كيف حلت المحاكم الأهلية في دارفور بديلاً للسلطة القضائية؟

عاين- 5 فبراير 2024

بعد انهيار المؤسسات العدلية والقضائية جراء الحرب في السودان، لجأ مواطنو إقليم دارفور غربي البلاد إلى التحكيم لسلطة “القضاء الأهلي”، بدلا من السلطة القضائية الرسمية التي عطلتها الحرب المستمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ الخامس عشر من أبريل الماضي.

وتشهد ولايات دارفور نشاطاً غير مسبوق للمحاكم ذات الطابع الأهلي بصلاحيات واسعة لرجال الإدارات الأهلية نتيجة الفراغ الإداري الذي تشهده المنطقة بعد انسحاب القوات النظامية وخروج مؤسسات الدولة عن الخدمة، وبات القضاء الأهلي الجهة الوحيدة التي يلجأ إليها المواطنون في نطاق واسع من الإقليم، في ظل غياب النظام القضائي الرسمي

وتسببت المواجهات بين قوات الجيش الدعم السريع في انتشار غير مسبوق في معدلات الجريمة وحالة من الانفلات الأمني في الإقليم الذي يعاني الهشاشة في البنى تحتية للمؤسسات العدلية والقضائية قبل اندلاع القتال.

وبدت حاجة الناس للفصل في النزاعات أشد إلحاحاً من أي وقت مضى، في وقت لا يجد كثير منهم جهة يلجأون إليها لرد حقوقهم. وفتح غياب النظام القضائي في دارفور الباب واسعاً أمام قيادات الإدارات الأهلية في الإقليم للعودة إلى ممارسة سلطاتهم القضائية التقليدية التي فقدوها لعشرات السنين

وقبل اندلاع الحرب الجارية ظل الإقليم الشاسع يعاني نقصاً كبيراً في عدد المحاكم القضائية، وتوجد دور المحاكم والنيابات العدلية في عواصم الولايات، وكان ذلك أحد أسباب عدم استقرار المنطقة لنحو (20) عام الماضية.

وبعد سيطرة قوات الدعم السريع على أربع ولايات في دارفور فتحت مراكز الشرطة في كل المناطق التي تخضع لسيطرتها، وتمارس صلاحيات رجال الشرطة في القبض، وحبس بمساعدة مستشارين قانونين، وتنفذ القرارات التي تصدر من المحاكم الأهلية التي تفرض رسوما مالية نظير خدماتها.

ومنذ الخامس عشر من أبريل الماضي اختفت مظاهر الدولة في دارفور، وتحولت المؤسسات العدلية والقضائية إلى ثكنات عسكرية لقوات الدعم السريع التي تسيطر على أربع ولايات رئيسية من بين خمس ولايات في الإقليم.

إثبات وجود

تحاول قوات الدعم السريع فتح محاكم ومنح الإدارة الأهلية سلطات قضائية عبر مساعدة مستشارين قانونيين بغطاء الأجسام الأهلية، وذلك لإثبات وجودها من خلال ملء الفراغ الدستوري والإداري في الولايات تسيطر عليها في دارفور”. عضو في اللجنة التسييرية لنقابة المحامين في ولاية جنوب دارفور لـ(عاين).

ما تقوم به الدعم السريع عمل ليس له أي سند دستوري ومخالف للقوانين، ويجعل الأوضاع أكثر تعقيداً”. يتابع عضو نقابة المحامين بجنوب دارفور والذي فضل حجب اسمه.

 

في وقت يُقلق انسحاب الشرطة والجيش من ولاية جنوب دارفور المواطن جمعة عيسى رجب المقيم بمحلية مرشيج في الولاية. ويقول في مقابلة مع (عاين): “أن المواطنين في أشد الحاجة إلى وجود جهة يشتكون إليها، وأن وجود المحاكم الأهلية في الوقت الحاضر أفضل بكثير من عدمها“.

