السودانيون يستقبلون رمضان.. حرب وفقد وأحزان

عاين- 11 مارس 2024

مع حلول شهر صيام رمضان، تغيبت ملامح الاحتفاء المعهودة في السودان والطقوس الخاصة باستقبال الشهر على وقع التداعيات القاسية للحرب المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي أفرزت وضعاً اقتصادياً وإنسانياً سيئاً.

بين لاجئ ونازح تتقطع السبل بنحو 7.1 مليون سوداني بحسب الأمم المتحدة، وهم يبدأون صوم رمضان في دورهم الاضطرارية التي يفتقد غالبيتها لأبسط مقومات الحياة في ظل نقص الغذاء والرعاية الطبية، وغياب العون الإنساني.

ويتزامن ذلك مع تراجع كبير في الوضع الاقتصادي تجلى في انخفاض سعر صرف العملة الوطنية بعد توقف شبه كامل للصادرات، مما قاد إلى ارتفاع في أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة فاقت الـ100 بالمئة في بعض مناطق الصراع في السودان، في ظل توقف مصادر الدخل لأكثر من 60 بالمئة من السكان.

في السابق، كانت الأسواق السودانية تمتلئ بالزبائن في مثل هذا التوقيت، فالتسوق يعد أهم طقوس استقبال رمضان، من خلال شراء كميات كبيرة من السلع الغذائية تكفي لشهر كامل، بجانب تغيير الأواني المنزلية بأخرى جديدة، لكن هذه السنة تغيب تلك المشاهد بشكل قسري، وأصبحت الأسواق المركزية في العاصمة الخرطوم مهجورة تكسوها آثار الدمار والخراب بسبب الحرب، بينما ظلت الأسواق في المناطق الآمنة مشتعلة بنيران الغلاء الطاحن.

حزن شديد

ويعرب أيمن بدوي، الذي نزح بأسرته من منزله في العاصمة الخرطوم إلى بورتسودان، عن حزنه الشديد لقضاء رمضان خارج منزله، وهو يستعد لاستقبال الشهر المعظم بعيداً عن “البيت الكبير” الذي كان يشكل محطة لتجهيز مطلوبات الصوم، من صناعة المشروبات البلدية مثل الحلو مرة والأطعمة المحلية الأخرى، فالعائلة تشتت بين نازحين ولاجئين، ولم يكن هناك فرصة للحصول على دفئهم.

سوق

ويقول بدوي في مقابلة مع (عاين): “لم نقم بعملية التسوق المعهودة بسبب الوضع الاقتصادي والغلاء الطاحن في أسعار السلع، فاشترينا بعض الضروريات والتي لا تتعدى نسبة 20 بالمئة عن التجهيزات التي كنا نجريها في السابق لاستقبال شهر رمضان”.

ويضيف: “هناك شيء أساسي وهو العامل النفسي الذي أفقدنا شقف الاستمتاع برمضان، فلم يعد لدينا نفس الإحساس والحماس الذي كنا نستقبل به شهر الصوم والمناسبات الدينية عامة، فالحرب والفقد والدمار لم تترك لنا مساحة لممارسة الحياة بصورة طبيعية، لا مجال لممارسة الطقوس كما ينبغي، إنه أسوأ عام وأسوأ إحساس يمر بي في حياتي”.

ونهاية الأسبوع الماضي حذر برنامج الأغذية العالمي، من أن تؤدي الحرب في السودان إلى أكبر أزمة جوع في العالم، لافتاً إلى أن 25 مليون شخص في جميع أنحاء البلاد وجنوب السودان وتشاد محاصرين في دوامة من تدهور الأمن الغذائي، وأن 90 بالمئة من الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع، عالقين في مناطق لا يستطيع البرنامج الوصول إليها.

وتبدو المآسي متطابقة عند السودانيين نتيجة الحرب المدمرة، ولكن لكل واحد منهم قصة خاصة تفاقم أحزانه مع حلول شهر رمضان، وهي كحالة أميرة صبري التي توفي زوجها لعدم تمكنه من الرعاية الطبية في الوقت الملائم في بداية اندلاع القتال، واضطرت بعدها للنزوح بأبنائها الثلاثة من الخرطوم بحري إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل شمالي البلاد.

