صحافيُّو السودان.. دماء لا تجف
30 يوليو 2022
“بينما كنت أجلس بمقاعد الانتظار داخل قسم الشرطة بالخرطوم، جاءوا برجلٍ غامضٍ لا يكف عن تدخين لفائف التبغ مُطلقاً، الواحدة تلو الأخرى، لأكثر من ساعتين لم يتوقّف خلالها إلا بمقدار ما يطفئ السيجارة ويشعل أخرى”.
“أحد أفراد الشرطة الذين تناوبوا على تفتيش حقيبتي وبعثرة مُحتوياتها، فعل هذا وأوعز لهذا الرجل للجلوس بالقرب مني والتدخين بشراهةٍ بعد أن رأى بخاخاً استخدمه للتداوي من مرض الأزمة بين مُحتويات حقيبتي، هم كانوا يرون ذلك مُحاولة للضغط عليّ لاعترف بجريمة لم ارتكبها. الرجل الغامض أيضاً كان يُحاول إرسال رسائل لي تحت ستار إسداء النصح بأنّ الإنكار لا يفيد، لأنّ هؤلاء الناس يعلمون مَن أكون والجهات التي تقف خلفي”.
“لم أعر حديثه اهتماماً وطفقت في استخدام البخّاخ الذي لم يُفارق يدي من حين لآخر كلما أحسست بالضيق”.
هذه المشاهد ترويها الصحافية بصحيفة الجريدة مآب الميرغني لـ(عاين)، بعد اعتقالها لساعات يوم الاثنين 30 مارس 2022. وتقول مآب أنّها ذهبت إلى وسط الخرطوم لتغطية عمليات إزالة تقوم بها السُّلطات المحلية بحكومة الخرطوم ضد الباعة الجائلين الذي يُعرفون محلياً بـ”الفرِّيشة”.
مآب كانت تدرك أن الأوضاع ليست على ما يرام، وأن التغطية محفوفة بالمخاطر، لذلك “حرصت على التقاط الصور بكاميرا هاتفها النقّال خفية من خلف مقاعد مركبات ميني بص حافلات متوقفة ريثما يستقلها الركاب إلى مقاصدهم”.
ومنذ استيلاء الجيش السوداني على السلطة في 25 أكتوبر 2021 شهدت الصحافة بالسودان، استهدافاً مُمنهجاً لخنق حرية التعبير وعرقلة انسياب المعلومات وقطع الطريق أمام توثيق الجرائم التي ترتكبها السُّلطة بحق المُتظاهرين المناوئين للانقلاب العسكري.
فوهة مسدس
بينما كانت تتأهّب لالتقاط صور أخيرة، شعرت مآب بفوهة مسدس باردة تلامس رقبتها مع صوت أجش يقول بلهجة آمرة: “ثابت.. معاكِ الأمن”.
تقول مآب: اقتادوني إلى قسم شرطة الأوسط حوالي الساعة التاسعة صباحاً، وأُخضعت لتحقيق طويل امتد لنحو عشر ساعات رغم علمهم بهويتي الصحفية، لكن ذلك لم يُحرِّك فيهم ساكناً، بل على العكس تماماً ازدادوا شراسةً، فتّشوا حقيبتي وبعثروا مُحتوياتها أكثر من مرة، كما فتّشوا هاتفي المحمول في انتهاكٍ سافرٍ لخُصوصيتي وفرضوا عليّ عزلة كاملة، ومنعوني من إجراء أو استقبال أي اتصال هاتفي، رغم طلبي المتكرر، واتّهموني بتصوير انتهاكات سابقة للشرطة ضد المُتظاهرين من خلف نوافذ البناية التي أقطنها بوسط الخرطوم.
في الزنزانة
عند الساعة السادسة والنصف مساءً، اقتادوني مرةً أخرى إلى قسم شرطة الخرطوم شمال ليتم إيداعي الزنزانة. وقتها سمحوا لي بإجراء اتصال واحد فقط، وبالفعل أجريت اتصالاً، وخفّ الزملاء إلى القسم وتم الإفراج عني بعد ساعتين عقب تدوين بلاغ كيدي ضدي بتهمة إزعاج السُّلطات.
ضُغُوط الجيش
في 19 مايو 2022، احتجزت السُّلطات الصحفي طه مدثر كاتب زاوية “ما وراء الكلمات” بصحيفة “الجريدة” لانتقاده بيع الجيش المياه للمُواطنين في مدينة القضارف شرقي السوداني والتي تواجه ازمة في مياه الشرب منذ وقت، وطلب قائد الفرقة الثانية مشاة بالقضارف اللواء حيدر الطريفي من طه كشف مصادره، لكنه رفض بشدة.
