“أفواه مُكَّممة”.. كيف تغتال حرب السودان أصوات الصحفيين؟
أُعد هذا التحقيق بواسطة شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وتنشره (عاين) في اطار التعاون المشترك.
عاين- 7 يناير 2023
يوثق التحقيق مئات الانتهاكات التي تعرض لها الصحفيون، على مدار ستة أشهر؛ أي منذ اندلاع الحرب بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في السودان. انتهاكات ممنهجة يمارسها طرفا النزاع في مخالفة للقانون الدولي، الذي يقضي بحماية المدنيين وحماية الصحفيين بصفتهم طرفاً محايداً غير مشارك في الحرب، مع التأخر في إقرار مشروع يحقق في جرائم الحرب.
اليوم: الـ 23 من شهر نيسان/أبريل 2023.
المكان: غرفة مظلمة يتسلل إليها الضوء من فتحات في الجدار.
أفاقت “منال علي” من الضربة التي تلقتها على رأسها وبدأت شيئا فشيئا باستعادة وعيها. ورغم حالة التشويش التي تشعر بها من تأثير الضربة؛ إلا أن “علي” ما زالت تتذكر آخر مشهد في ذلك اليوم، وهي في طريقها إلى المخبز بحي “الجنينة” بولاية غرب دارفور، عندما توقفت بالقرب منها سيارة تحمل رجالاً ملثمين، حينها سمعت صوتاً يناديها، ثم لا شيء.
“هذه نهايتي، هذه هي النهاية”، تردد “علي” هذه الكلمات، فيما تحاول أن تحتفظ بما تبقى لها من أمل في النجاة.
“منال علي”، صحفية مستقلة، وهي واحدة من بين أكثر من مئة صحفي وصحفية، تعرضوا لاعتقال وتعذيب وتهديد على يد طرفي الصراع في السودان، لا لشيء سوى لأنهم يحاولون نقل الواقع الذي يعيشه السودانيون. لم تبدأ القصة في الـ 15 من نيسان/ أبريل 2023، فبوادر الحرب كانت تلوح في الأفق. والجميع كان يترقب قدوم “ساعة الصفر”، ويأمل بعضهم أن يمر الأسبوع الأخير من شهر رمضان بسلام.
ظلام دامس: “ميت لا محالة”
في صباح السبت 15 نيسان/أبريل، دوّى صوت الاشتباكات في العاصمة الخرطوم، بين القوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ “حميدتي”؛ وهما شريكا السلطة في الحقبة التي تلت إسقاط حكومة البشير عبر ثورة شعبية، بدأت عام 2018 وامتدت لعام 2019. نفذ الجنرالان انقلاباً على الحكومة المدنية الانتقالية في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021؛ لينفردا بالسلطة لأكثر من 18 شهراً، قبل أن يتواجها في حرب مسلحة بدأت في الخرطوم، لتمتد لاحقاً لأقاليم الولاية الشمالية وولاية شمال كردفان وجنوب كردفان وإقليم دارفور، وكل من ولاية النيل الأزرق والقضارف، والجزيرة وغيرها.
وجد العشرات من الصحفيين والعاملين في المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية وسط الخرطوم، أنفسهم محتجزين بسبب الاشتباكات المسلحة. توجه رامي محمد (اسم مستعار) -وأكثر من 20 آخرين من بينهم صحفيون يعملون لدى إذاعة “هلا 96″، ووكالة “تانا فور ميديا” بالعمارة الكويتية- إلى مواقف السيارات “البدروم”، ومكثوا هناك 72 ساعة من دون مؤن غذائية تذكر. تمكنوا جميعاً من مغادرة المكان، بعد أن دخلت الهدنة الأولى حيز التنفيذ، بحسب محمد الذي ظن أنه ميت لا محالة.
الحرب تمتد لولايات أخرى
تقول “منال علي”: “كانت بيوت الصحفيين مستهدفة، لديهم قائمة بأسمائنا، وقوات الدعم السريع تبحث عنا بالاسم، دمروا بيتي بالكامل”. فقدت منال سبعة أفراد من أسرتها في اليوم الأول، من بينهم شقيقها.
