كيف يعيش ملايين العالقين وسط معارك حرب العاصمة السودانية؟

عاين- 3 ديسمبر 2023

تصعد “سمية عبد الله”، إلى قمة جبل مجاور لحيها السكني شمالي مدينة أمدرمان غربي العاصمة السودانية من حين إلى آخر بحثاً عن إشارة إلى إجراء مكالمة هاتفية مع شقيقها وأقارب لها متواجدين خارج بغرض طمأنتهم على العائلة التي ما تزال عالقة تحت نيران الحرب، وفي كثير من الأحيان تفشل محاولاتها، وتعود أدراجها بسبب رداءة شبكة الاتصالات.

هذا الواقع ينسحب على نحو 8 ملايين شخص ما زالوا عالقين في العاصمة السودانية بمدنها الثلاث حيث وصل قطاع الاتصالات إلى مستوى عال من التردي، وبات تسلق أسطح المنازل والأماكن المرتفعة السبيل الوحيدة للحصول على إشارة إلى إجراء المكالمات الهاتفية، رغم ما ينطوي عليه من مخاطر في ظل استمرار إطلاق النار والقصف المدفعي عشوائيا.

وبحسب سمية التي تحدثت مع (عاين) فإن خدمات شركات الاتصالات الثلاث “زين، سوداني، أم تي أن” تنقطع بشكل تام ومستمر لأكثر من أسبوع، وتعود إلى العمل بمستوى ضعيف ومتقطع لساعات معدودة؛ وبالتالي تختفي مجدداَ، الشيء الذي حرم المواطنين من التواصل فيما بينهم، وخلق عزلة اجتماعية واسعة.

شابة سودانية على مرتفعات جبلية غربي ام درمان تبحث عن التقاط شارة لهاتفها الذي تنقطع عنه شبكة الاتصال- الصورة: عاين- نوفمبر 2023

 

التدهور المريع في الاتصالات والإنترنت حرم سكان العاصمة السودانية من الحصول على الأموال عبر التطبيقات المصرفية، فالذين يرغبون في استخدام خدمة “بنكك” يضطرون إلى السفر لمدينة شندي نحو 120 كم شمالي الخرطوم، حتى يتمكنوا من فتحه وصرف المبالغ النقدية، وهي مهمة عصية لا تخلو من مخاطر، وفق سمية عبد الله.

تضييق

وإلى جانب تردي الاتصالات وما خلفه من عزلة افتراضية، فإن سكان الخرطوم يواجهون عزلة أخرى تمثلت في صعوبة التنقل بين المدن وحتى داخل الأحياء السكنية، وذلك بعد تصاعد وتيرة التضييق الأمني من طرفي الحرب على المدنيين واعتقالهم بشكل تعسفي تحت ذريعة ثابتة وهي التخابر من الطرف الخصم في الحرب.

ويقول مصدر محلي لـ(عاين): إن “الجيش السوداني حول مراكز للشرطة داخل الأحياء السكنية -نقاط بسط الأمن الشامل- إلى معتقلات يحتجز فيها المواطنون بشكل تعسفي، ويحرسها عناصر من الأمن والاستخبارات العسكرية والشرطة”.

وتستهدف حملة الاعتقالات للشباب الناشطين في العمل الاجتماعي والإنساني وغرف الطوارئ، بينما تُوضَع الأسر التي نزحت من ضاحية أمبدة وكافة مناطق سيطرة قوات الدعم السريع إلى محلية كرري تحت المراقبة الأمنية المستمرة، وإن كان من بين أفرادها شباب يتم احتجازهم لأيام مع إذلال وترهيب تحت ذريعة الانتماء إلى الدعم السريع- وفقا للمصدر نفسه.

ولم يكن الوضع في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بأحسن حالاً، إذ يواجه المواطنون هناك تضييقاً كبيراً تحت الذرائع نفسها وهي التخابر مع الجيش، بينما تعيش بعض الأحياء السكنية مثل الفتيحاب والمهندسين وأم درمان القديمة حصار كامل فالخروج منها والدخول إليها بات مهمة شبه مستحيلة.

ويقول أسامة الصادق من أمدرمان لـ(عاين): إنه “اضطر للنزوح مع عائلته من منطقة أمدرمان القديمة إلى الثورات كرري، وقبلها كانت عناصر قوات الدعم السريع يقيدون حركة السكان بشكل كبير، حيث يوقفون أي شخص يسير على الطريق والتحقيق معه، وفي بعض الأحيان يتم ضربه ونهب الممتلكات التي بحوزته بعد دمغه بالتخابر مع الجيش. ويضيف: “معظم سكان أمدرمان القديمة اضطروا إلى النزوح”.

