الصمت والخوف: الحياة تحت سطوة قوات الدعم السريع في دارفور

تقرير: عاين 31 أغسطس 2019م

تشكل قوات الدعم السريع المنتشرة في كافة انحاء اقليم دارفور، مصدرا للرعب واخافة السكان المدنيين، بل وإخلاء المدن من قاطنيها في بعض الأحيان، كما يقول الكثير من شهود العيان والمراقبين. ويرى مواطنون من عدة مدن في دارفور ان مليشيا الدعم السريع ((الجنجويد)) أحالت المدن إلى مناطق غير  مأهولة بالسكان بسبب الخوف وانعدام الأمن وقلة الوظائف وضعف حركة التجارة، ما احال الحياة إلى جحيم. 

وتسيطر قوات الجنجويد بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير ب ((حميدتي)) علي الامن والتجارة والموارد ومسارات الرعي والزراعة وكل شئ في الاقليم حاليا، كما يتمتعون بحماية القانون والحصانات منذ عهد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير وحتى الآن. 

الصمت والخوف: الحياة تحت سطوة قوات الدعم السريع في دارفور

الخوف والظلام

تشكو آمنة داؤود مرسال التي تبلغ من العمر 55 عاما وتعمل في سوق نيالا الكبير لعشرات السنين، من قلة أعداد الزبائن بسبب الاوضاع الأمنية السيئة والخوف الذي ينتاب الجميع مع حلول الظلام في المدينة. 

أسست آمنة كشكاً تجارياً حسن السمعة في ثالث أكبر مدينة في السودان  (نيالا) يعني (مكان المؤانسة) بلغة الداجو المحلية، ولكن الآن لم يعد هنالك متسع من الوقت للمؤانسة عندما تبدأ الشمس في الغروب- فبرغم الوضع الاقتصادي المتأزم الذي تعاني فيه آمنة من تناقص عدد الزبائن يوماً بعد يوم، ينبغي عليها أن تحزم أغراضها على عجل وتهرع إلى بيتها. وتقول آمنة داؤود لشبكة (عاين) : “قبل عشر سنوات، كان يمكنك أن تتجول في أرجاء نيالا حتى الصباح من دون أن يستفسرك أو يتعدَّى عليك أو يسرق أغراضك أحد، فقد كان الوضع آمناً، أمَّا الآن فحالما تغيب الشمس لا يمكنك أن تمشي فيها آمناً”. ظلت مدينة نيالا -حالها حال غالبية مدن وقرى دارفور- تعاني من وجود المليشيات الموالية للحكومة لعشرات السنين، ولكن أكثرها كثافة حتى الآن هي قوات الدعم السريع. لكن آمنة داؤود تمضي للقول ان الوضع أصبح أكثر تدهور، والأمن ليس مستتبا حتى في ساعات النهاروتضيف “حتى أثناء النهار يكون الوضع خطراً، حيث يدخل أفراد قوات الدعم السريع في شجارات مع السكان وينهبون الأموال والهواتف النقالة، وإذا تجرأت وقلت إنَّ ذلك خطأ، يمكن أن يردوك قتيلاً بدم بارد.”.ويقول أبوالبشير آدم، أحد سكان مدينة نيالا متحدثا ل ((عاين)) أنَّ: “السكن في أيِّ منطقة تتحكم فيها قوات الدعم السريع، بما فيها نيالا، يعني العيش في حالة دائمة من الخوف

انتشار

 اعتاد سكان مدينة نيالا على الوجود الكثيف لمليشيا الدعم السريع ، لكن الأعداد تزايدت بصورة ملحوظة عقب اندلاع الثورة في ديسمبر الماضي المنادية بالحكم المدني للبلاد. ويعتقد أهالي نيالا أنَّ هذه التعزيزات الإضافية لقوات الدعم السريع جاءت لتقوية قبضة السلطة أثناء فترة الانتقال السياسي الحالية. 

ويقول أحمد عبدالله الذي تَخَرَّجَ حديثاً من الجامعة وأحد سكان نيالا قائلاً: “إنَّ حميدتي وعصابته (قوات الدعم السريع) ظلت موجودة في نيالا لسنوات، ولكن عندما اندلعت الثورة وبدأ الشعب ينادي بالحكم المدني، بدأت هذه القوات تنتشر في الأماكن العامة في كافة أرجاء الولاية”. وتحتضن مدينة نيالا -التي تعتبر من مراكز التجنيد الرئيسية للدعم السريع- عشرة معسكرات تجنيد لوحدها، دعك من بقية المدن. 

