السودان:”حرب ودمار” واستقلال سياسي يُحلّق بعيدًا
عاين- 26 أكتوبر 2023
بعيدًا، وبين أضابير إقليمية ودولية يتحرك الملف السوداني ويُدار من قبل دول بعينها في عملية أقل ما توصف بأنها اختطاف للاستقلال السياسي في البلد الذي يئن تحت وطأة حكم العسكريين، والتطلعات الشعبية للديمقراطية المؤودة، نهاية بحرب شرسة تدور منذ الخامس عشر من أبريل الماضي.
في ساحات القتال، فوق المنازل وبين الشوارع في العاصمة السودانية ومدن مثل نيالا والجنينة وزالنجي في إقليم دارفور يمكن أن تلاحظ بوضوح إنعكاس التدخلات الخارجية في الشؤون السودانية مثل وصول شحنة أسلحة من الإمارات إلى أيدي قوات الدعم السريع في شهر أغسطس الماضي أو مساندة مصرية للجيش.
يرى فاعلون سياسيون خاصة مجموعة من المستقلين في هذا البلد الذي يكاد ينزلق إلى حرب أهلية شاملة وفق تحذيرات صادرة من الأمم المتحدة أن “الحقل السياسي” في السودان يُدار من الخارج وتحديدا من دولتي مصر والإمارات البلدين الأكثر تدخلا في الشؤون الداخلية.
من النماذج القريبة التي أثبتت التأثيرات الدولية على الملف السوداني بشكل سلبي حينما أطاح السودانيون بالرئيس المخلوع عمر البشير كان قادما لتوه من العاصمة الروسية عارضا خدماته على الرئيس فلاديمير بوتين مقابل حمايته من التأثير الأميركي الذي كان يقترب من قلب الطاولة على البشير جراء الحصار والمقاطعة الاقتصادية التي أسقطت حكمه لاحقًا.
ضعف داخلي
اعتبرت المعارضة المدنية طلب البشير من بوتين بحمايته عقب تسريب مقطع فيديو يظهر محادثاتهما آنذاك بمثابة “الخائن الذي سلم مفاتيح” هذا البلد إلى روسيا لتواصل تدخلها في الشؤون الأمنية والعسكرية مثل طلبها إنشاء قاعدة فلامنجو العسكرية على ساحل البحر الأحمر مقابل حماية سلطة البشير التي كانت تتآكل بفعل تأثيرات خارجية ربما حاولت استغلال تحركات شعبية ضد نظام عمر البشير.
يقول الباحث في العلاقات الدولية محمد عباس لـ(عاين) إن “القرار السياسي الداخلي مختطف من دول المحاور ومصر والولايات المتحدة الأميركية وروسيا كأبرز دول تأثيرا على النخب العسكرية والسياسية”.
يضع عباس مصر في الدرجة الأولى من حيث التدخل من خلال التأثير الكبير على الجيش السوداني. وقال إن “الجنرالات لا يتخذون خطوة دون إشراك المخابرات المصرية في أي إجراءات”.
في معلومات مجزّأة من تقرير إماراتي نقله مصدر دبلوماسي لـ(عاين) يعتقد قادة هذا البلد الخليجي إن السودان “ثروة مُهملة” يجب استغلالها من خلال صنع “وكلاء داخليين” وقررت منذ العام 2019 تقديم دعم لا محدود لقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو بإرسال أكثر من ألفي مركبة عسكرية بعد أيام قليلة من الاطاحة بحكم البشير.
لم تتورع مصر أيضا في التواجد داخل الملف السوداني مثلا دعمت القاهرة العام الماضي تحالفا سياسيا مناوئا لقادة الحركات الاحتجاجية الذين كانوا يتطلعون للحكم المدني وطرد المفسدين من أجهزة الدولة كما إن القاهرة على تنافس حاد مع الإمارات في الملف السوداني.
