973 و”الميرغني- قرنق” واعلان كوكدام وغيرها من الاتفاقيات التي كانت تراعي حقوق المناطق المهمشة ذات الطبيعة الخاصة.
– حقوق الغالبية
ما يميز اتفاقية إعلان المبادئ بين حكومة السودان الانتقالية والحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو أنها لا تناقش أوضاع مناطق خاصة وإنما تعمم على كل الدولة السودانية، ما يثير حفيظة دعاة الدولة الدينية من الإسلاميين الذين ظلوا يروجون لعدم صلاحية العلمانية لحكم السودان.
ويقول نائب رئيس حركة الإصلاح الآن، ذات التوجه الإسلامي، حسن عثمان رزق لـ(عاين): إن العلمانية ليست نمط الحكم المناسب لبلد غالبية سكانه من المسلمين، ويرى أن نسبة السكان التي تعتنق غير الإسلام في السودان أقل من 5 %، الأمر الذي يعتقد فيه أن الإسلام قادر على ضمان حقوق هذه النسبة من السكان، وأن الإسلام في السودان هو عامل يوحد الناس ولا يفرقهم.
“حاول المكون العسكري مقايضة الحركة الشعبية التي اشترطت علمانية الدولة مقابل وحدة الجيش خلال اتفاق إعلان المبادئ “. جمعة كندة |
– جدل غياب التفويض
وأضاف رزق، أن الاتفاقية بين “الحلو وبرهان” غير مرضية نسبة لأنها تمت بين طرفين لاحق لهما في اتخاذ قرارات مصيرية باعتبار أن البرهان رئيس مجلس سيادة انتقالي، وأشار إلى أن غياب المجلس التشريعي لوضع رأي في الاتفاقية سبب كافي لرفضها باعتبار أنها لا تمثل كل السودانيين، وقال: هذه الاتفاقية غير ملزمة للمسلمين لأنهم مأمورون من ربهم بتحكيم شريعة الله، وأوضح أن مهام الفترة الانتقالية تتضمن تحقيق السلام والاستقرار بالاقتصاد وليس من مهامها تحديد شكل الحكم، الأمر الذي يرى أنه من مهام المجلس التشريعي المنتخب.
وبصدد تفويض الحكومة الانتقالية لإبرام اتفاقيات، علق المفكر والباحث د. عمر القراي لـ(عاين)، أن الحكومة الانتقالية هي صاحبة الحق الأكبر للتحدث باسم الشعب باعتبارها صاحبة تفويض شعبي كبير وما منحته لها الشرعية الثورية.
– دين جديد
وفي احتكام الاتفاقية للمواثيق والعهود الدولية، يرفض حسن عثمان رزق ذلك باعتبارها دعوة لدين جديد فوق كل الأديان، ورأى عدم الإذعان لأي مادة في الاتفاقيات الدولية تتعارض مع أحكام الدين، ونوه إلى أن الدولة الآن غير ملتزمة بادعائها بالوقوف على مسافة واحدة من كل الأديان، وقال إنها تحارب الدين الإسلامي بفرض العلمانية وبالتطبيع مع إسرائيل وغيرها، على حد تعبيره.
ومن جانبه كشف المستشار السابق لرئيس الوزراء بشؤون السلام، د. جمعة كندة لـ(عاين)، عن ورش مكثفة ومفاوضات غير رسمية استمرت بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية تكللت بالوصول لإعلان المبادئ، واستنكر دعاوى الإسلاميين برفض فصل الدين عن الدولة قائلًا إن 80% من الدول في العالم التي بها غالبية سكان من المسلمين، تنص دساتيرها على علمانية الدولة.
– مقايضة وطنية
ونوه كندة، إلى أن إعلان المبادئ تم في الآخر بمقايضة بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية التي اشترطت علمانية الدولة لإسقاط حق تقرير المصير، وقال : (اشترت الحكومة وحدة السودان ووحدة الجيش بالعلمانية)، وأضاف أن الحركة الشعبية كانت منظمة جدا في رؤاها وأفكارها، حيث كشف أن ترتيب التفاوض بالبدء بالملفات السياسية ثم الإنسانية ثم الأمنية كان مقترحا من الحركة الشعبية.
