تصفية وتعذيب الأسرى.. وجه أكثر قسوة لحرب السودان
عاين- 27 فبراير 2024
لم يكن تعامل طرفي حرب السودان مع الأسرى أحسن حالاً عن الفظائع والانتهاكات المتركبة، لكنها تمثل الوجه الأكثر قسوة للقتال المحتدم بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل الماضي، إذ وصلت الجرائم بحق هذه الفئة حد التصفيات الميدانية المباشرة والتعذيب والتنكيل.
انتهاكات لم تقتصر على طرف دون الآخر، فكل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع متورطان في تصفية وتعذيب وإذلال الأسرى وتصويرهم وإجبارهم على تقديم شهادات مصورة، في تجاوز صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني ومعاهدات وأخلاقيات الحروب المعروفة، وهي مسائل ترتقي لمستوى جرائم الحرب، وتستوجب محاسبة مرتكبيها في محاكم وطنية أو دولية، بحسب ما أجمع عليه حقوقيون وقانونيون-أستطلعتهم (عاين).
وتحمي أسرى الحرب اتفاقيات جنيف الأربع، والبروتوكولات الملحقة بها، إلى جانب اتفاقية مناهضة التعذيب وهي جزء من القانون الدولي الإنساني، والذي يحظر تصوير الأسرى بشكل يظهر وجوههم، ويمنع تعريضهم للتعذيب أو إجبارهم على القتال، أو احتجازهم في أماكن غير آمنة، وتشهد اشتباكات عسكرية، كما يمنحهم جملة حقوق، بينها تلقي الرعاية الطبية وإعطاء أجر على الأعمال التي يقوم بها وغيرها.
وطوال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب في السودان، وثقت مقاطع مصورة للعديد من الانتهاكات بحق الأسرى والذين ألقوا أسلحتهم، وكان لقوات الدعم السريع السبق في تصوير عشرات الأسرى من جنود سودانيين ومصريين في قاعدة مروي العسكرية في الأيام الأولى لاندلاع القتال، وبعدها عرضت كبار الضباط في الجيش وقعوها في أسرها خلال معارك عسكرية في بحري والخرطوم في فيديوهات مع إجبارهم على الإفشاء بمعلومات أمنية وشهادات ضد القوات المسلحة.
مع تطاول أمد الحرب واكتسابها الطابع الجهوي والإثني، أصبح التعامل مع الأسرى يتخذ أشكالاً أكثر فظاعة.
طريقة تعامل قوات الدعم السريع مع أسرى الجيش، والتي تعتمد نهج التصوير بالفيديو أصبحت محفوظة في الشارع السوداني، من خلال السؤال الثابت من عنصر الدعم السريع للأسير في أثناء عملية التصوير “المعاملة كيف؟”، وهي الجملة الأكثر رعباً، إذ يُجْبَر المعتقل على التحدث بشكل إيجابي عن المعاملة في الأسر، في حين تظهر الصور كدمات على جسده توحي بتعرضه للتعذيب.
أكثر فظاعة
مع تطاول أمد الحرب واكتسابها الطابع الجهوي والإثني، أصبح التعامل مع الأسرى يتخذ أشكالاً أكثر فظاعة، فمؤخراً تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور يظهر أفراد يرتدون زي الجيش السوداني، وهم يمثلون بجثامين يقولون إنها لمنسوبين لقوات الدعم السريع، بعد قتلهم وفصل رؤوسهم، وهي واقعة صدمت الشارع السوداني، وحصدت إدانات محلية ودولية واسعة بوصفها سلوكاً إرهابيا.
وتعليقاً على تلك الحادثة، قال الجيش السوداني في بيان صحفي وقتها: “على خلفية المحتوى الصادم لفيديوهات تُدُووِلَت، يعرض بها أفراد رأسين مقطوعين، توضح القوات المسلحة أنها تجري حاليا تحقيقا في الأمر، وسيُحَاسَب المتورطون إذا أثبتت نتائج التحقيق أنهم يتبعون لقواتنا. نحن ملتزمون بقوانين وأعراف الحرب وقواعد السلوك في أثناء العمليات الحربية”.