وتقول إحدى موظفات الأمم المتحدة تعمل في حاضرة ولاية غرب دارفور (الجنينة) قائلة: “لقد تزايدت أعداد قوات الدعم السريع تزايداً مضطرداً في الآونة الأخيرة بغية إظهار القوة والسيطرة، إذ يجوبون أنحاء المدينة بسيارات الدفع الرباعي بسرعات عالية، وإن لم تتنحّ عن طريقهم ينهالون عليك ضرباً بالسياط والهراوات. و باعتباري امرأة، يستحيل أن أخرج إلى الشارع بعد السابعة مساءً”.

الصمت والخوف: الحياة تحت سطوة قوات الدعم السريع في دارفور
ثمة ما يقارب 200 سيارة دفع رباعي تابعة لقوات الدعم السريع تجوب أرجاء ولاية غرب دارفور، وإنهم زادوا من زعزعة الوضع الأمني

الجنينة والضعين

 منذ اندلاع الثورة، كثَّفتْ قوات الدعم السريع أيضاً من تواجدها في العواصم الأخرى في إقليم دارفور مثل الجنينة والضعين في غرب وشرق دارفور على التوالي، يستهدفون ويروعون الأهالي بذات الإفلات من العقاب. وحدثنا إبراهيم شمو مقيم بالجنينة- قائلاً “إنَّ ثمة ما يقارب 200 سيارة دفع رباعي تابعة لقوات الدعم السريع تجوب أرجاء ولاية غرب دارفور، وإنهم زادوا من زعزعة الوضع الأمني هنا؛ إذ تزايدت معدلات الجريمة والقتل والسرقة، وخلقت حالة من الرعب والفوضى، حتى المزارعين لم يسلموا من قوات الدعم السريع، فلا أحد يحميهم أثناء عملهم في الحقول، حيث ظلوا يتعرضون لنهب الثروة الحيوانية والأموال منذ يناير الماضي”.

وبحسب معلا عوض الكريم -أحد سكان الضعين- ألقت قوات الدعم السريع القبض على أعضاء في الحكومة المحلية أثناء حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس السابق في فبراير الماضي من غير لجوء حقيقي للقانون. وأردف أنه تم اعتقال عدد كبير من المدنيين اعتقالا تعسفياً، وظل بعضهم قيد الحبس منذ فبراير الماضي. وبحسب محمد عبد الله المحامي المقيم في مدينة الضعين فقد “فَرَّ العديد من الأهالي من المدينة وحاولوا أن يجدوا مصدر رزق في القرى النائية لتجنب مليشيات الدعم السريع؛ فهذه المليشيات لا تتبع أي نوع من سيادة القانون”، وأردف: “حتى المحاكم تعتبرهم أناساً انتزعوا سلطة المحاكم من غير وجه حق أو إذن”.

قوات باطشة 

ظلت قوات الدعم السريع تتواجد بكثافة شديدة وبطشه في دارفور حتى الوقت الراهن، حسب تقارير الأمم المتحدة وعدد من منظمات حقوق الإنسان. وبحسب تقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة للعام 2017 يُعتَبَرُ أفراد مليشيا الدعم السريع هم المرتكبين لغالبية الجرائم ضد المدنيين في دارفور من نهب واغتصاب وحرق للمنازل. وذَكَرَ تقرير لمنظمة العفو الدولية صَدَرَ في شهر يونيو الماضي أنَّ لديهم صوراً بالأقمار الصناعية وبينات توضِّح أنَّ قوات الدعم السريع والقوات الحكومية الأخرى مستمرة في ارتكاب جرائم الحرب وانتهاك حقوق الإنسان في إقليم دارفور، ويشمل ذلك التدمير الجزئي أو الكامل لـ 45 قرية، والقتل غير القانوني، والعنف الجنسي. وصَرَّحَ الأمين العام لمنظمة العفو الدولية كومي نايدو قائلاً: “إننا شهدنا في دارفور -كما حدث في الخرطوم- الوحشية المهينة التي تمارسها قوات الدعم السريع ضد المدنيين السودانيين، ولكن الفرق الوحيد هو أنهم في دارفور ظلوا يرتكبون هذه الفظائع لسنوات عديدة ويفلتون من العقاب”.

