أعداء وجواسيس.. الصحافة (جريمة) بمناطق سيطرة الدعم السريع
عاين- 17 سبتمبر 2025
“من الأفضل أن تُقدم نفسك كشخص مجرم ومعترف بقتل 20 شخصاً في الحال، أهون من أن تكشف هويتك كصحفي، لأن ذلك سيؤدي إلى قتلك أو اعتقالك والتنكيل بك”، بهذه الكلمات لخص صحفي ناجي، واقع قاسي يعيشه الصحفيون في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في إقليمي كردفان ودارفور غربي السودان.
ويقول الصحفي الذي تمكن من الهروب إلى إحدى دول الجوار لـ(عاين)، بعدما طلب حجب اسمه خشية على سلامة أسرته العالقة في منطقة خطر: “لا توجد صحافة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، فهي جريمة كبرى تقود إلى القتل والسلب، فالمسلحون لديهم حساسية عالية تجاه الصحفيين، ويعتبرونهم أعداء وجواسيس”.
وعندما تكتشف قوات الدعم السريع هوية صحفي يقيم في مناطق سيطرتها، تخيره بين العمل لصالحها والانخراط في غرف الدعاية الحربية التابعة لها، أو الاعتقال والمنع من ممارسة أي نشاط صحفي أو إعلامي، مع وضعه تحت الرقابة والترصد المستمر، وفق شاهدة الصحفي الناجي.
الصحافة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع جريمة تقود إلى الموت
صحفي غادر مناطق سيطرة الدعم السريع
ونتيجة للتضييق الأمني الواسع، اضطر بعض الصحفيين إلى مغادرة المدن الرئيسية الخاضعة إلى سيطرة قوات الدعم السريع في كردفان ودارفور والتوجه إلى القرى والمناطق النائية والعمل في مجال الزراعة والتنقيب عن الذهب والتجارة، بعد التخلي نهائياً عن مهنة الصحافة، أما الذين ما زالوا باقين في المدن حيث يتواجد المسلحون بكثافة، أجبروا على التماهي مع الدعاية الحربية للدعم السريع، وفق شهادات جمعها مراسل (عاين).
تغييب الصحافة
ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م، كان الصحفيون السودانيون هدفاً لأطراف الصراع، إذ قتل 31 صحفياً وإعلاميا برصاص الجيش وقوات الدعم السريع في مختلف أنحاء البلاد، وفق تقرير لنقابة الصحفيين السودانيين، نُشر في 3 مايو الماضي.
ووثقت النقابة لعدد 556 حالة انتهاك بحق الصحفيين والصحفيات في السودان، ارتكبتها أطراف الصراع الرئيسية، الجيش وقوات الدعم السريع، واضطر أكثر من 500 صحفي وصحفية إلى مغادرة البلاد، وهم في ظروف قانونية ومعيشية سيئة، بحسب تقرير النقابة.
وتستمر الانتهاكات بحق الصحفيين في مختلف أنحاء البلاد، إلا أن الأوضاع في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع وصلت إلى تغييب تام للصحافة والصحفيين المستقلين.

ويروي صحفي خرج مؤخرا من مناطق سيطرة قوات الدعم السريع لـ(عاين) أن المواطنين العاديين يخضعون إلى مراقبة شديدة في منصات التواصل الاجتماعي، وحال كتب أحداً منشور يعارض خط قوات الدعم السريع يتم اعتقاله وتعذيبه وربما يقتل، هذا يحدث مع المواطنين، بينما الواقع أصعب مع الصحفيين المحترفين.
ويقول:”كانوا يتساهلون قليلا مع الصحفيين، لكن تغيرت الأوضاع منذ فرض عقوبات أمريكية على قائد ثاني قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، وأصبحوا أكثر تشددا، وفتحوا حرب على جميع الصحفيين والإعلاميين؛ لأنهم يعتقدون أن العقوبات كانت نتيجة لما يُنْشَر من أخبار وتقارير تتعلق بالانتهاكات، ومنعوا حتى الصحفيين الأجانب الذين سمحوا لهم في السابق بدخول دارفور”.
