مدينة مُنهكة| بورتسودان.. خيار عاصمة السودان الاضطراري
4 سبتمبر 2023
مسار طريق ضيق متعرج بين سلاسل جبلية ويطلق عليه “العقبة” ينتهي بالمسافرين إلى داخل مدينة بورتسودان الساحلية التي تحولت عملياً إلى العاصمة البديلة للخرطوم بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل الماضي، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
قبل أن يحط قائد الجيش السوداني رحاله مؤخراً في المدينة، سبقه طاقم حكومة الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الثورة في 25 أكتوبر 2021 ممثلا في وزير مالية الحكومة وعدد من الوزراء المكلفين في محاولة لإدارة شؤون الدولة من المدينة التي تضم موانئ البلاد الرئيسية.
مع التغييرات التي طرأت على الوضع في السودان عقب اندلاع الحرب تشهد مدينة بورتسودان حركة كثيفة نسبة لزيادة أعداد القادمين إما للإقامة أو المغادرة عبر مطارها الوحيد الذي يعمل في السودان.
تبدو الشوارع في غاية الازدحام مع فترات الصباح والظهيرة. وتنتهي في المساء غالبية الأنشطة عدا الأنشطة الأمنية بسبب قرار حظر التجول ليلا والذي يبدأ من الحادية عشر مساء.
جنود مدججون بالأسلحة يجلسون في التقاطعات الرئيسية بعد سريان حظر التجول يدققون في عمليات التفتيش لا يسمح لمن لا يحملون الأوراق الثبوتية بالعبور وفي بعض الأحيان عندما تبدأ ساعات الحظر لا يسمح بالعبور ويمكن أن تقضي الليل بأكمله مع الجنود.
قبل ساعات من سريان حظر التجول مساء تتحول مساحات واسعة مطلة على البحر وتجاور الأحياء الى وجهة للشبان والفتيات وحتى العائلات لقضاء الأمسيات وشرب القهوة وتناول الطعام في مدينة مُتعبة أنهكتها في وقت سابق إغلاقات الموانئ التي نفذها الزعيم الأهلي محمد الأمين ترك في العام 2021 متحالفا مع العسكريين ضد حكومة “حمدوك“.
وتعتبر مدينة بورتسودان الميناء البحري الرئيسي في البلاد وعاصمة ولاية البحر الأحمر، وهي واحدة من المدن الكبيرة بالسودان بمنطقة البحر الأحمر، وتعتبر البوابة الشرقية للبلاد، وتضم هيئة الموانئ البحرية ويعمل آلاف العمال بالموانئ في المدينة بجانب آلاف العاملين في مهن أخرى ترتبط بالموانئ.
شركات عملاقة في مجال الملاحة أغلقت مكاتبها وغادرت المدنية حتى تلك السفن الكبيرة لم تعد تبحر إلى هنا وتكتفي بإيصال الشحنات إلى ميناء جدة بالمملكة العربية السعودية لتنقلها سفن صغيرة إلى بورتسودان.
اعتاد سكان المدينة على سماع صافرات البواخر العملاقة التي كانت تتوقف على رصيف الميناء لكن منذ عامين لم تعد هذه الأصوات جزءا من تفاصيل المدينة وقررت التوقف بفعل الاضطرابات الإثنية التي قادها زعيم البجا محمد الأمين ترك عندما أوصد الموانئ 45 يوما في العام 2021 بخسائر بلغت ملايين الدولارات.
“ما فعله ترك لن يُغفره له المتضررين مهما طال الوقت.. لقد أنهى حياة اقتصادية كاملة“. يقول الناشط المدني في المدينة أونور لـ(عاين).
أما “إيهاب” وهو شاب يعمل في شركة صغيرة يقول في مقابلة مع (عاين):”هناك فرق بين مدينة بورتسودان قبل ثلاثة أعوام واليوم، لم تعد الموانئ بتلك الحيوية وانعكس التدهور على حياة المواطنين. عشرات المكاتب العاملة في التخليص الجمركي غادرت إلى وادي حلفا شمال السودان لأن الشحنات تصل أيضا عن طريق موانئ مصرية ثم تنقل برا إلى ميناء وادي حلفا الجاف”.
شاهد السكان السفن السعودية العملاقة التي قامت بعمليات الإجلاء بعد اندلاع القتال في الخرطوم نهاية أبريل الماضي تلك هي المرة الوحيدة التي زارت فيها سفن عملاقة ساحل مدينتهم التي تنهي يومها سريعا مع ممارسة أعمال تجارية شحيحة.
بنية تحتية ضعيفة
على الأرصفة في الشوارع الرئيسية يجلس الشبان، يعملون في بيع القهوة يضعون المقاعد الصغيرة في درجات حرارة مرتفعة وانقطاع للتيار الكهربائي مع سماع ضجيج أصوات مولدات الكهرباء القادمة من المباني الحكومية والشركات.
تقابل المدينة النازحين والوفود الحكومية التي من شأنها ادارة شئون البلاد ببنية تحتية لا تقوى على استيعاب هذا القدر الكبير من القادمين. وتمثل البنية التحتية أكبر تحد.