بحكم عملها، تلقت “منال علي” بلاغات لحوادث اغتصاب وقعت في إقليم دارفور، من الجنينة تحديداً حيث تقيم. “كان هناك تسجيل لتسع حالات اغتصاب، وكنت أتواصل مع الضحايا قبل قطع الاتصالات”. تقول “علي” إنها تلقت اتصالاً هاتفياً هددها فيه المتحدث بالقتل، في حال نشرت أي تفاصيل عن حوادث الاغتصاب. إلا أن الكابوس الحقيقي بدأ في الـ 23 من نيسان/أبريل، بعد يوم من اندلاع الحرب في مدينتها الجنينة، حيث تعرضت “علي” لاختطاف من قبل ملثمين يرتدون زي قوات الدعم السريع. عندما أفاقت من الضربة التي تلقتها على رأسها، وجدت نفسها في غرفة مظلمة. تتذكر “علي” بعض الجمل التي علقت في ذاكرتها: “هذا ليس التوقيت المناسب لقتلك، قتلنا بعض أهلك، وسنقتلك قهراً برؤية بقية أهلك يُقتلون؛ حينها يصبح قتلك هيناً”. أمضت الصحفية المقيمة بمدينة الجنينة غربي السودان خمسة أيام في غرفة معزولة، مع التعذيب بالضرب المبرح، والتهديد بقتل وتصفية المزيد من أفراد عائلتها وأقاربها.
في الـ 27 من نيسان/أبريل 2023، انهالوا عليها ضرباً حتى فقدت الوعي، على حد قولها. في الليلة ذاتها، وُجدت “علي” بمنطقة قريبة من مكان اختطافها، ملقاة بالقرب من مسجد الحي، وفي حالة صحية حرجة. تمّ إسعافها ونقلت لاحقاً لمنزل عائلتها، لتبدأ بعدها رحلة الهروب من الحرب، حيث عبرت إلى الأراضي التشادية.
تكميم الأفواه
التهديد الذي تلقته “منال علي” على إثر تغطيتها لحوادث الاغتصاب، عاشه الصحفي “عيسى دفع الله” أثناء إعداده لتقرير إخباري عن عمليات النهب التي تعرضت لها المحلات التجارية بنيالا.
في الـ 17 من أيّار/مايو، أثناء تصويره للمحال التجارية، اعترضته مجموعة تتبع قوات الدعم السريع، ومنعته من مواصلة التصوير، ثمّ سحبته إلى حي المطار، وفق روايته. يقول دفع الله: “طلبوا مني إبراز هويتي الصحفية، وأخذوني لحي المطار حيث تعرضت للضرب والركل وتمت مصادرة هاتفي”. يشير دفع الله إلى أن محاولات منع التغطية الصحفية للأحداث جاءت متزامنة مع المعركة في مدينة نيالا “معركة يوم القيامة”، بحسب وصفه. من جهة أخرى، لفت دفع الله إلى أن طرفي النزاع مارسا “تكميم الأفواه”، وأن الصحفيين لم يسلموا من اتهامات التبعية لأحد الأطراف المتحاربة.
الصحفية الإيطالية سارا كريتا، وصلت إلى الحدود السودانية الإثيوبية في السابع من أيّار/مايو؛ أي بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الاشتباكات. انتظرت سارا ساعات طويلة بمكتب الجوازات بمنطقة القلابات؛ ولم يسمح لها بالدخول رغم حصولها على تأشيرة.
تمّ احتجاز كريتا لدى دائرة الاستخبارات العسكرية بالمنطقة الحدودية لبضع ساعات، وطُلب منها العودة إلى حيث أتت. جددت الصحفية التي تعمل مع العديد من المحطات الدولية، من بينها الجزيرة والغارديان، محاولتها عبر طريق إقليم النيل الأزرق؛ ولكنّها مُنعت أيضاً من الوصول إلى الدمازين، وطُلب منها العودة. تقول سارا: “يقولون إنهم لا يمكنهم ضمان وجودي آمنة هناك، وأن أمراً يمنع دخول الأجانب حالياً، الوضع متقلب جداً، كنت أعتزم البقاء في منطقة ليس فيها قتال، استخدمت السلطتان الرد نفسه، شعرت أنهم يتذرعون بهذه الحجة الأمنية”.