صحفي آخر موجود في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، قال لـ(عاين): إنه “اضطر للتخلي نهائياً عن مهنة الصحافة خوفاً على سلامته وسلامة أسرته، وقد رفض العديد من العروض من مؤسسات إعلامية مرموقة للعمل كمراسل لصالحها، نسبة للمخاطر العالية، إذ يفرض مسلحو الدعم السريع رقابة شديدة على جميع الأشخاص، ويستطيعون اكتشاف الصحفي بسهولة من واقع المعلومات والانتهاكات المنشورة”.
ويضيف: “تصل الرقابة إلى حد التفتيش المستمر للأمتعة الشخصية، والهواتف النقالة في مجالات الاتصال الفضائي بالإنترنت في الأسواق والمقاهي، ولديهم تقنيات لاسترجاع المراسلات والصور المحذوفة، لذلك قررت الابتعاد نهائياً عن العمل الصحفي نتيجة للمخاطر العالية، وتوجهت إلى قرية نائية، وعملت في مجال التجارة، وهي تؤمن لي مصدر كسب مالي متواضع ربما يعينني على البقاء إلى حين انجلاء الأوضاع”.
ملاحقات مستمرة
شهادة أخرى من صحفي يقيم في إحدى المدن الخاضعة إلى سيطرة قوات الدعم السريع، تكشف وجهاً من معاناة الصحفيين، حتى وهم بلا عمل يلاحقهم المسلحون في منازلهم والأماكن العامة باستمرار لمعرفة ما يقومون به.
ويقول لـ(عاين) بعدما طلب عدم ذكر اسمه بسبب المخاطر الأمنية: “توقفت عن العمل بشكل قسري للحفاظ على حياتي ومع ذلك قوات الدعم السريع لا تتركني، فأصبحت مضطراً للتماهي مع دعايتهم الحربية، وكتابة منشورات ومداخلات في وسائل التواصل الاجتماعي تدعم الخط الإعلامي للدعم السريع، حتى نتمكن من العيش بقدر من الأمان وسطهم”.
ويضيف: “لدى قوات الدعم السريع غرفاً لرصد كل ما ينشر في منصات التواصل الاجتماعي، ويستطيعون تحديد هوية الأشخاص الذين ينشرون ضد خطهم الإعلامي والقبض عليهم. وعلى الدوام يمارسون علميات ترغيب لكل صحفي بأن يعمل لصالحهم في المنصات الرقمية الخاصة بهم بمقابل مالي كبير، البعض انخرط معهم عن قناعة، وآخرين اضطروا للتماهي معهم خشية على سلامتهم”.
نحو 5 صحفيين قتلوا داخل معتقلات قوات الدعم السريع في السودان، والصحفيين لا يستطيعون العمل بسبب المخاطر الواسعة عليهم
مسؤول بنقابة الصحفيين السودانيين
من جهتها، تقول سكرتير الحريات في نقابة الصحفيين السودانيين، إيمان فضل السيد: إن “الصحفيين في مناطق سيطرة الدعم السريع في الخرطوم وكردفان ودارفور لم يكونوا قادرين على العمل منذ اندلاع الحرب، ومن استطاع الكتابة يكون متماهي، ولو بشكل صوري مع تلك القوات”.
وتشير إلى أن الصحفيين الذين ينشرون مواد صحفية بلا أسماء، تستطيع قوات الدعم السريع التعرف على هوياتهم من خلال شبكات ومجموعات تتبع خاصة بها، كما يمكنها ذلك من خلال محلات الإنترنت الفضائي، وهي أكبر شرك منصوب لكشف هويات الأشخاص المقيمين في مناطق سيطرة الدعم السريع والنشاط الذي يقومون به.
استهداف ممنهج
وتضيف إيمان فضل السيد: “النقابة رصدت هجمات على صحفيين في منازلهم ومصادرة أدوات عملهم، وظلت تتابع كل التهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون في كل مناطق سيطرة الجيش والدعم السريع، هناك نحو 5 صحفيين قتلوا داخل معتقلات قوات الدعم السريع التي لديها حساسية بشكل خاص على الصحفيين الذين يعملون في مؤسسات صحفية مملوكة للدولة بغض النظر عن مواقفهم”.