وبالنسبة للصادق، فإن عمليات التوقيف العشوائي للمواطنين موجودة في مناطق سيطرة الجيش شمالي أمدرمان ويتخللها إذلال وتهديد ونهب كذلك في بعض الأماكن، ولكن الحركة تبدو أسهل قليلا من مناطق الدعم السريع، إلا إذا شك أحد العناصر المنتشرين في هوية الشخص، ساعتها سيتم اعتقاله والتحقيق معه.

حصار محكم

وينقل محمد حسين وهو مواطن من مدينة النخيل بأمدرمان لـ(عاين) واقعا مأساويا يعيشه السكان في منطقة الفتيحاب، فهناك صعوبة بالغة في الحركة، والتي ينضوي عليها مخاطر الاعتقال ونيران القناصة والقصف وإطلاق النار عشوائيا.

شارع داخلي في أحد احياء مدينة أم درمان

“الانتقال من الفتيحات إلى شمال أمدرمان إلى جانب المخاطر الأمنية يحتاج إلى مبالغ نقدية طائلة، بينما يتطلب السفر إلى الولايات الوسطى الذهاب إلى مدينة الأبيض ثم السير بالطريق القومي إلى كوستي أو سلك طريق وعر غير مسفلت إلى الدويم، وذلك بعد تدمير جسر خزان جبل أولياء الذي كان يسهل مهمة عبور النيل الأبيض شرقاً، الشيء الذي عمق حالة الحصار على المواطنين”. يقول حسين.

ضاحيتا أمبدة والفتيحاب الأكثر تأثرا بالحصار، إذ اختفت الخضروات إلى جانب نقص في الخبز مع ارتفاع عال في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية، في ظل تتوقف مصادر الكسب المادي للمواطنين.

وتعيش العاصمة السودانية وضعا بما يشبه الحصار الكامل في ظل قطع الجسور، وبدت ملامح الندرة تظهر في الجزء الجنوبي من أمدرمان، لا سيما ضاحيتي أمبدة والفتيحاب، إذ اختفت الخضروات إلى جانب نقص في الخبز مع ارتفاع عال في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية، في ظل تتوقف مصادر الكسب المادي للمواطنين.

وبحسب تقارير منظمة الهجرة العالمية، فإن 3 ملايين شخص على الأقل نزحوا من الخرطوم، وهو ما يشير إلى وجود نحو 8 ملايين مواطن ما زالوا عالقين تحت نيران الحرب في العاصمة السودانية المقدر العدد الكلي لسكانها بحوالي 11 مليون نسمة.

ومن جنوب مدينة الخرطوم (جنوب الحزام) يقول محسن قرشي لـ(عاين): “هناك استقرار نسبي في الحياة مع تراجع حدة التضييق والقصف العشوائي، فكثير من المتاجر تعمل، لكن هناك غلاء طاحناً في أسعار السلع خاصة المتعلقة بالأكل والشرب وهو أمر يزيد المصاعب الاقتصادية على السكان الذين توقفت أعمالهم”.

هذا الواقع ينطبق على المناطق الطرفية في جنوب العاصمة مثل الكلاكلة التي تحظى بوفرة في السلع ويحاصرها الغلاء، فهناك منافذ مفتوحة تصل عبرها المنتجات الغذائية المختلفة، وفق المواطن عصام محمد الذي تحدث لـ(عاين).

ويشير أسامة الصادق من أمدرمان إلى وجود وفرة سلعية بعد وصول المنتجات المستوردة من دول الجوار، لكن المشكلة الأساسية هي عدم قدرة المواطنين على الشراء؛ نظراً إلى الأسعار المرتفعة وغياب مصادر الدخل، ويقول “الحالة الاقتصادية والتضيق الأمني وسوء شبكات الاتصال، جعلت الوضع الإنساني للمواطنين في غاية السوء بصورة تهدد الحياة، مما يستوجب وقفا لهذه الحرب”

قلق مستمر

ولم تتوقف تداعيات سوء الاتصالات على العالقين في الخرطوم فحسب، بل وضع من هم خارج العاصمة في حالة من القلق والخوف المستمر على أقاربهم وأصدقائهم وممتلكاتهم هناك في ظل استمرار الاشتباكات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتصاعد أعمال القصف المدفعي العشوائي وسط الأعيان المدينة.

ويقول أحمد حمدان وهو صحفي سوداني نزح مع عائلته إلى مدينة آمنة لـ(عاين) إنه “فقد الاتصال مع جيرانه ومعارفه في ضاحية الصالحة جنوبي مدينة أمدرمان منذ ثلاثة أسابيع، وإنه قلق للغاية عن وضعهم الحالي.”

