بورتسودان.. حكايات لم تروى عن ثورة المدينة

تقرير: عاين 1 مايو 2019م

الثورة السودانية التي ما تزال مستمرة بها الكثير من المآثر والشخصيات والبطولات والتضحيات والذكريات. مدينة بورتسودان كانت إحدى المدن التي خرجت للتظاهرات مبكرا وقدمت الكثير من التضحيات النادرة التي كانت محبوسة في الصدور وخرجت للعلن بصورة أكثر وضوحا عقب الاطاحة بالرئيس المخلوع عمرالبشير.

عاين وثقت لتلك المواقف في مشاهدات وروايات مختلفة التقت فيها بالعديد من صناع الثورة في تلك المدن مثل عطبرة وبورتسودان وغيرهما.

بداية مبكرة
بورتسودان.. حكايات لم ترو عن ثورة المدينة
قبل خمسة أيام من 19 ديسمبر الماضي وهو الموعد الذي خرجت فيه جموع السودانيين بالمدن المختلفة تحتج على  تردي الاوضاع الاقتصادية ومن ثم ترفع سقف مطالبها برحيل البشير، كانوا سكان مدينة بورتسودان في جميع أحيائها يصطفون أمام المخابز منذ الثانية صباحا وحتى شروق الشمس لشراء حصتهم من الخبز المنعدم في المدينة.وفي حي القادسية الفقير، والمعروف شعبيا بـ (ولّع)، وقف عند الثانية صباحا جمع غفير من المواطنين في صفين طويلين الاول للسيدات والثاني للرجال امام مخبزين في المنطقة، وعند الرابعة صباحا، فتح اصحاب المخابز الأبواب للجمهور ، وابلغا المواطنين بأن سعر قطعة الخبز هو ثلاثة جنيهات، وعليه المستعد لشراء قطعة الخبز بثلاثة جنيهات البقاء في الصف ومن لا يستطيع عليه مغادرة المكان فوراً، واضاف صاحب المخبز  بحسب شهادة عبد المجيد عامر، وهو أحد شهود العيان في تلك الليلة “هذا سعر الحكومة الجديد للدقيق”.

سادت حالة من التذمر والضجيج -بحسب عامر- في تلك الليلة بمنطقة القادسية، وانطلقت احتجاجات في جنح الظلام في الحي الفقير تخبر المواطنين الآخرين بأن سعر الخبز ارتفع الى ثلاثة اضعاف وان عليهم بالاستعداد لبداية يوم طويل من الاحتجاجات عند مطلع الشمس. وفي اثناء تقدم المواطنين المحتجين إلى عمق الحي وتزايد أعداد المنضمين إليهم من المواطنين، حضرت قوة من الشرطة قوامها عربة تاتشر عليها عدد من الجنود وعمدت على تفريق المحتجين في تلك الليلة. في الصباح، عمت أخبار احتجاجات حي القادسية المدينة، والاسباب كانت نفسها متوفرة لجميع سكان أحياء المدينة التي استفاقت على مضاعفة سعر الخبز ثلاثة أضعاف، قبل أن يؤكد ذلك والي ولاية البحر الاحمر  في بيان رسمي حدد من خلاله السعر الجديد للخبز. وعلى الفور كانت شوارع الأحياء القريبة من وسط المدينة تزحف بقيادة طلاب الثانويات الى وسط المدينة.

بورتسودان.. حكايات لم ترو عن ثورة المدينة

تنظيم

الناشط في المدينة، صادق طاهر، اجرى اتصالات عديدة مع اصدقائه الناشطين والطلاب لجهة ترتيب التظاهرات العفوية التي تنتظم المدينة. وقال طاهر لـ(عاين)، ” كنت في حي ديم عرب، تحركت بعد اتصالات عديدة مع اصدقائي الى قلب المدينة بعد تأكيد ان معظم المتظاهرين من الأحياء القريبة من سوق المدينة ذهبوا الى هناك، وشاهدت تجمعات كبيرة تظاهرات متفرقة تتحرك في شوارع متعددة في أحياء ديم مدينة وديم سواكن وغيرها من الأحياء بوسط المدينة ويقودها طلاب الثانويات مع عدد كبير من المواطنين وهي بحاجة إلى ترتيب ليكون تاثيرها كبيرا واكثر سلمية”.