طه مدثر الذي يُواجه تهمة إشانة السُّمعة قال لـ(عاين)، إنّ ثلاث عربات دفع رباعي “تاتشرات” طوّقت منزله بولاية القضارف واقتادته جبراً إلى مقر نيابة المعلوماتية للتحقيق الذي امتدّ لساعات قبل إطلاق سراحه بالضمان.
ويضيف طه: “ما وراء الكلمات كتب في “الجريدة” ونُشر، وبالتالي المقاضاة يجب أن تكون في محكمة الصحافة وليس المعلوماتية، وحتى الآن انعقدت ثلاث جلسات ظهر والي القضارف المكلف الجلسة الثانية للإدلاء بشهادته ضدي”.
حملة شعواء
في 16 يونيو الماضي، شنّت السُّلطات حملة شعواء ضد الصَّحفيين، حيث اقتاد أفراد من شرطة المباحث والتحقيقات الجنائية، الصّحفيّة هنادي عثمان، قسراً تحت التهديد. بعد قطع الطريق أمام سيارتها التي قاموا بتفتيشها بطريقةٍ مُذلةٍ بعد طلبهم منها الترجُّل عنها كما أبلغت.
“أُخضعت لتحقيقٍ طويلٍ امتدّ لساعات بحجة دعم المتظاهرين السلميين وتوزيع أموال عليهم أثناء المواكب، قبل إطلاق سراحها فجر اليوم التالي”. تقول هنادي لـ(عاين).
في ذات اليوم، استدعت النيابة العامة، الصّحفيّة بجريدة “السوداني الدولية” شيرين أبو بكر، على خلفية خبر عن اتّجاه لتنفيذ إضراب بالنيابة العامة.
الصّحفيّة شيرين أُخضعت للتحقيق بواسطة ثلاثة وكلاء نيابة، وواجهت ضغوطاً شديدة للكشف عن مصادر معلوماتها داخل النيابة، لكنها رفضت وتمسّكت بحُقُوقها القانونية والدستورية التي تكفل لها حماية مصادرها وعدم الكشف عنها.
وفي شمال دارفور، تعرّضت الصّحفيّة زمزم خاطر للتهديد من مدير شرطة ولاية شمال دارفور اللواء نصر الدين صالح أثناء مؤتمر صحفي لوالي شمال دارفور نمر عبد الرحمن الخميس 16 يونيو.
مدير الشرطة هناك، توعّد الصّحفيّة زمزم خاطر على خلفية خبر عن ضبط أفراد شرطة مكافحة المُخدّرات تورّطوا بنهب مُواطنين في الولاية.
أيضاً تم اعتقال الصحفي بموقع دارفور 24، محمد صالح البشر من قِبل شرطة ولاية شرق دارفور، بعد نشر خبر عن صراع بين المعاليا والرزيقات.
استهدافٌ مُمنهجٌ
شبكة الصحفيين السودانيين- تنظيم مهني معني بالدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة- رصدت ارتفاع مُعدّلات التنكيل والبطش والتهديد والضرب الوحشي والسحل الانتقامي والاعتقالات والاستدعاءات واقتحام المقرات وتهشيم المُعدات والإساءات اللفظية البذيئة بحق الصَّحفيين والإعلاميين والمُصوِّرين بالسودان.
“سلسلة الانتهاكات المُستمرّة، جعلت الصحافة بالسودان مهنة محفوفة بالمخاطر “يقول عضو سكرتارية شبكة الصحفيين السودانيين محمد الفاتح يوسف لـ(عاين) ويضيف:”عقب وقوع انقلاب 25 أكتوبر، كان الهجوم على الصحافة أول شيء حدث وتم قطع خدمة الإنترنت والاتصالات الهاتفية، كما اُعتقل عددٌ من الصحفيين من منازلهم”. ويتابع “الانتهاكات البشعة على حرية الصحافة بدأت مُتدرِّجة بقطع الإنترنت والاعتقال حتى بلغت الاعتداء المُباشر أثناء تغطية التظاهرات”.
