“الأسرى”.. أزمة منسية في حرب السودان
عاين- 2 أكتوبر 2025
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ظل ملف الأسرى أحد أكثر الجوانب غموضًا وحساسية. فبينما تتواتر شهادات أهالي المفقودين بحثاً عن ذويهم في غياب أي معلومات رسمية، تقتصر البيانات على إعلانات متفرقة من طرفي النزاع.
التناقض بين معاناة الأسر في الميدان وشح المعلومات الرسمية يجعل من قضية الأسرى جرحاً مفتوحاً في الجبهة الإنسانية للحرب السودانية. وتقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر لـ(عاين) إنها سجلت نحو ثمانية آلاف طلب بحث عن مفقودين حتى ديسمبر من العام الماضي.
قالت زوجة أحد المحتجزين: «زوجي أُسر منذ الأسبوع الأول من الحرب، كان يسير في الشارع حين قبض عليه أفراد من الدعم السريع. منذ تلك اللحظة لم يعد إلى البيت، وكل محاولاتنا لمعرفة مكانه أو التواصل معه باءت بالفشل»
أفادت زوجة أسير: «ظللت أتنقل بين الجهات والمنظمات أسأل عن مصير زوجي، لكن لم أحصل على أي معلومة. حتى الأخبار التي كانت تخرج من الخرطوم حول الأسرى كانت متضاربة ومحدودة، وكأن الملف دُفن عمداً».
تشير شهادات ذوي الأسرة الذين تحدثوا لـ(عاين) إلى أن المحتجزين عانوا تدهور الظروف:«في البداية كانوا يحصلون على وجبتين وعلاجات بسيطة، لكن لاحقاً تراجع الوضع حتى صاروا يتلقون طعاماً لا يكفي ولا يصل أحياناً، وكانوا يُعاقبون بالحرمان من الأكل أو الماء».
من جهته أوضح المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان، عدنان حزام، أن المنظمة تتابع بشكل مكثف أوضاع المحتجزين على خلفية النزاع الدائر في البلاد، وذلك من خلال الحديث المباشر مع سلطات الاحتجاز. وأكد أن هذا العمل ينطلق من دافع إنساني بحت، يهدف إلى ضمان معاملة تحفظ كرامة المحتجزين وتمكينهم من التواصل مع أسرهم.
اللجنة الدولية للصليب الأحمر سجلت نحو ثمانية آلاف طلب بحث عن مفقودين في السودان
المتحدث باسم اللجنة لـ(عاين)
وأشار حزام في مقابلة مع (عاين) إلى وجود تواصل مستمر مع السلطات المعنية بغرض الحصول على الموافقات اللازمة للوصول إلى أماكن الاحتجاز، ولا سيما تلك التي تضم محتجزين بسبب الصراع.
حوار سري مع أطراف النزاع
ولفت حزام، إلى أن أسلوب عمل اللجنة الدولية للصليب الأحمر يقوم على تبني الحوار الثنائي السري مع سلطات الاحتجاز، سواء في السودان أو في غيره من مناطق نشاط اللجنة. وأضاف “أي ملاحظات أو تقارير تخرج عن زياراتنا تُناقش حصراً وبشكل مباشر مع السلطات المعنية. وحتى عندما نتحدث بعمومية، فإن التفاصيل تظل قيد النقاش الثنائي حفاظاً على سرية الحوار”.
وقال: إن “مثل هذا الحوار يسهم في بناء الثقة مع السلطات، كما يفتح الباب أمام تحسين ظروف المحتجزين وتسهيل تواصلهم مع أسرهم”.
وفي ما يتعلق بالشكاوى أو البلاغات التي تصدر من عائلات المحتجزين، أكد حزام أن اللجنة تتعامل معها بجدية تامة، وتناقشها مع السلطات المعنية ضمن إطار الحوار السري المباشر، مشدداً على أن الهدف من ذلك هو ضمان معالجة الادعاءات بشكل فعّال.

وتطرق المتحدث إلى آثار النزاع على العائلات السودانية، موضحاً أن الحرب تسببت في تشريد واسع النطاق داخل السودان وخارجه، بحثاً عن الأمان والملاذ. وأشار إلى أنه حتى ديسمبر من العام الماضي، سجلت اللجنة الدولية نحو ثمانية آلاف طلب بحث عن مفقودين. وقال إن “هذه ليست مجرد أرقام، بل مآسٍ إنسانية حقيقية تعانيها أسر لا تزال تبحث عن أحبائها منذ اندلاع الصراع”.