وبحسب مدير البرنامج القانوني في المركز الأفريقي لدراسات السلام والعدالة أمير سليمان، فإن دولة السودان محكومة باتفاقيات جنيف الأربع، والبروتوكولات الملحقة بها، وهي جزء من القانون الدولي الإنساني، والذي ينطبق في حالات النزاعات المسلحة سوء بين دول أو داخلية أهلية أو مدنية داخل، وما يجري في السودان نزاع أهلي محلي بين طرفين حكوميين.
ويقول سليمان في مقابلة مع (عاين): إن “القانون الدولي الإنساني يحدد كيفية التعامل مع الأسرى والمدنيين والأعيان المدنية، فهي تحرم إلزام المدنيين بالمشاركة في الحرب وتطلب حمايتهم، وأي انتهاكات بحقهم ينبغي أن يُحَاسَب الأشخاص الذين ارتكبوها، فالأسرى يُتَعَامَل معهم وفق قواعد الحرب، بوضعهم في أماكن جيدة، ويُعَامَلُون بشكل إنساني، وعدم تعريضهم للتقتيل والتعذيب وغيرها من الانتهاكات، لكن للأسف يقوم طرفا حرب السودان بكل هذه الجرائم”.
طرفا الحرب مسؤولان بشكل مباشر عن الانتهاكات كلها بما فيها التي حدثت مع الأسرى.
أمير سليمان- قانوني
وبتطبيق اتفاقيات جنيف، وكل القواعد المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، فإن الطرفين مسؤولان بشكل مباشر عن الانتهاكات كلها بما فيها التي حدثت مع الأسرى، وينبغي محاكمتهما عليها، فذريعة أن ما تم تفلتات أو أحداث فردية لن تجدي، لأن المحاسبة ستكون رأسية من قادة الطرفين فوق سواء في الجيش أو قوات الدعم السريع، وفق الخبير القانوني أمير سليمان.
حرب بلا أخلاقيات
ويدفع أسرى الحرب فاتورة باهظة مع تصاعد العدائيات بين الجيش وقوات الدعم السريع وارتفاع وتيرة القتال على الأرض، وفي كل يوم يزداد الخطاب الإعلامي لطرفي الصراع في السودان عنفاً من الجانبين، بينما تتراجع فرص التهدئة بعد فشل مساعي دولية وإقليمية لتسوية سلمية للصراع المسلح بالبلاد.
ويشير الخبير الإعلامي، وزير الإعلام الأسبق في السودان، فيصل محمد صالح، إلى أن الحروب في العصور الحديثة لم تعد مسألة مفتوحة بلا حدود، إذ لها أخلاقيات وقواعد تحولت يحكمها القانون الدولي الإنساني، وظلت اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ زمن بعيد تدرب منسوبين من الجيش وقوات الدعم السريع على قواعد القانون الدولي الإنساني وضرورة الالتزام بها”.
ويقول صالح في مقابلة مع (عاين): “ورغم الدورات التدريبية الكثيفة التي تلقاها منسوبو الجيش وقوات الدعم السريع، إلا أن حرب السودان تعد الأسوأ على الصعيد العالمي، فهي بلا أخلاقيات تحكم المتقاتلين، إذ جرى انتهاك حقوق المدنيين والأسرى خاصة الدعم السريع فهو الأكثر تعرضاً للمواطنين في المناطق التي دخلها، وبالمقابل القصف بالطائرات على الأعيان المدنية من جانب الجيش، جميعها جرائم لا تسقط بالتقادم”.
