الموت يتسرّب للسودانيين عبر فواتير العلاج الباهظة
17 يونيو 2021
تقارن المواطنة فاطمة عثمان، (28 سنة) سعر فاتورة الدواء التي اشتريتها من صيدلية بالعاصمة السودانية مع دخلها الشهري وتقول انها اشترت ثلاثة أصناف من الأدوية بثلاثة آلاف جنيه (نحو ٧ دولار) وهذا مبلغ كبير جدا مقارنة بدخلها.
وعادت أزمة الدواء في السودان إلى الواجهة مجددا، بعد أزمة طاحنة العام الماضي أدت لندرة نسبة كبيرة من الأدوية، وبعد وفرة نسبية اخذت الأزمة بعدا جديدا حيث ارتفعت أسعار الأدوية في النصف الأول من هذا العام بصورة كارثية وصلت إلى اكثر من 1000٪ في بعض الأصناف.
وامتدت الأزمة لتلقي بظلالها على قطاع صيدليات المجتمع التي تأثرت كذلك بالتغيرات المتتابعة للأسعار مما حدا بالكثير منها إلى تكبد خسائر فادحة واضطر أصحاب بعض الصيدليات إلى إغلاقها تماما.
وكشفت جولة لـ(عاين)، عن ارتفاع أسعار الأدوية حيث ارتفع سعر الأنسولين المخلوط وهو أحد الأدوية الرئيسية لمرض السكري من 150 جنيها إلى 750 جنيها وارتفع كذلك الانسولين لانتوس من 750 إلى 4500 جنيه وهي زيادة تتراوح ما بين خمسة إلى ستة أضعاف.
– بدأت الصيدليات بإغلاق أبوابها”، يقول الصيدلاني ومالك احدى الصيدليات بالخرطوم ابوبكر العمرابي، ويضيف ” هذا الأمر بدأ تدريجيا على مدار سنوات منذ بداية أزمة الدواء وكان ملحوظا فقط لدى الصيادلة ، ولكنه الآن بات واضحا للعيان بالنسبة للجميع، حيث يلاحظ الناس فراغ ارفف كثير من الصيدليات من الادوية ثم بعد ذلك إغلاقها أبوابها”.
ويرجع العمرابي، الأسباب وراء اضطرار الكثيرين لإغلاق صيدلياتهم إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية عموما وتدهور قيمة الجنيه أمام الدولار إضافة إلى عدم وضوح السياسات الدوائية من قبل الدولة سواء كان ذلك قبل الثورة أو بعد حكومة الثورة، مؤكدا أن الأوضاع بعد الثورة ازدادت سوءا ومضت فيها الأمور المتعلقة بالسياسات الدوائية من سيئ إلى أسوأ.
-تآكل رأس المال
ويشير العمرابي، إلى أن التآكل في رأس المال هو السبب الرئيس الذي يؤدي بالصيدليات إلى الخسائر ثم إلى الإغلاق، ولشرح كيف يحدث هذا التآ كل ذكر العمرابي: أن الأدوية ملزمة بتسعيرة محددة من مجلس الأدوية والسموم السوداني يحدد فيها ربح الصيدليات بــ20٪، بمعنى أن الصيدلية اذا اشترت صنفا ب100 جنيه فانها تبيعه للمواطن ب120 جنيه ونسبة لتحرك سعر الدولار وبالتالي زيادة سعر الدواء فان صاحب الصيدلية يشتريه المرة القادمة بسعر 120 ليبيعه بالربح المحدد ثم يشتريه بسعر أعلى المرة القادمة.
يوضح العمرابي: كانت الزيادات في السابق بنسبة بسيطة تتراوح ما بين عشرة إلى عشرين بالمائة ولأنها صارت تزيد بنسب أعلى وأكثر تكرارا تصل في بعض المرات إلى أكثر من 100٪ فإن الكمية المباعة من الأدوية تشتري كمية أقل المرة القادمة ليضطر المالك للدفع من جيبه لتدارك النقص في الكميات او الرضوخ للتناقص وهو في الحالتين اما خاسر او يتعرض إلى تاكل في رأس مال صيدليته.
يقول العمرابي: يظن البعض أن الصيدليات تزداد ربحا مع تزايد الأسعار في حين أن التوصيف الأصح أن ما يحدث هو تضخم في الأسعار مع تناقص في الكميات وبالتالي خسائر الصيدليات، وتتفاقم هذه الخسائر مع تزايد وتضخم المصاريف التشغيلية من رسوم حكومية ورواتب صيادلة وغيرها.. كل هذا أدى بالعمرابي لإغلاق صيدليته ويؤكد أن من هم في مثل حالته كثيرون.