تغلغل مصري في الجيش
ويرى الباحث في الشؤون الاستراتيجية محمد عباس، أن الجيش السوداني قد يكون “الابن الشرعي” للجيش المصري في ذات الوقت فإن قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو “معجب جدا” بالنموذج الإماراتي في طريقة إدارة البلاد والسلطة لذلك هو يندفع من دون وعي في التحالف مع أبوظبي ودون الوضع في الاعتبار أن الإمارات لديها أهداف اقتصادية كبرى تريد تحقيقها في السودان دون المرور بمحطة “المصالح المشتركة”.
يوضح عباس، أنه من خلال موقع السودان الجيواستراتيجي تمكنت بعض الدول مثل الإمارات والولايات المتحدة وحتى روسيا وبريطانيا من خلق “أذرع في الحقل السياسي في السودان”. قائلا إن “التحركات السياسية والدبلوماسية الخاصة بالملف السوداني منذ سنوات طويلة وحتى الآن ممولة بالكامل من مانحين لديهم علاقة مباشرة بالدول الغربية التي لديها مصالح تنتظرها من السودان”.
يحصي بعض المحللين للفترة الانتقالية في السودان قبل عامين 48 قرارا كان من الممكن أن يؤدي إلى تحسين الانتقال المدني قبيل الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 والذي نفذه العسكريون و أطاحوا بالسلطة المدنية فإن أغلبها لم تنفذ واُصطدمت بعراقيل وضعها الجنرالات سواء من الجيش أو الدعم السريع وكانوا يستندون إلى حلفاء خارجيين يحصلون منهم على الدعم الدبلوماسي والسياسي. وفقا لـ الباحث في العلاقات الدولية، عمر عبد الرحمن.
ويقول عبد الرحمن لـ(عاين) إن “الأزمة عميقة في السودان لأن الجنرالات لديهم مسارات دولية وأبواب خلفية يتمكنون من خلالها الإفلات من العدالة من خلال مساومة المجتمع الدولي على ملفات الأمن والمنظمات الإرهابية بإعتبارهم مسؤولون عن الوضع العسكري والأمني في السودان”.
إسرائيل في السودان
ويوضح عبد الرحمن، أن الزيارات الخارجية للجنرالات زادت عشرة أضعاف عن زيارات البشير خارجيا أثناء فترة الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك وحتى زيارة قائد الجيش لضاحية عنتبي في فبراير 2020 ولقاء رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو بشكل مفاجئ جميعها ملفات أشرفت عليها بالكامل الولايات المتحدة عن طريق الإمارات لأن تل أبيب تدير علاقتها مع العسكريين في السودان عن طريق أبوظبي وهناك حديث غير معلن عن توقيع البرهان على الاتفاقية الإبراهيمية وتعني قبول السودان التطبيع مع إسرائيل.
وكان لافتًا، بأن شملت خريطة الشرق الأوسط الجديد التي أظهرها بنيامين نتنياهو، لدى مخاطبته الجمعية العامة للأمم المتحدة، سبتمبر الماضي، مناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للدول التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل أو تخوض مفاوضات لإبرام اتفاقات سلام مع إسرائيل. وضمت المناطق المكسية باللون الأخضر السودان مع دول مصر والإمارات والسعودية والبحرين والأردن.
ويضيف عبد الرحمن قائلا: “إسرائيل خلال حرب السودان تدير علاقتها مع الطرفين – الجيش والدعم السريع- بشكل متساو لأنها تعمل على توازن الضعف للطرفين وهذه خطة أميركية أيضا الغرض منها السيطرة على الطرفين في وقت واحد وربما يمكن فهم هذه الخطة من خلال تدفقات الأسلحة و الإدانات الدولية التي صدرت بحق الدعم السريع من الولايات المتحدة”.