ضَرب الصَّحفيين
يشير يوسف إلى الصَّحفيون تحت حكم البشير كانوا يتعاملون مع انتهاكات بعينها كمصادرة الصحف وسحب التراخيص والحرمان من الكتابة، لكن حالياً توسّعت دائرة الانتهاكات لتشمل الاعتداء الجسدي، وهناك أكثر من عشرة صحفيين تم الاعتداء عليهم جسدياً مثل الصحفي علي فارساب الذي نجا من القتل ضرباً وسحلاً وتعذيباً في تظاهرات 17 نوفمبر 2021 بالخرطوم بحري، والصحفي حمد سليمان الذي أُصيب بالرصاص الحي في تظاهرات 13 نوفمبر 2021 بأم درمان والجلد بالسياط على صحفيين آخرين.
ورصد تقريرٌ لشبكة الصحفيين السودانيين، الاعتداء على 14 مُصوِّراً صحفياً وتهشيم معدات البعض منهم من قِبل القوات الأمنية والشرطة. واقتحام المقرات الصحفية والإعلامية كما حدث لمقرات قنوات “العربية” و”الحدث” و”العربي” و”سكاي نيوز عربية” بالخرطوم.
انتهاك جديد
“انتهاكٌ واستهدافٌ جديدٌ لم يكن شائعاً من قبل ومن خلال الرصد والتحليل نُؤكِّد أنّ الاستهداف الذي يتم ضد الصَّحفيين والإعلاميين والمُصوِّرين استهدافٌ ممنهجٌ ومُخطّطٌ له وليس مصادفة أو خبط عشواء أو سلوك قوات مُنفلتة أثناء فض التظاهرات كما تحتج السلطة دائماً عندما تُواجه بجرائمها ضد حرية الصحافة وحرية التعبير”. يقول عضو شبكة الصحفيين.
ويشير إلى انه في السابق كان جهاز الأمن والمخابرات العدو الأساسي للصحافة، حالياً ظهر عدوٌ جديدٌ يتمثل في الاستخبارات العسكرية وأصبحت الاستخبارات العسكرية تتصدّر واجهة الأجهزة القامعة لحرية الصحافة وتستدعي وتحقِّق وتهدِّد الصحفيين بوسائل مختلفة. ورصدنا أيضاً أن الشرطة كانت أكثر الأجهزة الرسمية اعتداءً على الصَّحفيين.
خطوطٌ حمراء
هناك انتهاكاتٌ مستحدثة- كما يؤكد يوسف- تمثلت بقطع البث الإذاعي، فمنذ الساعات الأولى لوقوع الانقلاب، سارعت السُّلطات العسكرية لتعطيل جميع المحطات الإذاعية التي تبث برامجها على الموجات القصيرة FM بالتزامن مع قطع الاتصالات الهاتفية وخدمة الإنترنت. ورصدت الشبكة قطع بث أكثر من (33) إذاعة FM، وعندما حاولوا العودة تم ذلك بعد إجبارهم بواسطة الإعلام العسكري على توقيع شروط سُميت بـ”الخطوط الحمراء” وعلى رأس تلك الخطوط الحمراء عدم تسمية ما حدث في 25 أكتوبر بـ”الانقلاب العسكري”. كما خاطب مجلس الصحافة والمطبوعات، صحيفة “الجريدة” وطالبها بالتوقف عن وصف السُّلطة الحالية بـ”السُّلطة الانقلابية”.
ينهي يوسف حديثه قائلا: حالياً الوضع سيئٌ للغاية، والصحفيين أصبحوا لا يميلون لكشف هوياتهم أثناء تغطية التظاهرات لأنهم يتعرّضون للبطش والتعذيب أكثر من قِبل الشرطة والأجهزة الأمنية والعسكرية، ما يجعلنا نُؤكِّد كما قلنا بوجود استهداف ممنهج لحرية الصحافة.
الصحفي علي فارساب الذي تعرض للاعتداء والضرب اثناء تغطيته لاحتجاجات ضد الانقلاب في مدينة بحري، يُؤكِّد ما قاله محمد الفاتح يوسف قائلاً لـ(عاين): معرفتهم بهويتي الصحفية زادت من شراستهم ووحشيتهم واستهدافهم لي، وصاروا يسألون أين الصحفي؟ وعندما يشيرون نحوي، يكيلون لي الضرب حتى أشبعوني لكماً وصفعاً وركلاً، وسفهاً بالإهانات اللفظية البذيئة. وقتها رأيت الموت وكنت أقرب منه إلى الحياة في أي لحظة كان يمكنهم إطلاق النار عليّ وإلقائي في قارعة الطريق كما قال لي أحد أفراد الشرطة يومها.