انتهاكات بالجملة
رصدت نقابة الصحفيين منذ شهر نيسان/أبريل 2023 وحتى نهاية أيلول/سبتمبر من العام نفسه، العديد من الانتهاكات، تنوعت بين القتل والاحتجاز والإصابة والتهديد والتعدي على الممتلكات. يقول نقيب الصحفيين عبدالمنعم أبو إدريس، إن الصحفيين السودانيين هم جزء من المجتمع المدني، ومعاناتهم تتقاطع إلى حد كبير مع معاناة المدنيين، علاوة على تعرضهم للانتهاكات بسبب عملهم؛ يتمّ توقيفهم لمنعهم من ممارسة عملهم الصحفي. يقول أبو إدريس: “فقدنا اثنين من الصحفيين؛ زميلتنا سماهر قتلت في زالنجي بعد سقوط دانة على منزلها، وزميلنا عصام مرجان وجد مقتولاً في منزله في أم درمان، التي تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، دُفن داخل منزله ولم يتمّ حتى تشييعه للمقابر”. وذكر بيان للنقابة في 12 توفمبر اثنين آخرين هما، المصور الصحفي، عصام الحاج، والصحفية بتلفزيون سودان بكرة، حليمة إدريس.
وبحسب أبو إدريس، فإن الانتهاك لا يطال الصحفيين وحسب؛ بل يصل أهلهم وأقاربهم، مضيفاً أن أحد الصحفيين فقد زوجته وطفله. إلى جانب ذلك فقدت الصحفية اعتماد الميراوي والدتها واثنين من إخوتها.
ويشير أبو إدريس إلى أن غالبية المؤسسات الصحفية؛ الحكومية منها والخاصة، تعرضت للقصف وتوقفت عن العمل منذ بداية الحرب. ويُرجع نقيب الصحفيين سبب ذلك لوقوع تلك المؤسسات الصحفية بالقرب من مناطق الاشتباكات، مضيفاً أن أغلبها تعرض للاعتداء والنهب.
حتى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، سيطرت عليها قوات الدعم السريع منذ بداية الحرب، وحولتها ثكنة عسكرية.
طرفا النزاع يشاركان في الانتهاكات
في الـ 11 من أيّار/مايو 2023، وقعت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع إعلان جدة للالتزام بحماية المدنيين في السودان، برعاية حكومتي المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، ولكنّها لم تنجح في إيقاف الحرب بين الطرفين.
غياب بند يضمن حقوق الصحفيين عن الإعلان والانتهاكات التي تعرض لها الصحفيون والصحفيات، دفع ثماني عشرة مؤسسة وجسماً صحفياً لتوقيع بيان في منتصف آب/أغسطس، يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لحماية الصحفيين؛ داعياً طرفي النزاع لإيقاف الحرب وفتح ممرات إنسانية، وتمكين الصحفيين من تغطية الأحداث وتسهيل تنقلاتهم. ووفقاً للإعلان، تعرض الصحفيون والصحفيات لاعتداءات جسدية واعتقال تعسفي وإخفاء قسري، إضافة إلى تعرض الصحفيات بشكل خاص للعنف القائم على النوع الاجتماعي، كالاستغلال الجنسي.
شهادات الصحفيين الذين قابلناهم، وتحليل البيانات التي حصلنا عليها من نقابة الصحفيين، تؤكد أن القوات المسلحة والدعم السريع كلاهما مارس الضغط على الصحفيين.
غادر “علي طارق” -وهو صحفي يعمل بصحيفة الجريدة- الخرطوم مع تصاعد الاشتباكات، متوجهاً إلى مسقط رأسه بولاية سنار. وعمل من هناك عبر الموقع الإلكتروني للصحيفة. استُدعي لدي جهاز المخابرات العامة بتاريخ 16 آب/أغسطس، على إثر تقرير صحفي أعدّه حول أوضاع الفارين من الخرطوم إلى مدينة سنجة في ولاية سنار، والمضايقات التي يتعرض لها النازحون في مراكز الإيواء.
رفضت الجهات الأمنية الاتهامات التي تشير إلى عجز السلطات عن توفير بيئة ملائمة في مراكز الإيواء، مشيرين إلى أن ما ورد فيه لا أساس له من الصحة. أُودع زنزانة ولم يسمح لأسرته بالتواصل معه أو معرفة أي أخبار عنه.
لم يتمّ إطلاق سراحه إلا بعد أن دخل في إضراب عن الطعام في اليوم الرابع من احتجازه، وتمّ تحذيره من الكتابة في القضايا الإنسانية والمتعلقة بالنازحين، أو ذكر اسم مؤسسة جهاز المخابرات في أي كتابات صحفية مستقبلية، بحسب طارق.
حاولت قوات الدعم السريع والقوات المسلحة درء الاتهامات عن نفسيهما، كل عبر منصاته الإعلامية. وصل الأمر إلى أن قوات الدعم السريع اتهمت بشكل غير مباشر، القوات المسلحة بارتكاب جرائم، متنكرة بزي قوات الدعم.
