جولة جوبا: الحكومة الانتقالية و الحركات المسلحة .. تفاؤل رغم التحديات
تقرير: عاين 17 سبتمبر 2019م
رغم سمة التفاؤل التي ظهرت في تحركات وعلاقات الوفود التي شاركت في التوقيع على وثيقة بناء الثقة بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة والزمن القياسي الذي أنجزت خلاله الوثيقة، إلا أن تحديات كثيرة وخلافات حول الكثير من النقاط ما تزال ماثلة بين الأطراف التي اجتمعت في جوبا. وساطة حكومة الجنوب التي تملك علاقات واسعة مع الحركات المسلحة ومكونات حكومة قوي الحرية والتغيير اضافة للعلاقات الحميمية الشخصية بين قادة الحركات والحرية والتغيير لعبت دورا بارزا في الشكل الحميمي بين الوفود والتقارب السريع في التوصل لاجراءات بناء الثقة بين الأطراف. رئيس الوفد الحكومي قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو ((حميدتي)) بدا أكثر اصرارا في ابداء حسن النية تجاه الوفود وقام بزيارتهم في مقارهم، بالاضافة للأثر الدبلوماسي الإيجابي الذي تركته زيارة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لدى قادة حكومة الجنوب، كلها رسمت لوحة من التوافق السوداني المفقود منذ انفصال الجنوب وما قبله.
لكن في المقابل تبقى تحديات عالقة كثيرة مثل مراجعة الوثيقة الدستورية، وإشراك الحلفاء الجدد ((الحركات)) في مؤسسات الحكومة الانتقالية وغيرها نقاط تحتاج لمخاطبتها بالمزيد من التنازلات من قبل حكومة (( قحت))، حسبما طالبت قيادات الكفاح المسلح، فيما أشار محللون إلى صعوبات داخلية تتعلق بانقسامات الحركات على نفسها وتباعد مطالبها في بعض الأحيان، اضافة لتباعد المطالب بين ممثلي الأقاليم المختلفة في بعض الأحيان. غياب حركة تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد نور وتمسكها باشتراطات عديدة قبل حضور المفاوضات، ايضا مثلت واحدة من المنقصات الاساسية لوفود التفاوض رغم تطمينات أرسلها رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت بأن حركة عبدالواحد ستكون حضورا في جولات التفاوض المقبلة التي ستستأنف في 14 من أكتوبر المقبل.
تفويض جوبا
كانت الجبهة الثورية السودانية اضافة الى الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان (جبال النوبة) وقعتا مع الحكومة السودانية على وثيقة بناء الثقة بين الأطراف المتحاربة في السودان، بحاضرة جنوب السودان جوبا، تضمنت؛ اجراءات اولية توطئة لبدء المفاوضات في منتصف أكتوبر المقبل. ويبحث جنوب السودان في هذه الفترة التفويض الكامل لرعاية المفاوضات من قبل الاتحاد الأفريقي. خاصة وان الدولة الراعية للمفاوضات كانت هي إثيوبيا، وتمسكت الحركات المسلحة باهمية التفاوض في جنوب السودان.
يقول رئيس الجبهة الثورية السودانية د. الهادي إدريس، في مقابلة مع (عاين) ان رعاية جنوب السودان للمفاوضات سهلت مصاعب جمة، فيما يختص بالتواصل والدعم اللوجستي اللذان تحتاجها الوفود المختلفة والذي قد يجده حتى من عامة الشعب نسبة للوجدان المشترك، قاطعاً بأن المفاوضات ستشهد اختراقاً كبيراً في الجولة القادمة لسببين؛ الأول: هو وجود ارادة سياسية من كافة الأطراف، أما الثاني: فهو الاهتمام المتعاظم من الوسيط حكومة جنوب السودان.
