“مغادرة الجيش للسياسة”.. خدعة نقل السلطة من القصر إلى القيادة العسكرية  

29 يوليو 2022

قبل أن يُلقي قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان خطابه في الرابع من يوليو الجاري على السودانيين معلنًا خروج القوات المسلحة من العملية السياسية أجرى “تفاهمات مع المجتمع الدولي” بالتركيز على الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي.

 كانت المؤشرات واضحة للعيان سيما بعد زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي مولي العاصمة السودانية في نهاية مايو الماضي وحدوث تقارب أمريكي سعودي بشأن الملف السوداني.

ورغم تعهدات البرهان التي جاءت بعد احتجاجات شعبية لم تتوقف منذ استيلائه على السلطة في أكتوبر الماضي يطرح المدنيون المعنيون بالتحول الديمقراطي اسئلة على طاولة العسكريين عما إذا كان الجيش فعلًا سيغادر العملية السياسية خاصة في ظل مخاوف المدنيين من وجود “تقاطعات دولية” ضد رغبة السودانيين في بناء نظام ديمقراطي على أنقاض شمولية استمرت ثلاثين عاما تحت سيطرة الإسلاميين.

وإذا كان الجيش على الجانب الآخر يواجه إحتجاجات شعبية منذ ثمانية أشهر إثر انقلابه على الحكومة المدنية فإن المدنيين أيضا خاصة قوى الحرية والتغيير ومجموعة التوافق الوطني وبقية قوى الثورة تواجه خلافات قد تعصف بأي توافق محتمل بينما المأمول وفق خطاب الجيش أن يكون الاتفاق بين هذه الأطراف لتكوين حكومة مدنية وربما تبدو هذه المهمة المستحيلة هي الثغرة التي قد يتسلل من خلالها قائد الجيش لإعلان عدم توافق المدنيين بالتالي تكوين حكومته التي تعثرت قرابة الثمانية أشهر.

غياب التفاؤل

هل فعلا سيخرج الجيش من العملية السياسية؟ للإجابة على هذا السؤال تواصلت (عاين) مع المحلل السياسي، عمار حسين، الذي لم يبد تفاؤلا بشأن تنفيذ خطاب البرهان قائلًا إن “الجيش لديه مصالح كبيرة لن يفرط فيها بسهولة خاصة الملفات المرتبطة مع دول الإقليم”.

ويعتقد حسين، أن الجيش يدير شركات اقتصادية إلى جانب تحول ساحل البحر الأحمر مؤخرا إلى “منطقة مناورات عسكرية” وصراع أمريكي وروسي  وأصبحت منطقة البحر الأحمر مؤثرة في العلاقات الدولية.

محلل: خروج الجيش لا يعني وضع نفسه تحت قيادة المدنيين لأنه لم يختبر هذا الأمر مطلقا

ويرى حسين، أن خروج الجيش من العملية السياسية لا يعني أنه سيضع نفسه تحت قيادة مدنية وقد لا يرغب المجتمع الدولي في هذا الأمر لأنه يعتبر الجيش “الضامن الوحيد” لحماية مصالحه في ظل “انطباعه السيئ عن القوى المدنية”.

ويقول عمار حسين، إن “الجيش لم يخرج من العملية السياسية منذ الاستقلال ولا توجد مؤشرات قوية على تحقيق هذا التوجه السائد لدى المدنيين المعنيين بالتحول الديمقراطي لأن قائد الجيش يراهن على الخلافات التي تستعر بين المدنين أنفسهم وقد يمنح نفسه مبررات للمضي قدما في تشكيل حكومة ترتب لانتخابات مبكرة”.

ويرجح حسين حدوث سيناريوهين الأول توافق المدنيين على تكوين حكومة ذات حد أدنى من التوافق تواجه معارضة من المتظاهرين وقوى الثورة والسيناريو الثاني “فرض قائد الجيش لحكومة تصريف أعمال لفترة عام” تحت إدارة الجيش نفسه وتنظيم انتخابات مبكرة.

سيطرة الجيش لسنوات

لم يجرب السودانيون “مغادرة الجيش العملية السياسية” خلال السنوات التي تلت استقلال بلادهم منذ العام 1956 سوى في فترات محدودة تولى المدنيين السلطة ولم تستمر أكثر من 15 عاما بينما حكم الجيش لأكثر من 45 عاما.