مأساة منسية

ظلت قوات الدعم السريع تتمتع بالإفلات التام من العقاب لسنوات في دارفور، ويُعزَى ذلك جزئياً لطرد المنظمات الطوعية الدولية والحظر التام للصحافة المحلية والأجنبية في الإقليم، وقد يكون الصحفي المصور وصانع الأفلام فيل كوكس أحد أواخر الصحفيين الأجانب الذين غامروا بحياتهم في الإقليم، حيث ذهب إلى هناك في ديسمبر من العام 2016، اختطفته قوات الدعم السريع وعذبته وسجنته هو وزميله داؤود هاري لمدة 70 يوماً. وقد أعلنت الحكومة السودانية في ذلك الوقت عن مكافأة ضخمة لمن يلقي القبض عليهم، مِمَّا يدل على عقدها العزم على إبقاء أعين العالم بعيدة عن دارفور وما سوف تسفر عنه التحقيقات المستقبلية. 

وقال كوكس لشبكة (عاين): “لقد تحولت دارفور من محط أنظار العالم ومحل شجب الفظائع التي تحرك النشطاء والمشاهير وقادة العالم على حَدٍّ سواء إلى صراع منسي يحجبه طمس المعلومات”، وأردف قائلاً: “ليس مسموح للأجهزة الإعلامية والمحققين بالوصول المستقل للإقليم لسنوات عديدة، وبرغم ذلك ظلت تصل إلينا أخبار الفظائع وجرائم التطهير العرقي”.

عجز الشرطة

الصمت والخوف: الحياة تحت سطوة قوات الدعم السريع في دارفور
قوات الدعم السريع “تتمتع بحصانة رسمية، ولا يحاسبون على أفعالهم. وليس لقوات الدعم السريع مسوغات قانونية لإنفاذ القانون والتوقيف والحبس، وبرغم ذلك يتمتعون بصلاحيات رجل الشرطة ووكيل النيابة والقاضي، جميعها في وقت واحد

      من جانبه يقول المحامي عبد الباسط الحاج إن قوات الدعم السريع “تتمتع بحصانة رسمية، ولا يحاسبون على أفعالهم. وليس لقوات الدعم السريع مسوغات قانونية لإنفاذ القانون والتوقيف والحبس، وبرغم ذلك يتمتعون بصلاحيات رجل الشرطة ووكيل النيابة والقاضي، جميعها في وقت واحد”، وأردف: “وبرغم تمتعهم بهذه الصلاحيات يقومون بتنفيذ هذه الواجبات من دون اللجوء إلى القانون ومن دون أن يكون لديهم التدريب اللازم؛ فهم لا يعرفون كيف يحققون في جريمة، ويعتمدون ببساطة على التعذيب ويعتقدون أنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة لبسط سيادة القانون”.

  في يوليو 2017، أغارت قوات الدعم السريع على ثاني أكبر قسم شرطة في نيالا في حي المثاني بأربع سيارات لاندكروزر رباعية الدفع مدججة بالأسلحة، وهددوا الضابط المناوب في القسم بإخلاء القسم خلال 48 ساعة، بحسب أحد ضباط الشرطة فضل حجب اسمه لسلامته. وقد كان الأمر بإخلاء القسم بحجة أنَّ الأرض التي عليها القسم اشتراها قائدهم (حميدتي). وأفادنا محامي يعمل في سجلات الأراضي طلب أيضاً عدم ذكر اسمه للسلامة أنَّ الأرض التي بُنِيَ عليها قسم الشرطة والتي قيل إنها تابعة لحميدتي هي أرض حكومية. وذكر المحامي أنَّ الفريق محمد حمدان دقلو لم يقدم أي مستندات تثبت شراءه للأرض ويشك في أنه انتزعها بقوة السلاح.

ويقول ضابط الشرطة علي عثمان* الذي يتذكر الغارة جيداً: “بالطبع لم يكن الأمر قانونياً، ولكن لا يمكن لأحد من الحكومة المحلية اعتراضهم، لأنهم قد يردونك قتيلاً”. وحدثنا عثمان قائلاً إنهم -أي أفراد الدعم السريع- مدججين بالأسلحة الحديثة ويتقاضى الواحد منهم راتباً يفوق راتب ضابط الشرطة العادي في مدينة نيالا بخمسة أضعاف، لذلك نعجز عن ردعهم عندما يسرقون من العامة. “لا يمكنني أن أفعل أي شيء؛ فهؤلاء الناس خارج القانون ويمكن أن يقتلوني”.