الحرب الحالية في السودان تحمل طايع اثني وقبلي، فالتعامل السيئ مع الأسرى خاصة إذا تم على أساس اللون والعرق والإثنية ستترتب عليه عواقب على مستقبل العلاقات الإنسانية بين المجتمعات
فيصل محمد صالح- وزير إعلام سابق وكاتب صحفي
“ما يحدث مع الأسرى يعد أحد أسوأ انتهاكات حرب السودان، حيث يقوم طرفا الحرب بتصوير الأسرى واستنطاقهم أمام الكاميرات، إلى جانب تعذيبهم والإساءة إليهم وحرمانهم من الأكل والعلاج، ويظهرون بأشكال مزرية تؤكد أنهم تعرضوا لمعاملة سيئة، وذلك يخالف البروتوكولات والمعاهدات الدولية الخاصة بحماية الأسرى وهي بالطبع جرائم يحاكم عليها القانون الدولي والقوانين المحلية”. يضيف صالح.
وتابع: “رغم العقوبات التي يتضمنها القانون الدولي الإنساني، لكن طرفي الحرب في السودان يتعاملان كأنهما يجهلان بها، فهي عقوبات تسري على أي جندي خالف تلك القواعد، ولا تعترف بأي مبررات من شاكلة أن ما فعله كان إنفاذا لتعليمات القيادة”.
ويرى الخبير الإعلامي، أن “الحرب الحالية في السودان تحمل طايع اثني وقبلي، فالتعامل السيئ مع الأسرى خاصة إذا تم على أساس اللون والعرق والإثنية ستترتب عليه عواقب على مستقبل العلاقات الإنسانية بين المجتمعات والقبائل المختلفة في البلاد، لأنه لم يكن مجرد قتال بين فصلين ينتهي بتوقيع اتفاقية سلام، فهناك مرارات ستتشكل تجاه مكونات بعنها، وقد شاهدنا فيديوهات تحمل دلالات إثنية قبيحة، وسوف تترك آثاراً لفترة زمنية طويلة”.
وكانت قوات الدعم السريع، عرضت مقاطع مصورة لأشخاص قالت إنهم أسرى كانوا معتقلين في مقر سلاح المدرعات التابع للجيش السوداني وعليهم آثار الجوع والتعذيب، الأمر الذي نفاه الأخير بشدة وقتها.
من جهته، يندد عضو محامي الطوارئ (جمعية حقوقية)، محمد صلاح بناوي بالطريقة التي يتعامل بها طرفا الحرب في السودان مع الأسرى، والتي ينطوي عليها انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بما فيها التعذيب والقتل، وذلك من واقع الصور والفيديوهات التي تُبَثّ باستمرار على منصات التواصل الاجتماعي.
“من خلال هذه المشاهد، يتضح أن طرفي الحرب في السودان ينتهكان قواعد القانون الدولي الإنساني بشكل جسيم، إذ رأينا منسوبيين للقوات المسلحة يحتفلون بقطع رؤوس بعض أفراد من قوات الدعم السريع، وهذا شيء مرفوض تماماً ومجرّم وفقا للقانون الدولي الإنساني باعتباره عملا غير إنساني وغير أخلاقي البتة”. يقول بناوي في مقابلة مع (عاين).
وبين نفي تعذيب وقتل الأسرى من قبل طرفي الحرب في السودان، يقف الجيش على سجل أكثر قتامة في التعامل مع الأسرى وحمايتهم، فقبل سنوات قليلة ماضية فشلت القوات المسلحة في تقديم قائمة المعتقلين لديهم من منسوبي الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي كان تقود وساطة لتبادل الأسرى بين الطرفين وقتها.
الباحث في مركز الخاتم عدلان للاستنارة، أبو هريرة أحمد، يطالب بفتح تحقيق دولي في الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني بما في ذلك الجرائم بحق الأسرى، وهو شيء ربما يضع حداً لمثل هذه الجرائم مستقبلاً، إذ ارتكب الطرفين جرائم بشعة خلال الحرب الحالية.