وتقول صبري في مقابلة مع (عاين: “يأتي رمضان وقد فقدت زوجي وسندي في مثل هذه المناسبات، كذلك أنا بعيدة عن منزلي فهو أمر صعب للغاية، فعندما يكون الشخص في بيته يستطيع تدبير أمره بشتى السبل، وبالرغم من الدور الكبير الذي يقوم به الأهل الذين يستضيفوننا وعدم تحويجنا لأي شيء، إلا أن ذلك لم يكن مثل منزلنا”.

وتضيف “سئمنا حياة النزوح، ويتفاقم حزننا مع دخول رمضان، فكل حلمنا هو العودة إلى منزلنا في مدينة بحري، ونكمل شهر الصيام هناك وسط جيراننا ومعارفنا والبيئة التي اعتدناها، وحتى نتمكن من ممارسة حياتنا بشكل طبيعي”.

رمضان في مدن وبلدات دارفور

ويستقبل سكان إقليم دارفور غربي السودان شهر رمضان هذا العام في ظل حرب ونزوح من المدن تلازمه تحديات وتعقيدات الاقتصادية غير مسبوقة، نتيجة الحرب المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع التي اقتربت من عام دون أدنى أفق لوقف القتال.

ويظهر تأثير الحرب الراهنة بشكل واضح على استعدادات المواطنين في دارفور لشهر الصيام الذي تتغير فيه عادةً مجريات الحياة اليومية، ويتزايد التركيز على تحضيرات الأطعمة والمشروبات التقليدية التي تحتاج إلى مصروفات مالية عالية.

ورمضان هذا العام تتغلب عليه أزمة الغذاء والجوع التي تهدد حياة ملايين المدنيين خاصة في مخيمات النازحين، إضافة إلى انعدام الخدمات الأساسية من توفر المياه والعلاج والكهرباء التي دمرتها الحرب، بالإضافة إلى ذلك شبكات الاتصالات التي ما زالت محجوبة في معظم مدن الإقليم.

ويشكل الضغط الاقتصادي أحد أكبر التحديات الرئيسية التي تواجه السكان خاصة على العاملين الذين توقفت رواتبهم؛ مما أثرت إلى حد بعيد على القوة الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار الذي لم يقتصر على بعض السلع الرئيسية فحسب، بل امتد إلى مجموعة واسعة من الخدمات الأساسية، مما جعل تلبية احتياجات رمضان تحديا كبيرا.

سوق عديلة- شرق دارفور

ما يؤلم “عزيزة إبراهيم” التي تسكن مدينة نيالا، أنها تستقبل رمضان دون جيرانها وأقربائها الذين غادروا المدنية إلى وجهات بعيدة، بجانب من فقدوهم بسبب الحرب، وآخرين عادوا إلى المدينة، ووجدوا منازلهم قد تعرضت للسرقة والنهب”.

وتشير عزيزة في مقابلة مع (عاين)، إنها لم تقم بإعداد أي شيء لاحتياجات شهر رمضان، لجهة أنها لا تعلم عما إذا كان سيجدها في منزلها أم أنها ستضطر لمغادرته مجددا؛ لأن الحرب بين الطرفين لم تنته بعد.

وتضيف عزيزة (52) عاماً: أن “رمضان هذا العام سيكون من دون الموائد الرمضانية التي اعتادتها عائلتها لجهة أن الخوف من المجهول مازال يلازمهم، وأن الواقع المعيشي بات أكثر قسوة على العائدين إلى المدينة، رغم وجود الخضروات والفواكه التي تشتهر بها مدينة نيالا.”

عزيزة واحدة من سكان مدينة “نيالا” ثاني أكبر المدن السودانية التي دمرتها الحرب، عادت إلى منزلها في حي “الجير” واعتادت صوم رمضان فيه، لكنها تبدو غير مطمئنة، وتتخوف من هجمات الطيران الحربي التابع للجيش على المدينة التي أصبحت إحدى أهم مراكز قوات الدعم السريع.

وفي مخيم “الحميدية” أكبر مخيمات النازحين في مدينة زالنجي، عاصمة ولاية وسط دارفور، ومنذ أسابيع وجد “آدم عبدالله” نفسه مضطراً إلى ترك أطفاله ومغادرة المخيم إلى ولاية شرق دارفور بحثاً عن عمل في مزارع الفول السوداني، حتى يتمكن من إرسال مصروفات شهر رمضان إلى زوجته ووالديه الذين يقيمون بالمخيم دون غذاء.