وأوضح أن أهداف اللجنة من زيارة أماكن الاحتجاز بشكل عام تتركز في ضمان معاملة المحتجزين بإنسانية، وتوفير الخدمات الصحية الأساسية لهم وفقاً لمعايير القانون الدولي الإنساني والقوانين الوطنية ذات الصلة. وأضاف أن حماية وصون كرامة المحتجزين يمثلان محوراً أساسياً في الحوار الذي تجريه اللجنة مع سلطات الاحتجاز.
سهلنا أكثر من 33 ألف اتصال بين أسر متفرقة داخل السودان
المتحدث باسم الصليب لـ(عاين)
كما أكد حزام، أن اللجنة الدولية تبذل جهوداً متواصلة لتسهيل تواصل الأسر التي شتتها الصراع، مشيراً إلى وجود صعوبات كبيرة ناجمة عن ضعف شبكات الاتصالات أو غياب التغطية. وقال إن اللجنة، بالتعاون مع الهلال الأحمر السوداني ومتطوعيه، ساهمت خلال النصف الأول من العام الجاري في تسهيل أكثر من 33 ألف اتصال بين أسر متفرقة داخل السودان.
وأشار إلى أن عمل اللجنة الدولية يمتد إلى حشد الجهود مع جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر في مختلف المناطق، عبر استقبال طلبات البحث عن المفقودين من خلال الخط الساخن الذي أطلق منذ بداية النزاع، دعماً للأسر التي ما تزال تبحث عن ذويها.
توصيف الحرب بالأهلية لا ينفى الإتزام بالقانون الدولي
المحامي والقانوني المعز حضرة يقول: أن “توصيف الحرب الدائرة في السودان، من الناحية القانونية، يقترب من إطار الحرب الأهلية كونها وقعت داخل إقليم واحد وبين أطراف سودانية. لكنه شدد على أن التكييف القانوني، أيًا كان، لا يلغي التزامات جميع الأطراف بإنفاذ القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق أسرى الحرب“.
وتستمر الحرب المندلعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023 في التسبب بكوارث إنسانية واسعة، حيث لم يقتصر أثرها في القتل والنزوح والدمار، بل امتد ليشمل ملف المحتجزين لدى الطرفين، وهو أحد أكثر الملفات تعقيداً وحساسية في هذا الصراع.
ويوضح حضرة في مقابلة مع (عاين)، أن هذه الالتزامات لا تقتصر على القانون الدولي الإنساني أو المعاهدات الدولية، بل تشمل القوانين السودانية الداخلية مثل القانون الجنائي، قانون الإجراءات الجنائية، وقانون القوات المسلحة. وأضاف: أن “السودان صادق على عدد من الاتفاقيات الدولية، أبرزها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عام 1986 بعد الانتفاضة، وهو ما جعل هذه الالتزامات جزءاً من المنظومة القانونية الوطنية”.

وبحسب حضرة، فإن حقوق “الأسير” في القانون تنقسم إلى عدة ضمانات أساسية، تشمل: الحق في الحياة والسلامة الجسدية، الحق في المعاملة الإنسانية دون أي تمييز، الحق في الاتصال بأسرته، والحق في محاكمة عادلة حال توجيه اتهام بارتكاب جريمة. وأكد حضرة، أن أي انتهاك لهذه الحقوق – مثل القتل خارج نطاق القانون أو التعذيب – يندرج تحت طائلة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم، ويُسأل عنها مرتكبوها أمام المحاكم الداخلية أو المحكمة الجنائية الدولية.
وأشار حضرة، إلى أن الجرائم الموثقة بالفيديوهات، مثل حالات بقر البطون وقطع الرؤوس، تدخل بشكل واضح ضمن جرائم الحرب. وأضاف “هناك جهات قانونية عديدة تعمل على توثيق هذه الانتهاكات، لكن الأهم هو الدور الذي تقوم به لجنة تقصي الحقائق التي شكّلها مجلس حقوق الإنسان في جنيف، والتي جُددت لها الولاية مؤخرًا. هذه اللجنة استمعت إلى شهود كثر في بعض دول الجوار بعد منعها من دخول السودان، ووثقت بالتعاون مع منظمات سودانية أعدادًا كبيرة من الجرائم”.
