حرب السودان.. ماذا وراء التراجع العسكري للدعم السريع؟
عاين- 17 فبراير 2025
من قوة عسكرية ضاربة تتساقط المدن السودانية واحدة تلو الأخرى في يدها، تتحول قوات الدعم السريع إلى جماعة مسلحة تنكمش للدفاع عن نفسها في عدد من المحاور العسكرية.
خلال الأربعة أشهر الاخيرة، تمكن الجيش من استعادة السيطرة على مناطق واسعة في أواسط السودان، مثل سجنة والدندر والسوكي في ولاية سنار نوفمبر الماضي، ومن قبل في اكتوبر منطقة جبل مويا الاستراتيجية، ما مهد الطريق إلى مدينة ود مدني التي استعادها الجيش في يناير من العام الجاري وكذلك المدن الكبرى في ولاية الجزيرة كرفاعة وتمبول وأم القرى الحصاحيصا والكاملين، والوصول إلى تخوم مدينة الخرطوم من الجنوب على اتجاهين شرق النيل وغربه.
عقب فقدان الدعم السريع السيطرة على وسط السودان، عزز الجيش تقدمه الميداني باستعادة السيطرة على معظم أنحاء مدينة بحري ومصفاة البترول شمالي العاصمة السودانية، واستطاع ربط قواته في منطقة كرري والكدرو (شمال) مع قاعدة سلاح الإشارة الواقعة في الجزء الجنوبي من بحري، وبالتالي فك الحصار الذي كان مفروضاً على قيادته العامة في الخرطوم.
وإلى جانب ذلك تقدم الجيش في أحياء جنوب غرب الخرطوم، مثل الرميلة والمقرن، وضاحية أمبدة غربي أمدرمان، فضلاً عن تقدمه في محور النيل الأبيض وتمكنه من استعادة السيطرة على مدينة أم روابة الواقعة على الطريق الرابط بين مدينتي كوستي والأبيض بولاية شمال كردفان، مما أدى إلى اتساع نطاق سيطرته.
في المقابل، استطاعت قوات الدعم السريع الاحتفاظ بسيطرتها على مناطق شرق النيل بالعاصمة السودانية، وجزء من مدينة بحري، إلى جانب مناطق واسعة من مدينة الخرطوم بما في ذلك القصر الرئاسي، وبعض المواقع في غرب أمبدة وضاحية البنك العقاري وصالحة جنوبي أمدرمان، هذا فضلا عن خارطة السيطرة في إقليمي دارفور وكردفان التي لم تشهد تغييراً، حيث تضع غالبيها إلى الدعم السريع.
سؤال التراجع
ويطرح التراجع الميداني لقوات الدعم السريع وفقدانها السيطرة على مناطق واسعة سريعاً، تساؤلات بشأن الأسباب الرئيسية التي قادت إلى ذلك، ومستقبل الصراع المسلح في السودان على ضوء هذه التحويلات، في الوقت الذي يؤكد فيه كل من طرفي الحرب قدرته على القضاء على الآخر خلال المدى القريب.
وتعزي معلومات وبيانات جمعتها (عاين) من مصادر متنوعة، تراجع قوات الدعم السريع إلى تمكن الجيش من اختراق قوته الصلبة وضربها بموجب عمل استخباراتي، وعسكري بالسلاح النوعي، إلى جانب اعتماد الدعم السريع على ما يعرف بـ”المناصرين” الذين تساقطوا عن الخدمة بعد نهب ما يكفي من أموال وسيارات، بالإضافة إلى ضعف الإمداد وغياب المرتبات للمقاتلين لأكثر من 10 أشهر، فضلاً عن انضمام القائد العسكري أبو عاقلة كيكل للجيش والذي شكل قاصمة ظهر هذه القوات لا سيما في أواسط السودان.