تجنيد

بينما تتزايد أعداد قوات الدعم السريع في إقليم دارفور، هنالك إشارات إلى أنَّ المليشيا قد تصبح قوة إقليمية. وبحسب الضابط عثمان: “شرعت قوات الدعم السريع فعلاً في التجنيد من خارج السودان، لا سيما عبر تشاد ويستلم المجندون بطاقات الهوية السودانية في نيالا”. وقال عثمان: “إنه من السهولة التعرف على أنهم أجانب من ملامحهم وأنهم لا يتحدثون العربية”، وأردف: “ينبغي أن نتذكر أنَّ قوات الدعم السريع هي مليشيا قبلية وأن قائدها حميدتي لديه نفوذ في امتداداته الإثنية في البلدان المجاورة مثل تشاد حيث ينتمي هؤلاء”. وصَرَّحَ الحاج المحامي  لشبكة (عاين) الإخبارية قائلاً: “إنَّ قوات الدعم السريع التي تتلقى الدعم المادي السخي باستغلال احتياطي ذهب دارفور بمعزل عن الحكومة بمثابة ميزانية موازية من المتوقع أن تصبح قوات ارتزاق إقليمية في شرق ووسط أفريقيا”. وقال الحاج إن “قوات الدعم السريع بإمكانها أن ترتكب أيَّ عمل إجرامي داخلياً وخارجياً وتوفر لأصحاب المصالح كافة العناصر اللازمة لاستمرارية الإمساك بمقاليد الدولة”.

الصمت والخوف: الحياة تحت سطوة قوات الدعم السريع في دارفور
بينما تتزايد أعداد قوات الدعم السريع في إقليم دارفور، هنالك إشارات إلى أنَّ المليشيا قد تصبح قوة إقليمية. وبحسب الضابط عثمان: “شرعت قوات الدعم السريع فعلاً في التجنيد من خارج السودان، لا سيما عبر تشاد ويستلم المجندون بطاقات الهوية السودانية في نيالا http://bit.ly/2KwT3nw

مستقبل الدعم السريع 

 يظل السؤال قائماً حول ما إذا كانت قوات الدعم السريع ستستمر في التحكّم في رقعة كبيرة من السودان وما إذا كان هذا النفوذ سيمتد أكثر في داخل وخارج الحدود خلال الفترة الانتقالية. ففي خاتمة المطاف، سيكون نائب رئيس المجلس العسكري حميدتي أحد أعضاء مجلس السيادة خلال هذه المرحلة، كما سيكفل الإعلان الدستوري المتفق عليه بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة رئاسة العسكر لمجلس السيادة لفترة الـ21 شهر الأولى من الفترة الانتقالية. ومع ذلك، فقد اتفق الطرفان على أنَّ أعضاء مجلس السيادة لن يتمتعوا بالحصانة من المحاكمة فيما يختص بجرائم الحرب والجرائم الموجهة ضد الإنسانية. وبحسب الإعلان الدستوري الذي صيغ مؤخراً تنضوى قوات الدعم السريع تحت راية القوات المسلحة السودانية، كما نص على أن تتضمن حقوق المواطنين عدم التعرّض لهم بالاعتقالات التعسفية وسوء المعاملة. وهناك ثمة إشارات للمزيد من المحاسبية داخل رتب قوات الدعم السريع، إذ يُقال إنَّ السلطات العسكرية اعتقلت تسعة عساكر وطردتهم من الخدمة بعد تورطهم في قتل ستة من المتظاهرين في الأبيض، ولكن قيام قوات الأمن بقتل 4 متظاهرين آخرين في أم درمان قبل يوم من محاكمة أفراد الدعم السريع يطعن في الوثوق بدعاوي الإصلاح في القطاع الأمني السوداني عموماً وقوات الدعم السريع على وجه الخصوص.

قد لا تأتي الإصلاحات في صفوف الدعم السريع من عملية التفاوض السياسي التي تحدث في الخرطوم، وعليه قد يقوم أهالي نيالا بالشروع في التغيير بأنفسهم. فبرغم الترويع اليومي من قبل قوات الدعم السريع، فقد سَيَّرَ مواطنو نيالا عدد مظاهرات  شجباً لعمليات الاعتقال المستمرة لسكان نيالا، والاعتداء بالرصاص على متظاهري الأبيض وتضامناً مع ضحايا الاغتصاب في سائر أنحاء الوطن ومطالبة بإعادة النقابات المستقلة. وقد حدثنا أحد نشطاء نيالا قائلاً: “لا ندري ماذا سيحدث في الخرطوم، ولكننا سنستمر في النضال هنا مهما كانت النتيجة”.