وأشار كندة، إلى تقديره للدور الذي قامت به الحركة الشعبية، الأمر الذي يرى أنه من المفترض أن يكون هم عام لكل التنظيمات الداعية لتقدم البلاد، وزاد: (أرى أن اتفاق إعلان المبادئ يحمل بداخله بذور بقاء الدولة السودانية واستدامة السلام فيها على عكس الاتفاقيات السابقة التي كانت تحمل بداخلها بذور فنائها).
– فصل الدين وآخرين
ولفت كندة إلى أن إعلان المبادئ لم يفصل الدولة عن الدين فقط، بل تقدم إلى فصل الدولة عن الثقافات، الأمر الذي يراه من محاسن الاتفاقية، مشيرا إلى أنها استفادت في ذلك من التجربة التركية التي تبنت ثقافة واحدة و أقصت بقية المكونات الثقافية الموجودة.
وفيما يتعلق بالجدل الذي أثارته نقطة احتكام قوانين الأحوال الشخصية إلى الدين والعرف، أوضح د. جمعة كندة أن الأحوال الشخصية ممارسة في الأصل وليست قوانين، مشيرا إلى أن الحركة الشعبية لا تستطيع فرض نوع معين من الأحوال الشخصية على الأفراد الأمر الذي يتنافى مع العلمانية نفسها.
وأبان أن البند في الاتفاقية وضع مواثيق حقوق الإنسان الدولية كمعيار أساسي بحيث لا تتنافى المواد مع حقوق الإنسان، وأضاف أن الاتفاقية وضعت حدًا لاستغلال الدين في السياسة، قائلا : (فصل الدين عن الدولة في السودان هو حماية للدين نفسه).
– نصوص مرحلية
ويعود عمر القراي، للتأكيد على فهم مغلوط عند أغلب المسلمين للدين، موضحًا أن بعض الآيات القرآنية جاءت مواكبة لواقع مرحلة تأريخية معينة من مراحل تطور الدين الإسلامي، وشرح أن أحكام الشريعة الاسلامية غير صالحة لحكم المجتمع الحالي، باعتبار أنها تكون غير منصفة لمن يدينون بغير الدين الإسلامي وتفرض عليهم الجزية وتمنعهم من ممارسة حقوقهم الدينية.
وأشار إلى أن الدولة الدينية لا يمكن فيها لشخص غير مسلم تقلد أي منصب يولّ فيه على مسلمين، الأمر الذي اعتبره تمييز سياسي على أساس الدين.
“يسود فهم مغلوط بين أغلب المسلمين للدين، وبعض الآيات القرآنية جاءت مواكبة لواقع مرحلة تأريخية معينة من مراحل تطور الدين الإسلامي“. الدكتور – عمر القراي |
– هوس ديني
وربط القراي، حملة بعض الجهات الدينية الرافضة لاتفاقية إعلان المبادئ، بما تعرض له في مجهوداته لتغيير المناهج والحملة التي قادها متشددون دينيون لإزالته، وكشف أن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك يضع قدرا أكبر من اللازم للجماعات الدينية المتشددة، وأشار إلى نجاح تلك الجماعات في معركتهم ضد المناهج وشخص القراي، واعتقادهم أنهم ربما يكسبون أيضا معركة فصل الدين عن الدولة.
– مخاوف التسويف
وأعرب القراي، عن تخوفاته من نكوص الحكومة الانتقالية عن اتفاقها مع عبد العزيز الحلو، وحدد المجلس العسكري بشكل واضح، وبرهن على ذلك بردة فعل المكون العسكري بعد اتفاقية أديس أبابا بين رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك والقائد العام للحركة الشعبية عبد العزيز الحلو، ورفضهم لها بتعليقهم أن الاتفاقية هي عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
وأضاف القراي أن جزءا من أعضاء المكون العسكري في الحكومة الانتقالية كانوا من أعضاء اللجنة الأمنية للنظام البائد وأنهم مازالوا يصرحون بتصريحات الإنقاذ، وقال إن بعض العسكريين أصحاب طبيعة إنقلابية، وأرجع ذلك إلى قصور في فهمهم أن أفضل وضع لاحترام الجيش هو النظام الديمقراطي.