من جانبه قال عضو وفد التفاوض الحكومي ووزير الصناعة والتجارة السوداني مدني عباس لـ ((عاين)) ان استضافة ووساطة جوبا للمفاوضات يعد ميزة إيجابية كبرى ستدفع بالتفاوض للأمام وتذلل الكثير من العقبات لما لهما من علاقات تاريخية وحميمة مع كافة أطراف التفاوض والنزاع في السودان. و بشأن هذه النقطة، يرى المحلل السياسي أتيم سايمون مبيور في حديث لـ(عاين) ” من المهم لدولة جنوب السودان الحصول على تفويض كامل من الاتحاد الأفريقي ودول الإيقاد(مجلس السلم والامن الافريقي) حتى يتسنى لها القيام بدورها الريادي في هذا الملف”. موضحاً أن اسكات صوت البندقية واستقرار السودان سيحدث فائدة كبرى بالنسبة لمواطن جنوب السودان ذو المزاج المشترك مع الشعب السوداني. ومضى في ذات الاتجاه المحلل السياسي إبراهيم أول. بالقول تأتي أهلية جنوب السودان من عمق اطلاعه على ازمة الحرب في السودان نسبة للحدود الطويلة التي تربطهما، والتأثر المباشر بالحرب اجتماعياً.. اقتصادياً، انتشار الحركات المسلحة في مساحة كبيرة من حدود جنوب السودان. وزاد ” نجاح المفاوضات الان قد يقود البلاد الى تكامل خاصة وأن البلدين لهما ارتباط تاريخي ومصير مشترك، اذن حكومة جنوب السودان هي الأفضل للقيام بهذا الدور”.
مشاهد من جوبا
وسادت الجولة أجواء ودية بين وفدي الحكومة والحركات، حيث جرت العديد من الجلسات الجانبية بين زملاء الدراسة من عضوية المجلس السيادي وقادة الحركات المسلحة، ابرزها كان اللقاء الذي جمع التعايشي بالقيادي صديق بنقو. بينما أخذ رئيس الجبهة الثورية وقتاً طويلا يسترجع ذكريات الجامعة مع التعايشي ومحمد الفكي، اما عضو المجلس السيادي الفريق الكباشي فقد اطلق ساقيه في شوارع جوبا يطرق أبواب المعارف والأهل من الذين شردتهم الحرب، فضلاً عن لقاءاته المكثفة مع من لفظتهم الحركات المسلحة خارج أسوارها امثال تلفون كوكو واعداً الجميع بحلول مرضية. وكانت أهم الخطوات لبناء الثقة والتي وجدت قبولاً واسعاً من مكونات الحركات المسلحة هي الزيارات التي قام بها رئيس وفد الحكومة ” حميدتي” لمقار الوفود. وقال بعض النافذين من الحركات المسلحة المختلفة ” منذ بدء ما يعرف بمفاوضات السلام لأول مرة يقوم وفد حكومي بزيارة لنا في مقار سكننا وبمبادرة منه”. تبع ذلك وصول وفد الحكومة السودانية بقيادة رئيس مجلس الوزراء حمدوك الذي برز في وفده الوزير مدني عباس دون تكلف حيث التقي زملاء الدراسة من جنوب السودان واتخذ من الركن الشمالي الشرقي لبهو فندق كروان مجلس له وسط الصحفيين. وكان مستشار رئيس حكومة الجنوب الجنرال توت قلواك يسعى بين الجميع لتقريب وجهات النظر دون أي عناء. قوبلت هذه الخطوات بارتياح كبير وسط كل من المفاوضين من الجبهة الثورية والحركة الشعبية قيادة الحلو، وعدد من المتابعين لمفاوضات السلام.
زاد من إيجابية الأجواء الحضور الدبلوماسي الكثيف لدول الترويكا (أمريكا، بريطانيا، النرويج)؛ الاتحاد الافريقي؛ حيث بعثت جمهورية كينيا مبعوث السلام لديها كولنزو ميسيوكا، بينما أرسلت أوغندا بوزير خارجيتها سام كوتيسا لمتابعة بدء المباحثات. وقال مبعوث السلام لجمهورية كينيا ميسيوكا لـ(عاين) ان جهود السلام المبذولة من جنوب السودان تؤخذ بعين الاعتبار خاصة وأن جنوب السودان يسعى سعياً حسيساً لوقف الحرب في الجارة السودان، موضحاً أن بلاد الجوار هي الأخرى تدفع ضريبة الحرب باحتضانها المئات ممن شردتهم الحرب طيلة السنوات الماضية، وزاد ميسوكا ” نناشد الاخوة في السودان بتحكيم مصلحة الشعب ودول الجوار لأن انفجار الاوضاع الامنية في السودان سيؤثر سلباً على دول الجوار وربما ينفرط العقد الإقليمي”.