ومؤخرا “تراكمت لدى الجيش” المصالح الدولية التي نسجت اتفاقات بين العسكريين ودول الإقليم بدءًا من حرب اليمن وإرسال الجنود السودانيين و مرورا بأمن البحر الأحمر وحتى مكافحة الإرهاب ظلت السلطة العسكرية والأمنية هي الممسكة بهذه الملفات.

وخلال الشهر الحالي عين البرهان خمسة سفراء من كبار الضباط في دول الجوار ورجح دبلوماسيون أطاح بهم قائد الجيش بعد الانقلاب أن تكون مهام السفراء الجديد “توطيد سلطة البرهان” من خلال المناورات مع مسؤولي الاتحاد الأفريقي.

ويرجح المحلل الدبلوماسي عيسى حمودة في مقابلة مع (عاين)، بدء البرهان رسميا التوسع الدبلوماسي نحو دول الجوار أولا لبث التطمينات أنه سيحافظ على مصالحها وثانيا “نسج تحالفات أفريقية” لاقناع المجتمع الدولي بالقبول بنظامه الجديد لافتا إلى أن “قائد الجيش يعلم تماما أن المجتمع الدولي يقدم الاستقرار على الديمقراطية في بلد مثل السودان ممزق الأطراف ويواجه أزمة اقتصادية وانسانية غير مسبوقة”.

دبلوماسي: السعودية هي التي تقف وراء هندسة المشهد السوداني مؤخرا

ويرى حمودة أن خطاب قائد الجيش جاء على خلفية “تفاهمات دولية” عن طريق المملكة العربية السعودية التي صعدت إلى الملف السوداني بدعم أمريكي كبير لإنهاء الأزمة وهذا المؤشر يوضح عما إذا كانت الرياض ستجلب الحكم المدني والديمقراطية إلى السودان أم الاستقرار و يستدرك قائلا : “الكفة ستكون للاستقرار في نظر السعودية”.

انعدام توازن القوة

يشعر المحتجون وقادة الحراك السلمي أن التقارب مع القادة العسكريين الحاليين “أمر مستحيل ولا يمكن حدوث ذلك” ويشترطون تنحيهم جميعا عن السلطة ومحاكمتهم بالنسبة للمحلل السياسي خالد شقيلة فإن هذه “المطالب موضوعية” لكن توازن القوة على الأرض لن تميل لصالح الحراك السلمي لأسباب متعددة.

مضيفا أن القوى العسكرية التي ستنحاز إلى هذه المطالب غير قادرة على التحرك لعدم وجود أرضية صلبة خاصة مع تعدد الجيوش.

ويشرح شقيلة هذه الأسباب قائلا إن السودان يعاني من ظاهرة “الجيوش المتعددة” لذلك بعد “انقلاب 25 أكتوبر” لم يتمكن ضباط الجيش الذين يتعاطفون مع الاحتجاجات بالانحياز إليها علنا و الاطاحة بقائد الجيش.

محلل سياسي: المجتمع الدولي لا يرغب بخروج الجيش من العملية السياسية

ويرى شقيلة، أن المجتمع الدولي وصل إلى هذه القناعة ولذلك جاء تأييده لخطاب قائد الجيش مع وضع بعض الاشتراطات التي تأتي لإرضاء المدنيين فقط ويستبعد هذا المحلل السياسي “تخلي الجيش عن القرارات السيادية” مثل إعلان الحرب والعلاقات الخارجية واعادة شركاته إلى ولاية وزارة المالية تحت رعاية المدنيين إلى جانب الاتفاقات الاقليمية بشأن إرسال الجنود إلى اليمن.

ويرجح شقيلة، أن يحتفظ الجيش بهذه الملفات وعدم التفريط فيها وشعوره باستحالة وضعها تحت قيادة المدنيين لذلك خروج المؤسسة العسكرية من العملية السياسية مرتبط بـ”عملية شكلية أكثر من كونها عملية جذرية”.يقول شقيلة.

ويرفع المتظاهرون وقادة الحراك السلمي الذي تقوده تنسيقيات لجان المقاومة خاصة في العاصمة السودانية وبعض المدن الكبيرة مثل بورتسودان وودمدني والقضارف “ثلاثة لاءات” وتعني عدم التفاوض وعدم الشراكة مع العسكريين وعدم المساومة.