في الوقت الذي كان الجيش محاصراً في مقراته التي صارت كجزر معزولة، كان مساعد قائده العام ياسر العطا، يتحدث عن القضاء على القوة الأساسية الصلبة لقوات الدعم السريع، ساعتها كان يستند إلى قتل الضباط المؤثرين في هذه القوات، بينما تتغلل عناصره الاستخباراتية المتعاونة وسط قوات الدعم السريع، وفق مصدر عسكري مقرب تحدث مع (عاين).
لم يكن أبو عاقلة كيكل سوى أحد عناصر الجيش المزروعة وسط قوات الدعم السريع، لكنه كان الأكثر فائدة، وحقق نجاحات تفوق التصور في مهمته، ولم يكتف بتحقيق تقدم عسكري، لكنه أعاد صلاحيات سيادية إلى الحكومة في بورتسودان أحدثت فارقاً خدمياً وسيادياً، من بينها السيطرة على نظام السجل المدني الذي كان مرتبطا بنظام التشغيل الرئيسي لشركة سودا تيل في الخرطوم.
وفق المصدر نفسه، ذهب كيكل إلى مقر سودا تيل في منطقة المقرن بالعاصمة الخرطوم كأنه متفقد وبناء على تنسيق عال أوعز للفنيين في المقر بإعادة تشغيل النظام للحظات قليلة من الزمن، وقام فريق آخر في مدينة بورتسودان بالتقاط الإشارة، واستعاد نظام السجل المدني، وأنظمة أخرى مرتبطة بمؤسسات الدولة.
بداية الشكوك
بعد مقتل الضابط صاحب الولاء الشديد لقوات الدعم السريع، عبد الرحمن البيشي بغارة جوية في ولاية سنار، بدأت استخبارات الدعم السريع تشكك في حقيقة ولاء أبو عاقلة كيل، وصوبت له بعض العناصر الاتهام بالتسبب في اغتيال البيشي، وبحسب مصدر عسكري، فإن استخبارات الدعم السريع أرسلت القائد الميداني لمنطقة أمدرمان وليد، وحل إلى ود مدني للتقصي ومعرفة حقيقة كيكل، وتوصل إلى أنه يوالي الجيش، وعلى تواصل معه، لكن القيادة العليا للدعم السريع قررت عدم مواجهته؛ لأن ذلك سيقود إلى فتنة واسعة في القوات.
يقول مصدر من الدعم السريع لـ(عاين) إن كيكل قبل أيام من انسلاخه وانضمامه إلى الجيش، ذهب إلى الخرطوم، وطاف على جميع مناطق سيطرة قوات الدعم السريع بما في ذلك مقر هيئة الاستخبارات في ضاحية الرياض، وطلب مقابلة قائدها محمد حمدان حميدتي، ومكث لمدة أسبوع كامل هناك، وكان مصرا بشدة على ذلك، كأنها كانت المهمة الأخيرة التي كان يود القيام بها.
انسلخ أبو عاقلة كيكل، وترك خلفه شبكة خاصة من المتعاونين مع استخبارات الجيش، قادت إلى فقدان الدعم السريع السيطرة على ولاية الجزيرة، لكن ربما قررت مواجهتهم هذه المرة، فلم يمض طويلا على خطاب قائد الدعم السريع محمد حميدتي، الذي وعد خلاله باستخدام ما وصفه بالغربال الناعم، ربما في مواجهة من خذلوه، قُتل 4 من أبرز قادة الدعم السريع هم، رحمة مهدي “جلحة” والطاهر جاه الله، والرشيدي، وقائد العمليات في ولاية الجزيرة الذي خلف كيكل، عبد الله حسين.
ينفي الصحفي والمحلل السياسي الموجود في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في الخرطوم، حافظ كبير وجود خيانة أو تصفيات لقادة الدعم السريع الذين ماتوا مؤخراً بمسيرات الجيش، وكان ذلك نتيجة خلل في تأمينهم، ونسبة لأنهم يتقدمون الصفوف، وبناء معلومات استخباراتية ولأنهم معروفون، قُتِلُوا.