وتابعت: “هناك استهداف ممنهج من قبل أطراف الحرب للصحفيين في السودان شملت الاعتقال، والتعذيب والقتل، بهدف حجب الحقيقة، والتغطية على الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها بحق المدنيين، مع عملهم المستمر على استقطاب الصحفيين للعمل لصالحهم، فقد غاب الإعلام المستقل المحايد للعمل من داخل السودان”.
ومع تضاؤل خيارات البقاء والتضييق واسع النطاق الذي يتعرضون له، اضطر أكثر من 500 صحفي مغادرة السودان إلى دول الجوار، أوغندا وكينيا ومصر، وليبيا، وبعض دول الخليج العربي للبحث عن الأمان، لكنهم اصطدموا بواقع معيشي وقانوني سيئ، وفق نقابة الصحفيين السودانيين.
ويقول رئيس رابطة الصحفيين السودانيين في أوغندا عز الدين أرباب، في مقابلة مع (عاين): إن “الرابطة استمعت إلى شهادات مروعة من صحفيين وصلوا من السودان، حيث تعرضوا إلى انتهاكات واسعة من أطراف الصراع، الجيش وقوات الدعم السريع، مما يكشف أن وتيرة الاعتداء على الصحافة في تزايد مستمر، وهو أمر مثير للقلق”.
ويشير أرباب، إلى أن اللجوء إلى خارج السودان تصاحبه مصاعب كبيرة خاصة في ما يتصل بالمعيشة؛ لأن معظم الصحفيين الفارين فقدوا مصادر كسبهم المالي، وأغلقت المؤسسات الإعلامية التي كانوا يعملون لصالحها، مما يطلب على الجهات المعنية بحرية الصحافة مساندة الصحفيين السودانيين للخروج من الأوضاع التي يتعرضون لها.
من جهته، يقول عضو سكرتارية شبكة الصحفيين السودانيين، خالد أحمد، إن الصحفيين في كل أنحاء السودان يعيشون أوضاعاً صعبة وظروف إنسانية وأمنية معقدة، ويتم استهدافهم من قبل أطراف الصراع، الجيش والقوة المشتركة وقوات الدعم السريع، فجميع الأطراف يسعون إلى خلق حالة من الظلام الإعلامي.
وضع أسوأ
وشدد خالد أحمد في مقابلة مع (عاين) أن أطراف الحرب أصبحوا يملكون آليات إعلامية قوية وممولة بشكل كبيرة، وتمكنت من استقطاب بعض الصحفيين للعمل في نشر الدعاية الحربية والأخبار المضللة في وسائل التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية.
ويضيف: “لكن أوضاع الصحفيين في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في دارفور وكردفان، فهي الأسوأ على مستوى البلاد والعالم، لا سيما الصحفيون المحاصرون داخل مدنية الفاشر فهم يعانون الجوع، وحياة مهددة في كل لحظة؛ بسبب عمليات القصف العشوائي الذي تنفذه قوات الدعم السريع على المنازل والمناطق المدنية”.
وتابع: “كذلك اعتقلت القوة المشتركة في وقت سابق عدد من الصحفيين في الفاشر بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وأطلق سراحهم لاحقاً”.
وأردف: “الصحفيون في أوضاع لا تمكنهم من العمل نسبة لطبيعة قوات الدعم السريع وهي أقرب للمليشيات وجميع السودانيين شهدوا على انتهاكاتها بحق المدنيين، فهم لا يعرفون لغة الحرية أو الصحافة ورسالتها، وأن يكون الصحفي في مناطق سيطرتها محايداً أو مهنياً، حتى الناشطين الإعلاميين الموالين لهم يعتقلونهم عندما يعارضون خط قوات الدعم السريع”.
وتابع أحمد: إن “على المجتمع الدولي أن لا يتجاهل أوضاع الصحفيين في السودان وهم يتعرضون للقتل والتشريد، وعلى المنظمات الدولية المعنية بحماية الصحفيين، العمل على حماية الصحفيين في دارفور وكردفان وتوفير الموارد اللازمة لإجلائهم إلى مناطق آمنة لضمان حياتهم أولاً، قبل التفكير في استمرارهم في عملهم”.