قوات من الجيش السوداني تواجه متظاهرين في الخرطوم 13 يناير 2022- عاين

لكن هناك عدم تطابق في التوجهات السياسية بين قوى الحرية والتغيير “الإئتلاف الحاكم سابقا” والذي أطاح به الانقلاب مع القوى الصاعدة والحركات التي تتألف من آلاف الشبان خاصة في المدن، ففي وقت تسعى “الحرية والتغيير” إلى التفاوض مع العسكريين ترفض لجان المقاومة هذا الأمر تماما لذلك تباعدت الشقة في الشهور الأخيرة بين الطرفين.

صلاحيات سيادية

ويرى العضو السابق في مجلس السيادة الانتقالي والقيادي في قوى الحرية والتغيير محمد الفكي سليمان في مقابلة مع (عاين)، إن خطاب البرهان رهين بتنفيذ تعهداته بالخروج الكامل للجيش من العملية السياسية عدا ذلك فإنه يريد أن ينقل السلطة من القصر الرئاسي إلى القيادة العامة.

ويقول الفكي، إن قائد الجيش ليس من حقه تحديد المدنيين في العملية السياسية وعليه أن يمضي إلى تكوين جسم يتفق عليه لبناء جيش موحد من جميع الأطراف المسلحة.

لجنة تفكيك التمكين: فساد "الانقاذ" مهول ونواجه تحديات
عضو مجلس السيادة السابق محمد الفكي سليمان

وقال الفكي سليمان، إن “خارطة الطريق التي وضعتها قوى الحرية والتغيير واضحة وتنص على مغادرة الجيش للعملية السياسية على أن يتم تشكيل جيش مهني موحد شريطة أن لا يكون الجيش على صلة بالعلاقات الخارجية والملفات الخاصة بالمدنيين”.

وأضاف: “العسكريون تحدثوا عن حاجاتهم للصلاحيات السيادية ونحن رفضنا هذا الأمر لأن تمرير هذا المطلب يعني الانتقال إلى مرحلة اسوأ من الشراكة ويعني هيمنة الجيش تماما على العملية السياسية والسلطة بطريقة أخرى مستحدثة”.

ويعترف محمد الفكي العضو السابق في مجلس السيادة الانتقالي -أعلى هيئة انتقالية تشكلت بعد اتفاق المدنيين والعسكريين في أغسطس 2019- بتعقيدات الوضع السياسي في ظل بقاء مجموعة مدنية في “معسكر الانقلاب” ومجموعة مدنية مناهضة للانقلاب قائلا إن تشكيل عملية سياسية توافقية بين هاتين المجموعتين مهمة “ليست سهلة”.

مباغتة المدنيين

ويرهن قائد الجيش إكمال تعهداته بمغادرة العسكريين للعملية السياسية باتفاق المدنيين على تشكيل حكومة مدنية دون التطرق إلى العدالة ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات التي وقعت بعد الانقلاب العسكري حيث قتلت قوات الأمن أكثر من (117) من المتظاهرين بالرصاص والقنابل الغازية.

ويقول المحلل في الشؤون العسكرية أحمد إدريس في حديث لـ(عاين)، إن الجيش عادة في الدول الافريقية التي تعاني من الاضطرابات السياسية لا يمكنه أن يغادر المشهد بسهولة.

وأضاف المحلل العسكري، أن الجيش عادة يرمي بثقله في العملية على أن يعود مجددا بمبررات قوية معتمدا على “تشاكس الأطراف المدنية” ليقدم نفسه للمجتمع الدولي على أنه الحل في استمراره.

ويضيف قائلا : “ربما اعتمد البرهان على هذا الخطة أو خروج شكلي للجيش مع الإمساك بملفات خارجية وإعلان الحرب كما حدث في الفشقة العام 2020 عندما شن الجيش هجوما على المليشيات الإثيوبية دون مساندة السلطة المدنية والتقى ايضا برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بينامين نتنياهو في كمبالا في نفس العام”.

ويرى إدريس، أن “هيمنة القادة العسكريين” على الملفات المهمة خلال فترة ما قبل إجراءات 25 أكتوبر توضح تماما أن مغادرة الجيش للعملية السياسية شبه مستحيلة”.