يحاول البنك السوداني المركزي الذي نقل أطقمه الرئيسية إلى بورتسودان منذ أربعة أشهر إستعادة الشبكة الإلكترونية للربط المصرفي لكنه لم يتمكن من ذلك.
ويوضح صالح عبد المنعم، الذي يعمل في قطاع المصارف ووصل بورتسودان لمعرفة المشكلات التي تواجه البنوك، أن “المقاصة الإلكترونية ” لم تسترد حتى الآن ولا يزال هناك تحد كبير في العثور على الارتباطات المصرفية الداخلية مع البنك المركزي أو التحويلات الخارجية لم تبدأ الأنظمة في استعادة نفسها منذ بداية النزاع المسلح في العاصمة السودانية.
بينما يقول الخبير الاقتصادي عمر جار النبي، :”إذا مضى قائد الجيش نحو خيار تكوين حكومة جديدة مقرها في بورتسودان فإنها ستكون مسؤولة عن ولايات شرق السودان والجزيرة وأجزاء من العاصمة السودانية لكن التحدي الحقيقي مواجهتها بعزلة اقتصادية أكثر من سابقاتها لأنها لن تحظى بدعم وتأييد المجتمع الدولي والإقليمي”.
وتابع جار النبي في مقابلة مع (عاين):” إذا كانت الحكومة مخنوقة اقتصاديا و معزولة دوليا وهي في خضم النزاع المسلح ماذا بإمكانها أن تفعل؟ الإجابة لا شيء سوى أن الأمر بداية تقسيم السودان لأن ولايات دارفور وكردفان خارج سيطرة الدولة “.
وضع حرج
أما القطاع الخاص في وضع حرج حسب ما يقول محمد عادل، الذي يعمل في شركة متخصصة للأنظمة التقنية المالية بسبب تقلبات سعر الصرف ودائما ما تكون الشركات أمام موجة من الالتزامات غير الممكنة إلى جانب غياب اليقين بشأن توقف القتال واستعادة كامل النشاط الاقتصادي.
يقول عادل لـ(عاين)، إن “بعض الشركات قامت بتسريح عمالها ومنحتهم المخصصات المالية التقاعدية لأنها لم تعد قادرة على العمل فهي لا تملك أي خطط لإنشاء بنية تحتية جديدة لها هنا في بورتسودان وبعض الشركات الكبيرة بمافي ذلك بعض الشركات العاملة في مجال الاتصالات خفضت نطاق عملها وأوقفت توسعاتها العملياتية وتطلب من موظفيها في مكاتب العملاء العمل بنصف قيمة الراتب الشهري مع التوقف لشهر والعمل في الشهر الثاني براتب كامل”.
يضيف :”مسؤولو الشركات يشعرون بالإحباط، لا يمكن العمل مع انخفاض نطاق الأسواق إلى جانب عودة المخاوف الأمنية جميعها تجعل الشركات حذرة من الإقدام على تقديم مشاريع جديدة وطموحة “.
إمداد غذائي خارجي
تعتمد مدينة بورتسودان على سلاسل إمداد قادمة من مصر بشحنات كبيرة من المواد الغذائية ومياه الشرب المعبأة والحلويات والفطائر المعلبة والمشروبات الغازية والعصائر المحلاة تباع في غالبية المتاجر مع إختفاء المنتجات السودانية بفعل النزاع المسلح في العاصمة حيث غالبية المصانع هناك تعرضت الى النهب أو تقع ضمن خطوط النار.
أما في قطاع العقارات لا يمكن العثور على شقة سكنية أو منزل دون المرور بعروض الوسطاء في هذا المجال والذين يعرضونها بأسعار عالية تصل إلى 1.4 مليون جنيه شهريا ما يعادل 2 ألف دولار وبعض الشقق الصغيرة بسعر 700 ألف جنيه بينما لا يمكن ضمان استمرار خدمات المياه والكهرباء طوال اليوم.
أصوات المولدات الكهربائية لا تتوقف في ساعات الظهيرة والليل بسبب برمجة القطوعات لوجود نقص في الإمداد بينما توفر البارجة التركية التي تمد المدينة بالكهرباء نحو60 ميغاواط /ساعة ويُكمل الخط القادم من سد مروي شمال السودان المهمة قليلا بفعل عجز التوليد المائي لكن المصدران معا لا يمكنهما تغطية الاستهلاك في بورتسودان وهو ما يؤدي إلى برمجة الإمداد لساعات طويلة في الفترات الصباحية والمسائية.
يقول محمد عبد الرحمن العامل في مجال تقنية الاتصالات لـ(عاين) :”يخيم تأثيرات النزاع المسلح خاصة في العاصمة على مدينة بورتسودان، أصبح الناس يشعرون بتوقف حياتهم لأن العمل أو البقاء في المنزل سيان لمن يعملون في القطاع الحكومي أما القطاع الخاص فهو يتوجه نحو الانهيار أيضا، النشاط الوحيد هنا حركة السفر الى خارج البلاد هربا من الجحيم”.