حرب تصل مواقع التواصل الاجتماعي
زخّت منصات التواصل الاجتماعي بالأخبار التي روّج لها طرفا النزاع. وبطبيعة الحال، تناقل الصحفيون جزءاً من الصورة والمشهد، وظهرت قوائم تُصنّف الصحفيين بالانتماء إلى أحد طرفي النزاع؛ ما أدى إلى انتشار خطاب الكراهية ضد الصحفيين من جهات مجهولة، واتهامات متبادلة فيما بينهم على مواقع التواصل الاجتماعي. كما تعرضت الصحفيات إلى ابتزاز ومحاولات استغلال، لتمرير أجندة أنصار أطراف النزاع؛ بالترغيب تارة بالإغراءات المالية، والترهيب تارة أخرى بالتهديد بالملاحقة في حالات الرفض.
تعرضت هبة عبد العظيم، وهي صحفية مستقلة لتهديد من زميلها في مجموعة عبر تطبيق واتساب، تضم أكثر من سبعة وستين صحفياً أغلبهم من المراسلين، إثر نقاش دار في المجموعة حول من بدأ الحرب. تقول عبد العظيم: “في البداية اعتبرت التهديد عادياً، ولكن ما أخافني حقاً أن صاحب التهديد يعرف منزلنا وكل أفراد أسرتي، وتهديده بالوصول إلى المنزل أرعبني، وقررنا بسببه مغادرة منزلنا”. وجود أعضاء المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين بالمجموعة -تقول عبدالعظيم- لم يكن كافياً لوقف خطاب الكراهية بين الصحفيين، وإدانة التهديدات التي تعرضت لها.
لم تختلف قصة سمر سليمان عن هبة عبد العظيم؛ إذ تلقت تهديدات عبر تطبيق ماسنجر، من بينها تهديد من وزير سابق، بالإضافة إلى مطالبتها ببث موادّ تلفزيونية عبر فضائية كانت تعمل بها، مقابل عرض مادي. وعندما رفضت العرض، تمّ تهديدها بالوصول إليها والتعرض لها عند انتهاء الحرب.
الصحفيون هدف مباشر
تشير البيانات إلى أن هناك نحو 71 حالة، تمّ فيها الاعتداء على منزل الصحفي أو الصحفية بشكل مباشر. يقول عبد المنعم آدم، محامٍ في مجال حقوق الإنسان ومدير مشروع الوصول إلى العدالة، إن الصحفيين محميون بموجب القانون، وأي مساس بحقوقهم يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وهو -بحسب آدم- قانون معني بتخفيف آثار الحروب وحصر آثارها بين الأطراف المتنازعة، ويحدد القانون الأشخاص المدنيين الذين تشملهم الحماية القانونية بشكل صريح؛ وهم الذين لا يشاركون بالأعمال العدائية بشكل مباشر. ويرى المحامي آدم أن الصحفيين والمؤسسات الصحفية ليست أهدافاً حربية ولا تُعدّ مشاركتهم الصحفية أو نقلهم الأخبار وإن كانت كاذبة أو مضللة مشاركة في الحرب. وهم يتمتعون بنوعين من الحماية؛ الأولى كونهم مدنيين والثانية بصفتهم صحفيين؛ وفق آدم.
ويضيف آدم أن الصحفيين في السودان واجهوا ضغوطاً بالانحياز لأحد أطراف الحرب في السودان، وهي مخالفة صريحة لنص القانون، وهم غير مطالبين بتقديم أي معلومات إلا في الإطار المهني، وأي تجاوز للحصانة الممنوحة لهم بموجب القانون، يُعدّ جريمة حرب.
الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف، 1977
المــادة 79 : تدابير حماية الصحفيين
1- يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة أشخاصاً مدنيين ضمن منطوق الفقرة الأولى من المادة 50.
2- يجب حمايتهم بهذه الصفة بمقتضى أحكام الاتفاقيات وهذا اللحق “البروتوكول” شريطة ألا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعهم كأشخاص مدنيين وذلك دون الإخلال بحق المراسلين الحربيين المعتمدين لدى القوات المسلحة في الاستفادة من الوضع المنصوص عليه في المادة 4 (أ – 4) من الاتفاقية الثالثة.