يقول حافظ الذي يظهر في مقاطع داعمة لقوات الدعم السريع لـ(عاين): إن “جلحة قتل بطائرة مسيرة في منطقة حطاب شمالي العاصمة، بعدما وقف في أحد الساحات لتسجيل خطاب عقب تمشيط المنطقة، فقتل، كذلك عبد الله حسين الذي استهدف الطيران تجمعات لقواته على محيط مدينة الكاملين بولاية الجزيرة”.
رواية أخرى
رواية حافظ يواجهها مصدر آخر، بالزعم أن جلحة قتل في ولاية شمال كردفان بالتزامن مع اغتيال الطاهر جاه الله والرشيدي، وبعد أيام لحق بهم عبد الله حسين في ولاية الجزيرة، وكان يعتقد بشكل كبير تواصلهم مع الجيش والعمل لصالحه من داخل قوات الدعم السريع.
ويكشف مقاتل حضر المعارك الأخيرة في عاصمة ولاية الجزيرة لـ(عاين) أن قواتهم كانت متمركزة في كل المدينة ولديها خطة محكمة لتأمينها، ولكن دون أي ضغط أو تهديد حقيقي تفاجأوا بأوامر من قائد الفرقة، بالانسحاب السريع، فتوجهت القوة نحو مدينة رفاعة، ومن فرط الغضب والصدمة، غادر الآلاف إلى كردفان ودارفور.
ويضيف: “قوات الدعم السريع هزمتها الخيانة في ولاية الجزيرة، قادتنا يثقون بكل شخص يأتي ويدعي الولاء لهم، لكن ما نزال اقوياء، وقادرون على الاستمرار حتى الانتصار”.
ومع أحداث الأسلحة النوعية المسيرات فارقاً في العمليات العسكرية لصالح الجيش، إلا أن العمل الاستخباراتي من الداخل كان بمثابة قاصمة الظهر لقوات الدعم السريع، إذ توجد عناصر موالية مسبقاً، وآخرون اُسْتُقْطِبُوا في وقت لاحق من الحرب، وتم استخدام ما يعرف بتنسيقيات القبائل العربية في بورتسودان، والتي تخضع لإشراف مباشر من مدير جهاز الأمن والمخابرات، اللواء أحمد إبراهيم مفضل، والتي تولت مهمة تجنيد قادة ميدانيين للجيش عن طريق استغلال العلاقات الأهلية، بحسب ما أفاد به مصدر أمني لـ(عاين).
وفق المصدر، فإن العناصر التي جُنِّدَت مهمتها في بادئ الأمر كانت رفع إحداثيات للطائرات والمدفعية الثقيلة بمكان تواجد القادة الميدانيين المؤثرين بقوات الدعم السريع، وبذلك اُغْتِيل ضباط عظام في الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، أبرزهم موسى عبودة، ومستشار “حميدتي” صالح عيسى قيقابي الذي قتل في كافوري بقذيفة مدفعية.
قاد موسى عبودة المعارك التي تمكنت بموجبها قوات الدعم السريع من السيطرة على جسر خزان جبل أولياء بعد تدمير كبرى شمبات، وتولى الهجمات على سلاح المهندسين في مدينة أمدرمان، وكان قاب قوسين، أو أدنى من السيطرة عليه، وبحسب مصدر في الدعم السريع تحدث مع (عاين) فإن عبودة تلقى مكالمة من أحد عناصر الدعم السريع طلب منه المجيء إلى قوة في حوش الخليفة لمعالجة مشكلة في الإمداد، وفي طريقه اصطادته طائرة مسيرة، وبهذه الطريقة اغتيل العديد من الضباط في أمدرمان والخرطوم وبحري.