مراجعة الوثيقة الدستورية
في المقابل برزت الكثير من التناقضات والخلافات بين أطراف التفاوض، حيث نصت وثيقة بناء الثقة الموقعة بين الأطراف على فتح وثيقة الإعلان الدستوري بما يتضمن إرجاء تعيين الولاة … إرجاء تشكيل البرلمان إلى حين الفراغ من المفاوضات لتكملة العملية السياسية الأمر الذي يدخل في صراعات مع قوى الحرية والتغيير.فيما تمسكت قيادات الجبهة الثورية بأهمية مراجعة الوثيقة الدستورية من أجل إشراكهم في قيادة الفترة الانتقالية وتمثيلهم في كافة مؤسسات الحكم بما في ذلك مجلسي السيادة الوزراء وكذلك المجلس التشريعي الانتقالي ومناصب الولاة.ويتمسك احمد تقد لسان.. أحد كبار مفاوضي الجبهة الثورية بضرورة اعادة صياغة الوثيقة الدستورية لضمان تمثيل الحركات المسلحة في مؤسسات الحكومات الانتقالية.
ويقول لسان لـ (عاين) ان الجبهة الثورية تعد مكون أساسي من مكونات قوى التغيير، مستدركا ” لكن هناك مجموعة من قوى الحرية التغيير تصرفت بشكل منفرد للاستئثار بالسلطة وإذا تم ذلك سيقود البلد الى انشطار. وأردف ” لذلك لابد من تجاوز هذا الخلاف يجب أن تؤسس الوثيقة إلى سلام دائم وحكم ديمقراطي”. وزاد تقد نحن راينا ان لا نلتزم بما جاء في الوثيقة الدستورية حرصاً على استقرار السودان. نحن سنعيد صياغة هذه الوثيقة وإعادة تشكيل كافة الهياكل المتمثلة في المجلس السيادي.. مجلس الوزراء.. البرلمان.. الولايات والوظائف القيادية العليا. “نحن جميعنا نتفق على اعادة فتح هذه الوثيقة ما يجري الآن هو احتكار منظم و تغييب متعمد لقطاعات كبيرة وإذا تم ذلك سيقود البلد الى انهيار كامل”.
من جهته قال رئيس الجبهة الثورية د. الهادي ادريس : ان اتفاق بناء الثقة والبنود التي تم التوقيع عليها تأتي في إطار قياس جدية الجانب الحكومي، لذلك تمت المطالبة باطلاق سراح اسرى الحرب وفتح الوثيقة الدستورية. ما تجدر الاشارة اليه هنا ان الحكومة السودانية شرعت على الفور في إنفاذ بعض المطالب حيث قامت بإطلاق سراح (17) اسير. معلنا عن اتجاه الحكومة الانتقالية لزيادة المقاعد في مجلسي الوزراء والسيادي بل ذهب بعض الاعضاء لعرض استقالتهم لإشراك حركات الكفاح المسلح.
مطالب متباينة
من ضمن التحديات التي تواجه مستقبلية المفاوضات وقدرتها على إحداث اختراق كذلك هو اختلاف وتباعد المطالب بين المجموعات المسلحة نفسها باختلاف وتباين مطالبها الجغرافية وكذلك حسب انقساماتها وخلافاتها الداخلية.الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار طالبت بحق الحكم الذاتي، بينما تمضي الحركة الشعبية بقيادة الحلو الي حق تقرير المصير ، وتختلف معهما معا المجموعات المسلحة في دارفور بشأن الاطار التفاوضي واختلاف المطالب الخاصة بكل اقليم.
يقول الأمين العام للحركة الشعبية قيادة الحلو عمار امون ان” الوصول لاتفاق سلام مرض يتطلب تنازل كبير من الحكومة السودانية هذا التنازل يجب أن يشمل الجوانب الامنية وهيكلة القوات المسلحة بشكل يًشكل قومية السودان. قبل ان يشدد في حديثه لـ(عاين) علي أنه في حال عدم الوصول الى المطالب أعلاه سيكون خيار تقرير المصير هو الاقوى من الحكم الذاتي، وهو حق كانت قد طرحته الحركة الشعبية قيادة الحلو في مؤتمرها العام الأخير”.