السوق الكبير في قلب مدينة بورتسودان، كان ساحة مظاهرات متفرقة في عدد من شوراعه الرئيسية، لكن هذه الأعداد بالنسبة لـ “طاهر” غير منتظمة وتحتاج الى ترتيب و تجميع ليكون تاثيرها أقوى على الرغم من هتافات المتظاهرين كانت موحدة ضد الغلاء في البدء وتطالب بإسقاط النظام ورحيل البشير عن الحكم. لحظات وتجمعت أعداد كبيرة من المتظاهرين في ساحة المواصلات العامة، وبينما انا وصديق آخر في طريقنا إليها لمخاطبتها ووضعها في الاتجاه الصحيح صعد شاب ثلاثيني على أكتاف المتظاهرين الشباب وطالبهم بسلمية المظاهرات ووضع خط تحرك من قلب السوق الى جامعة البحر الأحمر القريبة من مكان تجمع المتظاهرين.

يقول رفيق صادق طاهر، “الزين ابو فاطمة”، اتجه الموكب إلى جامعة البحر الأحمر، واثناء مسيرنا اتصلنا بعدد من قادة القوى السياسية الطلابية في الجامعة بان عدد كبير من المتظاهرين من طلاب مدارس الاساس والثانويات ومواطنين في طريقهم الى الجامعة وعليكم بترتيب فعل عاجل يمكن الخروج بشكل اكثر تنظيم الى شوارع المدينة.اقتحم المتظاهرون الشبان بحسب أبو فاطمة، بوابة الجامعة، وهتفوا ملقين باللائمة على طلاب الجامعة بعدم خروجهم في وقت مبكر من الصباح والمدينة كل شواعها تغلي بالمتظاهرين، حينها كانت القوى السياسية في الجامعة اصدرت بيانا ودعت الطلاب الى الخروج الى الشوراع بعد ان عقدت مخاطبات عامة خطبتها معظم القوى السياسية.

كر وفر

بورتسودان.. حكايات لم ترو عن ثورة المدينة

حوالي الساعة الواحدة ظهرا خرج موكبا ضخما من جامعة البحر الاحمر متوجها الى مقر حكومة الولاية مرورا بسوق المدينة الذي  أصبح خاليا تماما وأغلقت عدد من المحلات التجارية أبوابها، لكنه وبحسب ما يروى ابوفاطمة لـ(عاين)، فانه وعند تقدم الموكب من سوق المدينة باتجاه بيت الوالي امطرت قوة أمنية المحتجين بوابل من قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، وأثناء عملية الكر والفر في شوارع سوق المدينة يصر عدد كبير من منظمي المظاهرات التحدث بصوت عال إلى المتظاهرين وأن عليهم التجمع مجدا داخل الجامعة لتحديد مسارات اخرى للاحتجاج.بالفعل وخلال نصف ساعة أعاد المتظاهرين تجمعهم أمام الجامعة وقرروا مجددا التوجه الى منزل والى الولاية الذي كان وقتها يرافق البشير في زيارة الى منطقة عروس وافتتاح عدد من المشاريع الأمر الذي لم يحدث وغادر البشير على اثر التظاهرات المدينة. تجمعت اعداد كبيرة من المتظاهرين وفقا لـ صادق طاهر امام بيت الوالي الذي اغلقته ترسانة أمنية ظلت طوال تواجد المواطنين تبث الرعب في المتظاهرين وتقوم بعمليات تجهيز “تعمير” للاسلحة لكنها لم تطلق النار او الغازات المسيلة للدموع في اتجاه المتظاهرين. وأشار طاهر إلى اتفاق منظموا المظاهرة على عودة المحتجين الى السوق والعمل على مخاطبتهم في سوق المدينة لمزيد من الحشد والاستعداد ليوم طويل في المدينة، لكن خطة القوة الامنية وقتها كانت تريد من المتظاهرين الانسحاب الى شوارع جانبية ومن ثم تفريقهم وهذا ما حدث بالفعل، وبعد عودة المتظاهرين باتجاه سوق المدينة بجوار حديقة البلدية ظهرت قوة كبيرة من قوات الشرطة والأمنية وإطلاق الغاز المسيل للدموع بكثافة ضد المتظاهرين وعمدت على مطاردة بعضهم بنية الاعتقال، لكنه بدأ معروفا لأي مشارك في المظاهرة انه ولحظة تفريق الموكب يتم التجمع مجددا أمام أو داخل جامعة البحر الاحمر لبداية خطة جديدة للتظاهر ومواصلة اليوم.