– انتهاكات باسم الدين
محمد يوسف المصطفى: تجربة الدولة الدينية في السودان فشلت بدليل تأريخ الانتهاكات التي تمت ضد المواطنين المسلمين وغير المسلمين باسم الدين. من ناحيته أكد القيادي بالحركة الشعبية د. محمد يوسف المصطفى لـ(عاين)، فشل تجربة الدولة الدينية في السودان، وذلك باستعراض لتأريخ الانتهاكات التي تمت ضد المواطنين المسلمين وغير المسلمين باسم الدين.
وأشار إلى أن محاولة فرض الدين على الدولة واستنباط تشريعات منه تقصي عدد كبير من مواطني الدولة وتمارس ضدهم انتهاكات وقمع حرياتهم الشخصية، وأضاف أن الدولة الدينية لا تقوم إلا على حجب الحريات، ولفت إلى أن كل الدول الدينية دائما ما يحتكر التشريع فيها جسم ديني يتكون مما يسمى برجال الدين.
وقال المصطفى، إن الحركة الشعبية تراهن في تنفيذ الاتفاق على التغيرات التي من المفترض أن تطرأ على هيكل الدولة، وذلك بفصله عن كل المؤسسات الدينية التي ما زالت جزء من هيكل الدولة وترهق كاهلها. وأوضح أن الحركة الشعبية ترى في ذلك تحويل تلك المؤسسات المهتمة بشؤون الدين إلى أجسام أهلية بعيدًأ عن الدولة، لأن ربطها بالدولة يعني فساد الدين وفساد الدولة، وذلك من أجل المحافظة على هوية الدولة غير المنحازة لأي دين.
– إعلان المبادئ وسلام جوبا
وأوضح المصطفى الفرق بين قضية الدين والدولة في اتفاقية جوبا لسلام السودان وإعلان المبادئ الموقع مؤخرا، قائلاً إن اتفاق جوبا لسلام السودان لم يكن دقيقاً في وصف علاقة الدين والدولة، منوها إلى الفرق الجوهري بين رؤية الحركة الشعبية لتلك العلاقة ورؤية الجبهة الثورية التي بها تنظيمات إسلامية.
وأشار إلى أن فصل الدين عن الدولة يختلف تماما عن فصل الدين عن السياسة، وأضاف أن اتفاقية جوبا لسلام السودان كانت كأنها امتداداً لاتفاقية مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا والتي اكتفت بفصل الدين عن السياسة فقط، وزاد: (لو كانت علاقة الدين والدولة في اتفاقية جوبا بهذه الدقة لما انتظرنا توقيع إعلان مبادئ جديد، فنحن لا نبحث عن مجد للحركة الشعبية وإنما عن مخرج لأزمات الدولة).
– تجربة المناطق المحررة
ورأى المصطفى أن إعلان المبادئ جاء نتيجة لضغوطات سياسية تمت على المكون العسكري بعد اتفاق الحركة الشعبية مع رئيس الوزراء بأديس أبابا، وتطرق كذلك لتجربة المناطق المحررة في الإدارة الداخلية، مشيرًا إلى نظام الحكم الذي يضمن مشاركة القواعد الشعبية في الإدارة، وزاد: (في المناطق المحررة، تعتبر أجهزة الدولة العسكرية من جيش وشرطة واستخبارات، من أهم مصادر حماية حريات الناس، والهم الرئيسي لتلك الأجهزة هو حماية المدنيين من الانتهاكات على عكس الأجهزة الامنية في السودان التي تعمل على انتهاك حقوق المواطنين وليس ببعيد فض اعتصام القيادة العامة).