القواعد العرفية للقانون الدولي الإنساني في قاعدتها 34
” يجب احترام وحماية الصحفيين المدنيين العاملين في مهام مهنية في مناطق نزاع مسلح ما داموا لا يقومون بجهد مباشرة في الأعمال العدائية (…)
رحلة الخروج للمجهول: حين يصبح اللون والعرق والهوية أداة للتصفية
رحلة الخروج للمجهول: حين يصبح اللون والعرق والهوية أداة للتصفية “نزح نحو أربعة ملايين وستمئة ألف شخص داخل السودان منذ بدء القتال، وقد لجأ معظم النازحين إلى ولايات داخل السودان، وعبر نحو 1.1 مليون شخص إلى عدة دول، منها جمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد ومصر، وإثيوبيا وجمهورية جنوب السودان المجاورة، وذلك حتى النصف الأخير من تشرين الأول/أكتوبر 2023″، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
تُحدثنا “منال علي” عن رحلة خروجها من السودان. ففي الـ 31 من نيسان/ إبريل، خرجت هي ووالدها من الجنينة بسيارة تهريب. لم يفارقها شعور الخوف على والدها، حال تمّ كشف هويتها. أشار إليها السائق بأن تعطيه ما لديها من ممتلكات؛ كالهاتف، واللابتوب وغيره؛ كي لا تتعرض للنهب. وصلوا عند نقطة التفتيش الأولى للمليشيات المسلحة، فمروا بسلام لأن السائق كان “منهم” على حد وصفها. عند نقطة التفتيش الثانية، أخذوا ما لدى الركاب من ممتلكات، إلا ما أخفاه السائق. عند نقطة التفتيش الأخيرة، تذكر “علي” وصفها ومَن معها بالنوبيين للونهم، وتأسف لوجود ما وصفته بـ “خطاب الكراهية”؛ حتى وصلوا أخيراً الحدود التشادية.
جهة أخرى، عاش عباس الخير مراسل ميداني لدى قناة “سودان بكرة”، ظروفاً مشابهة مع اختلاف الجاني. في أواخر أيّار/مايو 2023، بدأ رحلة خروجه من الخرطوم باتجاه “مدني”. تمّ إيقافه من قبل الجيش، وطُلب منه إظهار إثبات هويته. يقول الخير: “في جوازي مثبت أنني من مواليد نيالا، فقال لي أنت دعم سريع… أخبرتهم أني لست من قوات الدعم السريع، وأني من سكان شمبات؛ وهو مدون برخصة القيادة، فسمحوا لي بالمرور”.
أما عند خروجه من القضارف باتجاه إثيوبيا، في نقطة تفتيش عند “الدوكة”، وبسبب بياناته ولونه؛ وجهت له الاستخبارات العسكرية تهمة الانتماء للدعم السريع. طلب من الخير رفع قميصه، وبسبب طعنة قديمة في ظهره كاد أن يفقد حياته. أجبر على خلع ملابسه يضيف الخير: “طلب مني أحد أفراد نقطة التفتيش التابعة للقوات المسلحة نزع حزام بنطالي وخلع البنطال أيضاً، فعلت ذلك مرغماً، لقد تعرضت للتفتيش وملامسة أجزاء حساسة من جسدي”.
لاحقاً تعرض الخير للضرب واحتُجز لساعات طويلة، تمّ إدخاله غرفة ملطخة بالدماء لإجباره على الاعتراف بالانتماء لقوات الدعم السريع. تعرّض للضرب والإساءة، وتمّ تفتيش كل متعلقاته؛ فوجدوا بعض الأشياء الخاصة بإحدى القنوات الإعلامية المهتمة بقضايا الثورة الشعبية؛ ما كان سيزيد الأمر تعقيداً، إلا أنه أكد تركه العمل بتلك القناة منذ أشهر.
لم يُطلق سراح الخير إلا بعد الاتصال بأحد أقاربه، الذي يعمل ضابطاً بالقوات المسلحة، وفق رواية عباس الخير.
الخير و”علي” هما من بين عشرات الصحفيين الذين غادروا السودان للدول المجاورة.
يشير نقيب الصحفيين عبد المنعم أبو إدريس، إلى أن النقابة فتحت خطوط اتصال مع “اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، وصحفيين بلا حدود”، وأكد أن المؤسستين ساعدتا في إجلاء عدد من الصحفيين والصحفيات إلى خارج السودان، وهناك محاولات مستمرة لإجلاء المزيد منهم. وبحسب أبو إدريس، فإن العدد الأكبر من الصحفيين غادر إلى مصر.