وبعد مقتل عبودة تراجعت قوات الدعم السريع في محور أمدرمان، وتقدم الجيش بشكل كبير حيث استعاد السيطرة على مقر الإذاعة والتلفزيون، وتمكن من فك الحصار على سلاح المهندسين بربطه بقاعدة وادي سيدنا العسكرية في شمال أمدرمان، وواصل تقدمه باستعادة منقطة جبل مويا الاستراتيجية، وولايتي الجزيرة وسنار ومن ثم بحري، خلال عملية عسكرية هجومية بدأها بالفعل في سبتمبر من العام الماضي، وحتى أواخر يناير المنصرم.
ضربة الوسط
وفق مصدر بقوات الدعم السريع أن عبد الله حسين أمر القوات بالانسحاب من ود مدني، رغم أنها كانت في موضع قوة، وكل التقارير التي ترفع للقيادة تؤكد استحالة سقوطها، وكان قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي مندهشا مما حدث، وما تأكد لاحقاً هو تمكن مدير الأمن والمخابرات أحمد إبراهيم مفضل من استقطاب اللواء عبد الله حسين الذي تربطه به صلة قرابة. كما توفرت معلومات عن استقطاب جلحة، بواسطة رئيس لجنة الاستنفار الشعبي أحمد صالح صلوحة الموجود في بورتسودان، وبينهم صلة رحم كذلك.
تسبب مقتل جلحة في توتر كبير بين عناصر المكونات الأهلية داخل قوات الدعم السريع، وكادت الأوضاع تنفجر من الداخل لولاء تدخل ناظر عموم الرزيقات موسى مادبو الذي سافر سريعا من الضعين إلى المجلد بولاية غرب دارفور، والتقى ناظر المسيرية مختار بابو نمر في سرادق كبير لعزاء جلحة، وأكد ضرورة وحدة الصف بين المكونين الأهليين الذين يشكلان عماد قوات الدعم السريع، بحسب ما نقله مصدر محلي لـ(عاين).
ويرى المحلل السياسي أحمد حمدان في حديث لـ(عاين) أنه حال صحت فرضية اختراق الجيش لقوات الدعم السريع بهذا المستوى، فإنه استنزفت كل عناصره في داخلها دفعة لاستعادة السيطرة على العاصمة السودانية ووسط البلاد، وقد أفلح في بحري، وذلك نسبة لأنه يسابق الوقت قبل إعلان الحكومة الموازية التي يخشاها فهي تعتبر أكبر مهدد له، كونها ستوفر للدعم السريع أسلحة الدولة النوعية، وترفع الحرج عن الدول الداعمة له.
تكوين عشائري
ويستبعد الخبير العسكري اللواء د. معتصم عبد القادر الحسن، هذه المعطيات، ويعتقد أن أبرز أسباب تراجع قوات الدعم السريع هو تكوينه الذي يعتمد على الصلات الأسرية والعشائرية على حساب الكفاءة والتدريب بخلاف الجيش، حيث افتقر للاستراتيجيات والخطط والتكتيكات المناسبة لإدارة الحرب التي عندما تطاولت وتعددت المعارك، وانتشرت قواتها على نطاق واسع فشلت قيادتها في السيطرة عليها.
ويشير معتصم خلال مقابلة مع (عاين) إلى أن اختفاء قيادات التمرد العليا منذ بداية الحرب وظهور قيادة الجيش في الميدان مع جنودهم أثر في الروح المعنوية والقدرات القتالية، والإمداد البشري والمادي، عكس الجيش الذي وضع الاستراتيجيات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية للحرب والقضاء على الدعم السريع.
ويقر الصحفي حافظ كبير بخلل صاحب خطة الدعم السريع بالانتشار الواسع وترك قواعد للجيش خلفه ضمن محاولة لجعلها جزراً معزولة، لكن كان لذلك كلفة سياسية عالية، وصعوبة حماية المدنيين، مما استدعى ما وصفه بالانسحاب إلى الخرطوم وتأمينها لرمزيتها السياسية، وتركيز الجهود على مواقع مؤثرة ضمن الخطة (ب) التي اعلنها قائد بقوات الدعم السريع.