ويضيف: “ظللت في محاولات مستمرة للاتصالات بهواتفهم النقالة، لكن نجدها مغلقة بشكل دائم حيث تواجه خدمات شركات الاتصال الثلاث تردي كبير، ولا ندري ما مصير جيراني ومنزل الذي تركته بكامل مقتنياته، وكنت أطمئن على سلامته من خلال معارفي. وتراودني الرغبة حالياً في المغامرة والسفر إلى الخرطوم لتفقدهم بنفسي بعد تعثر الاتصال”.

ويشير حمدان، إلى أن سوء الاتصالات يفرض مزيداً من العزلة والحصار على السكان العالقين في العاصمة السودانية، ويفاقم وضعهم المعيشي، فغالبية المواطنين يعتمدون على التحويلات المصرفية من أقاربهم في خارج البلاد، وفي المناطق المستقرة، حيث يتعثر التطبيق المصرفي “بنكك” الآن، وهو أمر قاس في ظل عدم وصول المساعدات الإنسانية.

وتردد معلومات بشأن قيام الجيش بقطع الاتصالات عن عمد خاصة في محلية كرري شمالي العاصمة السودانية بهدف التشويش على عمليات القصف المدفعي التي تقوم بها قوات الدعم السريع نسبة لارتباط إحداثيات الأهداف المدفعية ببطاقات الاتصالات الهاتفية.

لكن عضو نقابة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المهندس أشرف عبد الرحمن، يرى أن السبب الرئيسي في تدهور خدمة الاتصالات الإنترنت في العاصمة السودانية هو التدمير والنهب الذي حدث لمناطق الربط الشبكي والمحولات الرئيسية لشركات الاتصالات الثلاثة، بجانب تأثر التيار الكهربائي بالاشتباكات العسكرية.

ويقول عبد الرحمن في مقابلة مع (عاين): إن “محولاً رئيسياً يتبع لشركة إم تي أن يغطي المنطقة من أمدرمان القديمة وحتى الولاية الشمالية تم نهبه، كما حدث نهب وتدمير لمقسم رئيسي لسوداتيل في ضاحية جبرة، وكذا الحال في مدينة بحري شمالي العاصمة، إذ نُهِبَت البطاريات ووقود المولدات الاحتياطية وأصبحت محطات الربط الشبكي والمحولات تعمد على التيار الكهربائي العام والذي يشهد قطوعات مستمرة تغيب معها خدمات الاتصالات والإنترنت”.

ويشير أشرف، إلى أن المحولات الرئيسية تتمركز في مناطق حيوية في الخرطوم وبحري تنشر فيها القناصة، ويصعب على فرق الصيانة الوصول إليها، حيث تم إغلاق جميع المسارات حتى التحركات التي كان يشرف عليها الصليب الأحمر توقف تماماً الآن، فالوضع خطير وينذر بانقطاع كلي وتمام للاتصالات والإنترنت في البلاد.

جرائم حرب

ويقول عضو “محامو الطوارئ” المحامي محمد صلاح بناوي، في مقابلة مع (عاين) إن “طرفي الحرب في السودان ما زالا يتعاملان بتهور مع المدنيين، حيث يواجه المدنيون العزل في تلك المناطق نقصاً حاد في الغذاء والدواء، ومشقة في الحصول على المياه الصالحة للشرب، وسط انقطاع كلي أو جزئي للكهرباء مع صعوبة الوصول للإنترنت في عدم توفر شبكات الاتصال”.

ويضيف: “ظللنا في محامي الطوارئ ندين كافة أشكال الحصار على المدنيين الأمر الذي من شأنه أن يعيق وصول الإمدادات الغذائية، ونطالبهم بالتوقف عن استهداف الأعيان المدنية أو اتخاذها لأغراض عسكرية، وندعو إلى حماية المدنيين والأشخاص المشمولين بالحماية في أثناء النزاعات، وفتح مسارات آمنة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وإجلاء المرضى والجرحى، والالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني”.

وتابع: “نناشد المجتمع الدولي بالضغط على طرفي القتال بغرض الالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني. ونعقد أن ما يجري الآن يمثل جرائم حرب لا بد من محاسبة مرتكبيها وفق للقواعد والقوانين التي كان يفترض أن يلتزموا بها، ولا يتعرضوا للأعيان المدنية”.

“باتت الحاجة ملحة وضرورية لفتح المسارات الإنسانية لوصول المساعدات، وهذا لن يتم ما لم يوقع اتفاقاً ملزم لوقف إطلاق النار، فلن تغامر أي جهة طوعية بموظفيها وإرسال قوافل المساعدات؛ لأن ذلك يهدد حياتهم”. يضيف بناوي.