ويقول آدم في مقابلة مع (عاين): إن “إيجاد العمل في المزارع أصبح غاية الصعوبة وأحيانا يكون مقابل وجبة واحدة فقط للعامل، ولا يستطيع توفير شيء”.

ويشير آدم (47) عاماً، إلى أن معظم النازحين لا يستطيعون الصيام في ظل حالة الجوع التي بدأت تضرب المخيمات في وسط دارفور. وتابع: “النازحون يمرون كل عام بمعاناة شديدة عندما يحل عليهم شهر رمضان، إلا أن هذا العام يختلف تماماً عن سابقاته من حيث المعاناة والقسوة، وأن أملهم الوحيد وصول الإغاثة للمخيمات لتقليل المعاناة”.

ومنذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل الماضي يعاني نازحين محاصرين في مدن وبلدات في دارفور بسبب القتال، بجانب مليوني نازح نتيجة الحرب السابقة في دارفور، يعانون نقصاً حاداً في الغذاء جراء توقف حصص الغذاء التي كان يقدمها برنامج الأغذية العالمي للنازحين.

لا يقتصر التأثير الاقتصادي السلبي للحرب على ارتفاع الأسعار ونقص السلع فحسب، بل يمتد أيضاً إلى مشكلة سعر صرف الجنيه السوداني الذي انخفض إلى أرقام قياسية حيث وصل سعر الدولار الأمريكي (135) ألف جنيه سوداني عوضا عن (600) جنيه قبل اندلاع القتال.

وتضاعفت أسعار بعض السلع الغذائية الرئيسية بأكثر من ثلاثة أضعاف؛ بسبب توقف سلاسل الإمداد وانخفاض قيمة الجنيه السوداني- بحسب أشار إليه أستاذ الاقتصاد في جامعة نيالا، محمود عبدالحميد.

ويقول عبدالحميد في مقابلة مع (عاين): إن “الانهيار الملحوظ للعملة الوطنية، يعني ارتفاعاً جنونياً في أسعار كثير من السلع الاستهلاكية في وقت يعاني السوق من قلة المعروض المتوفر وقلة السيولة”.

سوق لبيع الذرة بدارفور

ولفت محمود، يحتاج المواطن في دارفور إلى الكثير من السلع التي ظلت شحيحة أو غائبة عن الأسواق، من دقيق الخبز والذرة، والسكر، والزيوت وجميع مستلزمات المائدة الرمضانية، وأصبح الحصول عليها أمراً عسيراً، وفي حال الحصول عليه يجدها بأسعار عالية فوق مقدرته المادية، ومن ثم لا يشتريها.

وأضاف عبدالحميد: “في الوقت السابق كانت تقوم نقابات واتحادات العمال بتوفير السلع عن طريق الأقساط لأعضائها، وهذا لا يوجد هذا العام بسبب فقدان الوظائف وتوقف الأجور للمؤسسات العامة وتسريح عمال القطاع الخاص في كل ولايات دارفور”.

ويتوقع الخبير الاقتصادي د. هيثم محمد فتحي زيادة العبء على السودانيين في رمضان نتيجة التدهور الاقتصادي وارتفاع سعر الصرف الناجم عن المضاربات وما ألحقه من آثار على أسعار السلع الاستهلاكية، الأمر الذي يتطلب – وفق تقديره، من البنك المركزي تبني مزيد من القرارات والسياسات النقدية والمالية التي تصب في مصلحة المواطن، وتأخذ في الاعتبار ما تمر به البلاد.

ويشير فتحي في مقابلة مع (عاين) إلى أن 65 بالمئة من السودانيين بحاجة إلى مساعدات إنسانية، و8 ملايين منهم فقدوا مصادر دخلهم اليومي أو وظائفهم، كما توقفت 70 بالمئة من المستشفيات والمرافق الصحية، وانخفض رأس المال المستخدم في التعدين بنسبة 90 بالمئة، وارتفاع معدل الفقر إلى 65.6 بالمئة، بالإضافة إلى توقف شبه كامل للصادرات مع انخفاض الواردات إلى 30 بالمئة، وانخفض الناتج الحلي لنظام الأغذية الزراعية بنسبة 22 بالمئة، وهي مؤشرات تنعكس سلباً على معاش المواطنين.