وضعت ملفات داخلية يهتم حيالها الغربيون بها مثل الهجرات غير النظامية إلى أوروبا القادة الدبلوماسيين في بروكسل إلى حتمية التعاون مع قوات الدعم السريع لإيقاف تدفق المهاجرين إلى أراضيها وعملت هذه القوات منذ 2015 في هذا الملف وحصلت على تمويلات ودعم سياسي بالصمت حيال الجرائم التي ارتكبتها ضد المهاجرين أنفسهم أو ضد السودانيين. وفقاً للباحث في العلاقات الدولية، محمد عباس.
وأضاف عباس: “الإمارات تريد الموانئ والذهب ومصر تريد الذهب والولايات المتحدة تود منع الوجود الروسي في البحر الأحمر وبريطانيا حليفة لواشنطن وقطر تريد الحفاظ على الإسلاميين لذلك فإن وضع السودان أشبه بالبقاء بين فكي التمساح”.
نخب موالية للخارج
بالمقابل يرى الباحث في العلاقات الدبلوماسية كمال الطيب، في حديث لـ(عاين) أن القرار السياسي في السودان مختطف منذ العام 1956 لصالح الخارج وحتى الحركة الحزبية ونشأتها جاءت برعاية دولية واقليمية ومنذ سنوات طويلة تعمل بعض الدول على خلق “نخب موالية” في الأراضي السودانية دون الوضع في الاعتبار مصالح الشعب.
ويقول الطيب: إن “النخب الموالية للخارج سواء كانت عسكرية أو سياسية لديها جذور ضاربة في المجتمع ومن الصعب الفكاك منها ولاحظنا ذلك في الاعتصام المدني في العام 2019 جوار القيادة العامة للجيش أن الشركات المدعومة من الشركات العابرة للقارات توزع المياه والعصائر على المتظاهرين لا أعتقد أن هذا الأمر تم بحسن نية أو دوافع وطنية إنهم وكلاء للخارج”.
أيضًا، يعزو الطيب، استمرار حالة “اختطاف القرار السياسي” لصالح الخارج بإضاعة فرصة ثمينة إبان ثورة ديسمبر التي أطاحت بنظام البشير لأن آلاف الشبان والفتيات الذين قدموا أرواحهم للتضحية كانوا يعلمون تماما إن السلم الأول لتحقيق الانتقال المدني والتحول الديمقراطي هو الحفاظ على القرار السياسي واستقلاليته لأنهم شاهدوا كيف كان الرئيس المعزول عمر البشير يتسول بين دول الخليج و يتعرض لإهانة بالغة. بعد الثورة وفي ظل الحكومة المدنية لم يتغير شيء، استمر الوضع كما هو وهذه الحالة تعني عدم الثقة في القدرات الوطنية والاعتماد على الخارج.
النزاع في السودان رغم أنه يأخذ طابعا عسكريا وإثنيًا في بعض الأحيان منذ ستة أشهر من القتال بين الجيش والدعم السريع لكن الانعكاسات الخارجية تبدو ظاهرة للعيان مثل رغبة مصر في صعود الجيش نحو السلطة ووأد الديمقراطية والانتقال المدني أو محاولة الإمارات لتمرير شحنات الأسلحة لقوات الدعم السريع حسب ما ذكرت صحف أميركية للاستحواذ على موانئ رئيسية شرق السودان.
ولا يستبعد أستاذ الإعلام والباحث السياسي أبو بكر شبو في حديث لـ(عاين) استخدام إسرائيل والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا “وكلاء داخليين” بما في ذلك الإسلاميين لإحداث توترات ومعارضة اتفاق السلام بين الجيش والدعم السريع واستمرار حالة النزاع المسلح حتى تتحول إلى حرب أهلية لتقسيم السودان.
وزاد قائلا: “الاستراتيجية الدولية للتدخل في الشأن السوداني وتقسيمه إلى دويلات لا تتعارض مع دعواتها لوقف الحرب وخلق المنابر الدولية والإقليمية بزعم صنع الديمقراطية في السودان”. ويرى شبو، أن العالم منشغل حاليا بالصراع في الشرق الأوسط. ويقول: “علينا استغلال هذا الوضع لإعلاء الأهداف الوطنية قبل فوات الأوان”.