ولما لهذه الجزئية من تعقيد استمعت (عاين) لكبير مفاوضي حركة العدل المساواة واحد اهم مفاوضي الجبهة الثورية احمد تقد لسان الذي قال: من الصعب الوصول إلى اتفاقيتين مع مجموعتين مختلفتين ليس هناك أدنى اشتراك بين الحركتين الشعبيتين. وزاد “لابد من التفاهم بين حركتي ملك عقار و عبد العزيز الحلو والا ستواجهنا الصعاب!. لابد من توحيد الحركتين في موقف تفاوضي تشكيل وفد مشترك يرضي طموحات شعوب المنطقتين”. وفي الحديث عن تقرير المصير قال تقد: نحن نقدر هذا المطلب ولكن لا اعتقد ان ذلك سيجد سندا جماهيرياً وشعبياً.ويذهب القيادي السابق في الحركة الشعبية جناح (عقار) مبارك أردول إلى ذات ما ذهب إليه مفاوض حركة العدل والمساواة أحمد تقد، مؤكدا ان خيار “تقرير المصير لا أرضية له بعد سقوط النظام”.
ويشير اردول في حديث لـ (عاين) إلى أهمية توسعة دائرة التفاوض قائلاً: ” يجب تغيير الطريقة التقليدية للتفاوض بإقامة مؤتمر للسلام تحت مظلة واحدة ليكون السلام شامل حتى لايترك من يحمل سلاح” مطالباً بعدم احتكار التفاوض لمجموعات محددة، موضحاً أن الخلافات داخل الحركات تعود لأسباب داخلية تخص الحركات وليس كيفية الوصول الى سلام شامل. وزاد لابد من ايجاد لجان مختصة شاملة بما في ذلك الترتيبات الامنية. متوقعاً أن يحدث خلاف في اقتسام السلطة، مقترحا تعد نسب مئوية وفق وزن الحركات. وان يحكم السودان بنظام الحكم اللامركزي ليتفادى السودانيين الشد والجذب” حسب تعبيره.
غياب واشتراطات
وبعيدا عن جوبا، جددت حركة تحرير السودان قيادة عبد الواحد محمد نور رفضها للمباحثات. وقال الناطق الرسمي باسم حركة وجيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد. محمد عبد الرحمن الناير: نحن نقدر الجهود التي يبذلها الرئيس سلفاكير من أجل حل الأزمة السودانية والوصول إلى السلام والاستقرار، لكن في تقديرنا أن ما تم في جوبا لا يختلف عن الأسس السابقة التي قادت إلى اتفاقيات ثنائية لم تحقق السلام والاستقرار المنشود
ويصف الناير في حديث لـ(عاين) الحوار الحالي بأنه محاولة لاخضاع الحركات المسلحة علي القبول بالاتفاق الثنائي بين قحت والمجلس العسكري. مبينا “إذا كان هناك حوارا جادا يقود إلى التغيير وتحقيق أهداف الثورة فلن نتأخر عنه، اما القبول بالأمر الواقع والبصم على الاتفاق الثنائي بين قحت والمجلس العسكري فلن نكون طرفا فيه. وأضاف: على حكومة حمدوك ان تبرهن أنها جادة وحكومة ثورة وليست امتدادا للنظام القديم. ورسم الناير عدة شروط من أجل مشاركتهم في المباحثات بينها تسليم الرئيس المخلوع عمر البشير الى الجنائية ، اعادة النظر في الوثيقة الدستورية، إطلاق سراح كافة الأسرى والمعتقلين، إلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات و المنتهكة للكرامة الإنسانية، حل حزب المؤتمر الوطني وكافة واجهاته وتصفية مؤسساته، حل وتفكيك المليشيات الحكومية كتائب الظل، الدفاع الشعبي، الشرطة الشعبية وغيرها.
وأوضح الناير” ان أول المطلوبات وغير القابلة للتفاوض هو تنفيذ كل القرارات الدولية بحق حكومة البشير ومن بينها تنفيذ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية، اضافة الي التعهد بإعادة النظر في الإعلان الدستوري وكافة مستويات السلطة التي نشأت او سوف تنشأ على أساسه، وأن تقوم الحكومة الانتقالية بالتوافق بين جميع مكونات الثورة وليس طرفا واحدا يقرر فيها.