 في السابع عشر من يناير نشرت قوات الدعم السريع على حسابها في منصة (X) إن المجلس الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع سمى قائمين على أمر السلطة القضائية والنيابة العامة والشرطة والإدارات الأهلية لتتولى إدارة المنطقة بجنوب الخرطوم الأمر الذي اعتبرته اللجنة التسيريه لنقابة المحامين تطوراً خطيراً في مآلات الحرب من شأنه أن يجهض كل المساعي الجادة المبذولة لوقف الحرب.

يرى “عبد المنان موسى” إحدى قيادات الإدارة الأهلية في شرق دارفور، أن الإدارة الأهلية بالولاية تقوم على معالجة القضايا وحل المشاكل التي تحصل بين الأفراد، وذلك في محاولة تدارك الفراغ في السلطة العدلية والقضائية بسبب الحرب التي تمر بها بالبلاد

وأشار مسؤول الإدارة الأهلية في مقابلة مع (عاين) إلى أنهم يحاولون إدارة شأنهم المحلي بالطرق الأهلية وفق صلاحياتهم العرفية المحلية المتاحة، وأنهم ينظرون في جميع القضايا بما فيها القضايا الجنائية، ولديهم تنسيق مع المجتمعات الأهلية المماثلة في المنطقة بشأن المجرمين وحل الخلافات وفق الأعراف المحلية المتعارف عليها.

"سباق تسليح الأهالي".. من يصنع الموت بجنوب كردفان؟

وتابع قائلاً: “نعمل بموجب التفويض الذي منحنا له مجتمعنا المحلي، والكل الآن يبحث عن جهة يلجأ إليها في الشكاوى والبلاغات، ورأينا أن وجود سلطة يتقاضى إليها الناس أفضل من عدم وجودها“.

وعزا المسؤول الأهلي إنشاء المحاكم إلى منع الناس من التفكير في أخذ حوقهم بالقوة، وأن الإدارات الأهلية بالولاية تمارس دورها للمحافظة على المجتمعات المحلية، مشيرا إلى أنهم يعملون على حل النزاعات والخلافات بين الأفراد بعد الفراغ القضائي، واصفاً المحاكم الأهلية بالعمل القضائي الشعبي الذي يستند إلى صلاحيات شعبية أهلية ممنوحة من المجتمع المحلي -بحسب تعبيره.

ويشير المسؤول الأهلي، إلى أنهم طوروا محاكم أهلية في شكل “مجالس العمد” تتماشى مع الأوضاع التي تمر بها البلاد حتى يمكنهم المحافظة على استقرار مناطقهم.

ويضيف: أن “مجالس العمد، منتشرة في كل وحدة إدارية مهمتها تلقي والنظر في القضايا التي تصل من الناس، وتصدر فيها أحكام تكون نافذة على الطرفين المتقاضيين، وأن المجالس تنعقد بصورة راتبة في رئاسة المحليات، وتنظر في البلاغات الجديدة، لافتاً أن كل القضايا التي فصلت فيها مجالس العمد بشرق دارفور مرضية ومنصفة للأطراف“.

تحديات

ورغم من القبول الذي وجدته المحاكم الأهلية وسط المجتمعات المحلية في دارفور، إلا أنها تواجه تحديات في النظر إلى الجرائم ذات الطابع الجنائي، ولا تستطيع إصدار أحكام السجن، ولا توجد سجون رسمية، علاوة على عملية القبض على المجرمين خاصة في ظل حالة الفوضى الأمنية التي تعيشها المنطقة، بجانب الاتهام التي تواجهها بشأن علاقتها بقوات الدعم السريع وتأثر هذه القوات على الأحكام التي تصدرها المحاكم الأهلية.

تنفي محاكم الإدارات الأهلية مراراً علاقتها بالدعم السريع، لكن الواقع يكذّب ذلك لجهة أن عمل المحاكم الأهلية يتم بالتنسيق مع القوات في عمليات القبض على المتهمين والحبس، التي تنفذ بطريقة مباشرة من عناصر قوات الدعم السريع المتواجدين في أقسام الشرطة بجانب تحرير طلبات الاستدعاء وأوامر القبض.