ويشير طاهر الى أنه وبالفعل فرت جموع المتظاهرين بطرق مختلفة الى مقر الجامعة. وقال في طريقي الى الجامعة رأيت عدد كبير من المواطنين ليس من بينهم طلاب ثانويات واساس يرددون هتافات تطالب بالحرية واسقاط النظام. وقبل ان ننضم اليهم كان يخطب فيهم شاب اسقط مكب نفايات في قلب الشارع وصعد عليه موجها المتظاهرين بسلمية الموكب والتظاهر وعدم الجنوح إلى عمليات تخريب للممتلكات العامة وأن الانتفاضة التي بدأت في مدن عديدة بالسودان هاهي مدينة بورتسودان تنضم اليها اليوم ولن تتوقف المدينة عن ركب الثورة السودانية. وبدأ بالنسبة لـ طاهر ان الشخص الذي يلقي بالخطاب هو الشخص المنظم لهذا الموكب الذي قوامه حوالي 200 متظاهر . ويضيف طاهر “ذهبنا للشاب واخبرناه بان عليه عدم التوجه الى منزل الوالي لأن هناك قوة امنية كبيرة ترتكز في المكان وفرقت مظاهرة ضخمة قرب منزل الوالي”. وزاد طاهر “أخبرنا الشاب ان المتظاهرين الذين ترونهم أمامكم قدموا معه من حي سلالاب البعيد نسبيا من قلب المدينة وعليكم باقناعهم انتم بالتوجه الى الجامعة.. وهذا ما تم بالفعل بعد ان خاطبتهم وطلبنا منهم التحرك الى الجامعة والالتحام مع جموع المتظاهرين الموجودين هناك حتى نتمكن من فعل اكبر”.في حدود الخامسة عصرا، وصلنا مجدا الى الجامعة هي المرة الثالثة التي يتم تفريق المواكب في المدينة ويلجأ المتظاهرون الى الجامعة ويعودون الى الشوارع مجددا، ولحظة وصولنا مع المتظاهرين بحسب ما يروى طاهر لـ(عاين)، كان الجامعة بها مخاطبة حاشدة تدعو للخروج مجددا وهذا ما تم بالفعل، لكن هذه المرة قوات الأمن تمركزت بالقرب من البوابة الجامعة وفي شوارعها الجانبية وجرت مواجهات بين المتظاهرين وقوات الشرطة التي ظلت تطلق الغاز المسيل للدموع بكثافة وما ساعد الثوار على تخفيف حدته هو ان المدينة كانت قبلها بأيام شهدت أمطارا غزيرة ومياه راكدة في الشوارع المحيطة بالجامعة ويتم اغراق العبوات بالمياه لإبطال مفعولها من قبل المتظاهرين.

بورتسودان.. حكايات لم ترو عن ثورة المدينة

حشود

ووفقا لما يروى الناشط الطلابي السر الطيب لـ (عاين)، بان اليوم الثاني 20 ديسمبر، وفي وقت مبكر منه تلاقت القوى السياسية مع أذرعها في الجامعات لمواصلة الاحتجاجات، وبالفعل تم الاتفاق على عمل مخاطبتين منفصلتين بأن تقوم القوى السياسية بمخاطبة المواطنين في سوق المدينة والتحالف الطلابي يقوم بمخاطبة للحشد في جامعة البحر الاحمر في توقيت واحد على ان يخرج موكب الطلاب ليلتحم مع المحتشدين في السوق الكبير للمدينة، ونفذت القوى السياسية والطلابية ما تم الاتفاق عليه لكن قوات الأمن كان لديها تكتيك مختلف يومها بحيث سمحت لمخاطبة السوق بالاستمرار ومنع طلاب الجامعة من الخروج حتى الساعة السادسة مساءا بعد ان تمت احاطة الجامعة بالكامل من قبل قوات الأمن والشرطة. منذ ذلك التاريخ الذي مضى عليه نحو ثلاثة اشهر، ومع استمرار انتفاضة السودانيين تتحرك احياء عديدة في المدينة من وقت لآخر، فكانت أحياء هدل وديم عرب وغيرها من الاحياء العريقة تنشط في مظاهرات ليلية متفرقة نجح في مرات عديدة في الوصول الى سوق المدينة الذي تتأهب فيه قوات أمنية تتمركز في مواقع وتقاطعات رئيسية.