-آثار كارثية
يرى الصيدلاني الذي هجر المهنة، العمرابي، أن إغلاق الصيدليات أبوابها وعزوف الصيادلة عن الدخول في مشروع إنشاء صيدليات له آثار كارثية على القطاع الصحي، حيث أن المواطن الذي تخدمه الصيدلية المغلقة يفقد خدمة صيدلانية كانت موجهة له، كما أن الصيادلة الممارسين للمهنة صاروا يعزفون عن العمل في الصيدليات لضعف الرواتب الشهرية التي تعتبر حاليا ضمن الأقل في سوق العمل.
ويؤكد أن هذا يترتب عليه آثار اجتماعية كبيرة بفقدان الوظيفة او هجرة العقول إلى الخارج طلبا لأوضاع أفضل إضافة إلى إيجاد فراغ يملأه غير المؤهلين من مساعدي الصيادلة او غيرهم مما يؤثر على جودة الخدمة المقدمة. ويلفت عمرابي النظر إلى أن ما من جهة تهتم بتداعيات إغلاق الصيدليات او تفكر في دفع تعويضات او تقدم تمويل سواء وزارة الصحة أو إدارة الصيدلة أو المجلس القومى للصيدلة والسموم. داعيا هذه الجهات إلى تحمل مسؤوليتها والعمل على تدارك الأزمة.
-رفع الدعم عن الأدوية
من جانبه يرى رئيس جمعية المنتدى الصيدلاني السوداني، حاتم الدعاك، أن الزيادات الأخيرة في أسعار الأدوية التي وصلت إلى عشرة أضعاف تأتي كنتيجة طبيعية لسياسات الحكومة الاقتصادية المتمثلة في رفع الدعم عن السلع وتحرير الأسعار وتعويم الجنيه.
ويشير الدعاك، إلى أن إجراءات تحريك سعر دولار الدواء تدريجيا من 55 جنيها في بداية الفترة الانتقالية إلى 435 مؤخرا، إضافة إلى إلغاء رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في مايو 2020 تخصيص 10٪ من حصائل الصادرات غير البترولية لدعم دولار الأدوية المستوردة أدت إلى هذه الزيادات التي وصفها بالفلكية والكارثية، للدرجة التي تجعل من سعر بعض الأدوية يفوق الحد الأدنى من الاجور البالغ 3 آلاف جنيه، في حين أن بعض الوصفات الطبية صارت تصل إلى 10 ألف جنيه.
ويضيف الدعاك، حتى عند مقارنة هذه الأسعار مع الحد الأعلى للأجور البالغ 50 الف جنيه فإن الدواء سوف يلتهم جزءا كبيرا من دخل المواطن السوداني ذو الدخل العالي مع عجز من هم دونه تماما عن تحمل قيمة الأدوية.
– دواء مهرب
ويتأسف الدعاك، على عدم حل مشكلة الوفرة رغم السماح بهذه الزيادات الكبيرة ورفع الدعم تماما بصورة عملية عن الأدوية، فحسب الدعاك لا تزال هناك ندرة في كثير من الأدوية وبعضها ضروري ومنقذ للحياة وهي الأدوية التي توفرها الإمدادات الطبية الحكومية والتي تغطي الآن حوالي 40٪ فقط من حوجة البلاد لهذه الأدوية، مما فتح الباب إلى مشاكل أخرى مثل ظهور الدواء المهرب المشكوك في فعاليته وظروف تخزينه وطريقة نقله إلى داخل البلاد.
-مقترحات
وعن الحلول، يقترح الدعاك، على الدولة إعادة الدعم للدولار الأدوية عبر إعادة تخصيص 10٪ من حصائل الصادر، إضافة إلى توسيع مظلة التأمين الصحي وتحسين جودة وكفاءة الخدمة المقدمة عبره. بالإضافة إلى الإصلاح الإداري للمؤسسات المسؤولة عن الدواء في السودان خصوصا المجلس القومى للأدوية والسموم الذي يعاني حسب وجهة نظر الدعاك من بيروقراطية وضعف استجابة تجاه القرارات المتعلقة بالدواء فضلا عن مشاكل إجرائية في تنظيم عمل الإنتاج المحلي والمنتجين الصغار ومنح تراخيص لهم والإنتاج المحلي احد الحلول الاستراتيجية التي توفر جزءا من فاتورة الاستيراد الباهظة بالعملة الصعبة.