في مدينة نيالا ثاني أكبر المدن السودانية عزا “محمد أحمد عبدالله”، عضو لجنة الطوارئ في ولاية جنوب دارفور وجود محاكم الأهلية كسلطة قضائية شعبية إلى ضرورة المرحلة الاستثنائية التي تمر بها ولايات دارفور بعد انسحاب القوات الأمنية وموظفي الدولة

وقال عضو لجنة الطوارئ لـ(عاين): إن “رغم أن وجود المحاكم الأهلية غير دستوري، لكنها تقوم بدور مهم في مدن ومحليات الولاية، وساعدت على ملء الفراغ الذي أحدثه غياب السلطة القضائية، ومهم وجودهم حاليا إلى حين عودة مؤسسات الدولة القضائية والعدلية الرسمية“.

مملكة تقلي: حضور في التاريخ وتجاهل في الحاضر

في الخامس عشر من يناير أصدر التجاني الطاهر كرشوم حاكم ولاية غرب دارفور قراراً قضى بإنشاء (20) محكمة للطوارئ بمحليات الولاية وترك القرار الباب مفتوحاً لقيادة المحليات لاختيار رؤساء وأعضاء محاكم الطوارئ على أن تكون برئاسة قاضي وعضوية الإدارات الأهلية بالمنطقة المعنية، ورحبت الإدارات الأهلية بالقرار لجهة أن قرار الوالي أكسبها الصبغة الرسمية بجانب التفويض المستمد من المجتمع المحلي.

وفقاً لقرار الوالي الذي اطلعت عليه (عاين)، فإنه في حال تعثر حل أي قضية تُحَال إلى قاضي محكمة الطوارئ بالولاية في وقت لا يوجد أي قاض أو محكمة رسمية بالولاية منذ الرابع عشر من أبريل الماضي.

طمس الجرائم

يرى عضو لجنة المحامين الديمقراطيين بولاية غرب دارفور، محمد شريف، أن إنشاء محاكم من قبل الدعم السريع حاليا يعتبر محاولة فاشلة لطمس الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت في حق المدنيين بدارفور، وأن المحاكم الأهلية تتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالدعم السريع، لجهة أن الأخير متهم بتوفير الدعم اللوجستي لنشاط المحاكم الأهلية.

وأشار شريف في مقابلة مع (عاين) أن الإدارات الأهلية في دارفور ما عادت الجهة المحايدة التي يحتكم إليها المواطنون، لجهة أنها طرف أصيل في الصراع الجاري، ولا يمكن أن تتولى شأن محاكم تحت الغطاء الأهلي، وأن وجود أي محكمة ذات طابع أهلي أو قضائي لا تخلو تأثير الدعم السريع، ويعتبر انتهاك للأعراف والقوانين لجهة أنها لا تستند للوائح ومعايير قانونية.

من جانبه يفسّر عضو مركز دراسات السلام التابع لجامعة نيالا، محمد آدم حسن، نشاط محاكم أهلية تقليدية في ولايات دارفور هو نتاج طبيعي للفراغ الإداري جراء الحرب، مما أعاد المحاكم التقليدية وصلاحيات رجال الإدارات الأهلية بطريقة تلقائية.

ويشير آدم في مقابلة مع (عاين)، إلى أن المجتمعات المحلية في دارفور مهيأة لنظام القضاء الشعبي العرفي الذي يعرف بـ”الجودية” وفي كثير من المناطق التي لا توجد فيها محاكم رسمية يحتكم الناس إلى مجالس الإدارة الأهلية.

ولفت الخبير في دراسات السلام، إلى أن الحكومات السابقة حاولت اعتماد هذه المجالس، وحولتها لمحاكم شعبية تحت إدارة النظام القضائي الرسمي، لكن ألغت المحاكم الشعبية لأسباب التقاطعات الإدارية بين القبائل.