وفي ما يتعلق بالتوثيق، شدد حضر على ضرورة بناء قاعدة بيانات ضخمة تشمل جميع الشهادات والفيديوهات والوثائق المتعلقة بالانتهاكات، وذلك لمنع الإفلات من العقاب مستقبلاً.
هناك آليات عديدة الآليات لحمل الأطراف المتحاربة على الالتزام بالمعايير القانونية بشأن الأسرى
القانوني، معز حضرة لـ(عاين)
وحول الآليات المتاحة لإجبار الأطراف المتحاربة على الالتزام بالمعايير القانونية، أوضح حضرة أن هناك عدة مستويات: داخلياً، تنص القوانين السودانية صراحة على تجريم التعذيب وقتل الأسرى؛ ودوليًا، هناك قرارات مجلس الأمن، قرارات لجنة تقصي الحقائق بجنيف، آليات الأمم المتحدة المختلفة، إضافة إلى دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر. كما لفت إلى أن الاتحاد الأفريقي والمحكمة الجنائية الأفريقية يمكن أن يشكلا أيضًا أدوات إقليمية للضغط.
وفي الجانب الميداني، قال حضرة إن “الأسرى” الذين وقعوا في قبضة الأطراف المختلفة تعرضوا لانتهاكات جسيمة. فقد شهد سجن جبل سرقاب الذي يستخدمه الجيش حالات تعذيب ووفيات، كما رُصدت انتهاكات مشابهة في سجن سوبا الذي تديره قوات الدعم السريع. كذلك، سجّلت سجون الاستخبارات العسكرية في شمال السودان حالات تعذيب واعتقال تعسفي أدت إلى موت كثير من المحتجزين.
وأضاف حضرة أن هناك ما يُعرف بقانون “الوجوه الغريبة”، وهو قانون غير مكتوب، لكنه مطبق على أرض الواقع في المناطق الشمالية، ويستهدف الأشخاص المنتمين إلى دارفور أو كردفان، حيث يُقبض عليهم تلقائيًا بتهمة التعاون مع الدعم السريع.
وأشار إلى أن الانتهاكات لم تقتصر على الجيش، فالدعم السريع أيضًا ارتكب انتهاكات واسعة شملت اعتقال النساء والأسر وترحيلهم قسراً من الخرطوم إلى دارفور. وقال حضرة إن هذه الممارسات تمثل انتهاكات واضحة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
وأكد حضرة أن هذه الانتهاكات، بما تحمله من خطورة قانونية وإنسانية، تستوجب إنشاء منظومة توثيق قوية تضمن محاسبة مرتكبيها، سواء أمام القضاء السوداني أو عبر المحاكم الدولية، وذلك منعًا للإفلات من العقاب.
محتجزون وليس أسرى
وفي السياق نفسه تقول ليندا بوري، وهي محامية متخصصة في القانون الدولي الإنساني، إن مصطلح “أسرى الحرب” يطلق تحديداً على الجنود الذين يُحرمون من حريتهم في النزاعات المسلحة الدولية، لكنه لا ينطبق على حالة السودان لأن النزاع فيه غير دولي، مشيرة إلى أن “المصطلح الأدق هو المحتجزون”.
وأوضحت لـ(عاين)، أن الإطار القانوني الأساسي للاحتجاز في النزاعات غير الدولية يتمثل في المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، إضافة إلى البروتوكول الإضافي الثاني لعام 1977، إلى جانب قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقوانين الوطنية السودانية. لكنها لفتت إلى أن هذه النصوص “ليست مفصلة بشأن أسباب الاعتقال أو إجراءاته أو ظروفه، بخلاف ما ورد في اتفاقية جنيف الثالثة المخصصة بالكامل لأسرى الحرب في النزاعات الدولية.
قاعدة ثابتة: المعاملة الإنسانية
وأكدت ليندا أن القاعدة الجوهرية تبقى ثابتة “وجوب معاملة المحتجزين معاملة إنسانية، وحمايتهم من التعذيب وسوء المعاملة، وضمان حصولهم على الغذاء والماء الكافيين، والرعاية الصحية، وإبعادهم عن مناطق العمليات العسكرية، وتوفير محاكمات عادلة لهم”.