ويرى أحمد خلال مقابلة مع (عاين) إن التمادي في تلك الانتهاكات يعود إلى الإفلات عن العقاب، فرموز النظام الإسلامي بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير، كانوا يوجهون جيوشهم عيانا بيانا بتصفية المدنيين والأسرى من خلال خطابات شهيرة لأحمد هارون فحواها “أكسح، أمسح، ما تجبوا حياً”، أيضاً أنس عمر عندما كان ولايتاً لشرق دارفور أمر بقتل الأسرى، وهو سلوك تاريخي ما تزال القوات المسلحة السودانية تتبعه.
طرق المحاسبة
وترتفع المطالب بضرورة محاسبة مرتكبي جرائم الحرب في السودان، وعدم تكرار التجارب التاريخية والتي يتم فيها تناسي الانتهاكات والعفو عن مقترفيها، فالمحاكمة تمثل مدخلاً رئيسياً لتفادي حدوث هذه الانتهاكات مستقبلاً.
عدة خيارات لمحاكمة مرتكبي تلك الانتهاكات، بينها محاكم وطنية، أو تشكيل محاكم مختلطة.
أمير سليمان- قانوني
ووفق مدير البرنامج القانوني بالمركز الأفريقي لدراسات السلام والعدالة، أمير سليمان فهناك عدة خيارات بمحاكمة مرتكبي تلك الانتهاكات، بينها محاكم وطنية، أو تشكيل محاكم مختلطة من قضاة سودانيين وأجانب وهي بحاجة إلى مصادر تمويل وغيرها، بجانب المحكمة الجنائية الدولية والتي بحوزتها ملف جرائم الحرب في إقليم دارفور، والذي من المفترض أن يحاسب فيه الرئيس السابق عمر البشير وأفراد نظامه المتهمين معه.
ويتطلب نظر محكمة الجنايات الدولية في انتهاكات حرب السودان الحالية بما في ذلك التي حدثت بحق الأسرى- حسب سليمان- تفويض جديد من مجلس الأمن الدولي، نسبة لأن السودان غير مصادق على نظام “روما”، لتقوم بتحقيق شامل كامل يتم من خلال توجيه التهم للأشخاص المتورطين ومحاسبتهم، كما يوجد خيار ثالث وهو تكوين، محكمة خاصة مثلما حدث مع جرائم الحرب في يوغسلافيا ورواندا وغيرها.
(حتى لا تستمر مسألة عفا الله عما سلف).. هناك ضرورة لتشكيل محكمة دولية خاصة لجرائم الحرب في السودان.
فيصل محمد صالح- وزير إعلام سابق وكاتب صحفي
ويقول في مقابلة مع (عاين): “للأسف الصراع في السودان ممتد، لذلك لن يجد خيار واحد للمحاكمة، فالمحكمة الجنائية الدولية تعتبر مهمة لمحاكمة القادة، أما القيادات الوسطى يمكن أن يحاسبوا في محاكم مختلطة أو خاصة، أما الجرائم العادية، فمن المفترض أن تشكل لها محاكم وطنية مستقلة تتم فيها المحاكمات لكل الانتهاكات التي تمت بما فيها النهب والجرائم الأقل خطورة”.
ويضيف: “الإفلات من العقاب هو إحدى المسائل التي تؤدي إلى إعادة انتشار النزاعات وتكرارها، وللأسف قامت حروب كثيرة في السودان، ولم يُحَاسَب الأشخاص الذين ارتكبوا الانتهاكات، لذلك تتجدد في كل مرة بفنيات وأشكال جديدة والضحية في نهاية المطاف البلاد والمواطنين”.
لكن وزير الإعلام الأسبق فيصل محمد صالح، يرى أن إجراءات المحكمة الجنائية الدولية تمضي ببطء، لذلك ينبغي تشكيل محكمة دولية خاصة لجرائم الحرب في السودان فهي الأجدى، لكن يجب ألا نستمر في مسألة “عفا الله عما سلف” إذ تترتب عليها جرائم أفظع في المستقبل من واقع التجربة.