حوائط مدارس المدينة الساحلية وعدد من المنازل المطلة على الشوراع الرئيسية بحسب ما رصد مراسل (عاين) تضج بشعارات الثورة السودانية، باللونين الاحمر والاسود تمت كتابة شعارات ” تسقط بس، والشعب يريد إسقاط النظام، و حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب” مع كتابات أخرى مشوهة في بنايات اخرى يقول سكان في المدينة ان الاجهزة الامنية قامت بتشويه هذه الكتابات والشعارات الثورية. الناشط محمد ابوبكر، يستشفى في منزله بحي فليب المتواضع غربي المدينة، وبحسب حديثه مع (عاين) شارك في الاحتجاجات المنظمة التي انتظمت المدينة مؤخرا وفقا للجداول المعلنة من قبل قوى إعلان الحرية والتغيير في المدينة و تجمع المهنيين السودانيين. يقول ابوبكر ” نجحت مواكب معلنة عديدة نفذناها من قبل وكان لها اثرا بالغا في مشاركات كبيرة في مواكب لاحقة، لكنه ومع اشتداد القبضة الامنية والاعتقالات التي جرت في صفوف النشطاء وكوادر القوى السياسية انخفضت وتيرة الاحتجاجات في المدينة نظير الاعداد الكبيرة التي جرى اعتقالها وترحيل بعضها الى العاصمة الخرطوم ومنهم عديدون مازالوا رهن الاعتقال”.

وفي ظل هذه الظروف وانخفاض وتيرة العمل الميداني في المدينة، ظلت تجرى ترتيبات بين النشطاء في المدينة لتنفيذ جداول تجمع المهنيين سيما مواكب يوم الخميس، ولحظة تنفيذ لترتيب احكمناه مع بقية الشباب المشاركين والحديث لـ ابوبكر داهمت قوة امنية مقر تجمعنا في وسط سوق المدينة وتفرق جمعنا لجهة أننا آثرنا انتهاء الموكب مع بداية بسبب ان العدد الموجود من قيادات التظاهرات كان لا يتجاوز العشرين شخصا.ويقول ابوبكر، الخميس التالي وسعنا حجم الترتيبات وحصلنا على التزام شخصي من أكثر من 60 مشاركا، وحددنا نقطة الانطلاق وكان متفق ان يبدأ نقطة الانطلاق حوالي اربعين شخصا وهذا وضع آمن بالنسبة لنا في المدينة والمكان الذي ستنطلق منه التظاهرة وهو موقف الحافلات بعد ان خلقنا راي عام وقاعدة احترام لدى المواطنين بأن فعلنا سلمي ولن يجنح للتخريب. وبالفعل انطلق الموكب لكن التفاعل مع لم يكن كبيرا، وأثناء ترديدنا للهتافات والتحرك على المناطق الأكثر اكتظاظا انتشر رجال أمن بكثافة وفي زمن قياسي في المنطقة وبدأوا حملة اعتقالات.

ويضيف ” في طريقي للخروج من مكان التظاهرة انقض عليّ شخص من الخلف وامسك بي بقوة لدرجة انني لم اعد اقوى على الافتكاك منه، قبل ان ياتي آخرون وحملوني بالقوة الى عربة الاعتقال وقذفوا  بي الى داخل العربة التي سقطت فيها على ظهري وقدماي على حافة باب العربة قبل ان يفاجئني احدهم وهو يضغط بكل ما أوتي من قوة على رجلي وهي ملتصقة بباب التاتشر وصدر منها صوت قوي فقدت على إثره الوعي للحظة”. ويزيد أبوبكر “هناك في المعتقل طلب مني نفس الشخص الهبوط من السيارة.. وقتها لا أستطيع الحركة.. واللحظة التي ابلغته بان رجلي مكسورة.. اعاد نفس العنف وظل يركل بحذائه مجددا وهو يضحك وينادي على رفيقه الذي مارس نفس العملية لاسقط مجددا على أرضية المكان في حالة إعياء تامة وعدم قدرة على الحركة.. قضيت ليلتي على هذا الوضع قبل ان يتم تحويلنا الى محكمة الطوارئ التي افرجت عنها في الصباح الذي بدأت بعده رحلة الاستشفاء التي لم تكتمل حتى الآن”.