وأضافت أن القانون يميز بين فئتين من المحتجزين: من يُحتجزون بسبب جرائم جنائية ويخضعون للمحاكمة، ومن يُحتجزون لأسباب أمنية دون نية لملاحقتهم قضائياً. وأشارت إلى ضرورة وجود “صلة مباشرة بين النزاع المسلح وحرمان الفرد من حريته”، موضحة أنه يمكن أيضاً احتجاز أشخاص وفق القوانين الجنائية السودانية العادية في قضايا مثل السرقة.
وفي ما يتعلق بمصطلح “المعتقلين المدنيين”، أوضحت ليندا أنه إطار قانوني ينطبق فقط على النزاعات الدولية، حيث يمكن احتجاز المدنيين في ظروف استثنائية لأسباب أمنية، بينما لا ينطبق الأمر نفسه على النزاعات غير الدولية. أما مصطلح “المعتقلين السياسيين”، فأكدت أنه لا يرد في القانون الدولي الإنساني، لكنه قد يكون منصوصاً عليه في القوانين الداخلية، ومع ذلك “يظل هؤلاء الأشخاص مشمولين بالحق في المعاملة الإنسانية والحماية من التعذيب والاختفاء القسري وضمانات المحاكمة العادلة”.
جرائم حرب
وفي ردها على سؤال حول أشكال سوء المعاملة التي تُعد جرائم حرب إذا مورست ضد الأسرى، أكدت ليندا أن “كل أشكال التعذيب والإعدامات الميدانية والاختفاء القسري محظورة بموجب القانون الدولي الإنساني، وتُعتبر جرائم حرب، أما الاختفاء القسري، فيصنَّف أيضًا كجريمة ضد الإنسانية”. وأضافت أن المادتين 7 و8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نصتا بوضوح على اعتبار هذه الأفعال جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وعن طرق التوثيق والمعايير القانونية اللازمة لإثبات الانتهاكات، قالت ليندا: إن “هذه الجرائم من أصعب الانتهاكات توثيقاً؛ لأنها تُرتكب غالباً بعيداً عن الكاميرات، وفي أماكن احتجاز شديدة الحراسة”. وأوضحت أن اتفاقيات جنيف منحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر حق زيارة أماكن الاحتجاز ومراقبة ظروفه، لكن هذه المعلومات غالبًا “لا تُستخدم في المساءلة، وتبقى سرية بين اللجنة والسلطة المحتجزة”، مشيرة إلى أن دخول الصليب الأحمر “مرهون بموافقة الأطراف المتحاربة”.
وأضافت: أن “الانتهاكات غالباً ما تُكشف “من خلال روايات من تمكنوا من الخروج من الاعتقال، أو عبر أسر المعتقلين، أو من خلال تسريبات من الداخل”، مستشهدة بحالة الضابط السوري المنشق المعروف باسم “قيصر” الذي سرّب صوراً، وثّقت جرائم واسعة النطاق في مراكز الاعتقال السورية، واستُخدمت كأدلة في محاكمات استندت إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية.
وشددت ليندا على أن عملية التوثيق يجب أن تراعي المعايير الأخلاقية، مثل مبدأ “عدم إلحاق الضرر”، والحصول على موافقة الضحايا، وتجنب إعادة صدماتهم النفسية، والاكتفاء بجمع المعلومات الأساسية حول السياق والمسؤولية، “دون الخوض في مقابلات مطولة قد تسبب إعادة صدمة للناجين”.
وحول البدائل إلى جانب الملاحقات الدولية، أكدت ليندا أن المسؤولين عن الجرائم في أماكن الاحتجاز يمكن أن يُحاكموا حتى بعد سنوات طويلة، سواء عبر محاكم دولية أو إقليمية أو بموجب قضايا الولاية القضائية العالمية، إضافة إلى المحاكم الوطنية “رغم أن هذا الخيار ليس دائماً ممكناً في ظل غياب معايير المحاكمة العادلة”.
وأضافت: أن “العدالة الانتقالية يمكن أن تشمل المحاكمات الجنائية، أو لجان الحقيقة والمصالحة، أو العفو المشروط بالاعتراف بالجرائم، أو الحرمان من المناصب حالة التورط في انتهاكات حقوق الإنسان أو الفساد”.