الحكومة الانتقالية وقضايا السلام رؤية جديدة أم إعادة إنتاج الفشل
تقرير: عاين 27أغسطس 2019م
ظلت أهمية وقف الحرب وإرساء السلام، قضية استراتيجية في السودان منذ نشوب الحرب الاهلية في “توريت” في جنوب السودان فيما عرف بـ تمرد توريت قبل استقلال البلاد عن الاستعمار البريطاني. وما من حكومة مدنية أو عسكرية مرت علي البلاد إلا وكانت الحرب هي حجر العثرة الذي فشلت فيه وقادت البلاد الى الخراب والإفلاس، بل انها تساعد الجماهير في وسط البلاد في الإطاحة بالدكتاتورية بعد ارهاق خزائنها بسبب الحروب في الاطراف. وفشلت الحكومات المدنية في البلاد لمرتين في تحقيق السلام المستدام رغم محاولات عقد مؤتمر “المائدة المستديرة” عقب ثورة أكتوبر 1964، وكذلك مؤتمر “كوكادام” و “اتفاقية الميرغني قرنق” عقب انتفاضة أبريل 1985.
الآن وبعد الإطاحة بديكتاتور ثالث في البلاد، هو عمر البشير الذي وصلت الحروب في عهده مداها الأقصي فصلا الجنوب، وابادة جماعية في دارفور وغيره ، تواجه القوى السياسية السودانية تحد تحقيق السلام في البلاد من جديد، فهل تتجاوز تجربة اليوم فشل الماضي أم تعيد إنتاج حلقات الشر السابقة ليتم الاطاحة بالديمقراطية مرة أخرى؟ وماهي الأسباب الجذرية وراء الخلافات الراهنة بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية التي تضم عددا كبيرا من الحركات المسلحة اضافة للخلافات مع حركات التمرد خارج نطاق الجبهة الثورية أيضا.
ناقوس الحرب والسلام
قبل أن يتم توقيع اتفاق اقتسام السلطة بين المجلس العسكري وقوي الحرية والتغيير صعدت الجبهة الثورية من اعتراضها علي العملية برمتها، وأعلنت رفضها قبول الوثيقة الدستورية التي بني عليها الاتفاق. مشيرة إلى وجود خلافات في ما يتعلق بكيفية تحقيق السلام في البلاد، متهمة حلفاءها في الحرية والتغيير بتجاوز الاتفاق بين الأطراف الذي تم في أديس أبابا مؤخرا. وأوضحت الثورية ان الوثيقة الدستورية حوت النص (69) الذي يعرقل امكانية تعديل الإعلان الدستوري في حال التوصل لاتفاق سلام.
يقول المتحدث باسم الجبهة الثورية دكتور محمد زكريا لـ(عاين) ان اسباب رفض الجبهة الثورية للاتفاق بين العسكري وإعلان قوي الحرية والتغيير، أنها لم تكن طرفا في الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي، وطالبنا بضرورة تصحيح الوضع الإداري والهيكلي في الحرية والتغيير كي يمثل كل الأطراف.ويمضي زكريا للقول بان قوي الحرية والتغيير تجاهلت الرؤية الاستراتيجية للسلام التي طرحتها الجبهة الثورية. “كجبهة ثورية، حرصنا على إحلال السلام، وكانت مبادرة وقف العدائيات من جانبا، حرصا منا على تحقيق السلام، وايضا انعقدت اجتماعات أديس أبابا ضمت قوى الحرية والتغيير، كل ذلك خطوات عملية اتخذناها من أجل السلام”. ويوضح زكريا أن الجبهة الثورية لديها ملاحظات عديدة على الوثيقتين الدستورية والإعلان السياسي، مشددا على ضرورة ادراج رؤية السلام كاملة في الاتفاق الدستوري والإعلان السياسي.
يضيف زكريا “تفاجأنا أن أطراف في قوي الحرية والتغيير تجاهلت ما دار في أديس أبابا، وهذا يعكس وجود خلل هيكلي في قوى الحرية والتغيير، أن هذا الخلل اربك المشهد السياسي السوداني”. ويمضي زكريا للقول بأن “ما وقع في الخرطوم يتعارض ما دار في أديس أبابا، ولم نجد اجابة من أطراف قوي الحرية والتغيير، وكل ما وجدناه تبريرات واهية، الجبهة الثورية تؤكد لن تكون هناك عملية سلام في حالة تجاوز ما اتفق عليه، لان الاعلان الدستوري بدلا أن يرصف الطريق لمفاوضات السلام، قام بأدراج نص المادة 69 التي تمثل عقبة اساسية في انطلاق عملية سلام في المستقبل، وهذا يعني أن مفاوضات السلام لا يمكن أن تحدث، وهذا غير مقبول من جانبنا”.
اعتراضات
حركة جيش تحرير السودان، قيادة اركو مني مناوي، أكدت من جانبها التمسك باهمية تحقيق السلام كقضية ضرورية وأساسية في التحول الديمقراطي.و يقول المتحدث باسمها محمد حسن لـ(عاين) ان كل الديمقراطيات فشلت، لأنها تجاوزت عملية السلام، ولم تعرها اهتماما، وطالما أن الحرب مستمرة، فالاستقرار سيكون معدوما. ويؤكد حسن وجود نقطتين خلافيتين مع قوى الحرية والتغيير، اولا بخصوص سيادة بنود اتفاقية السلام علي الاعلان الدستوري، والنقطة الثانية، أن قوى الحرية والتغيير تجاوزت ما اتفقت عليه في أديس أبابا مع الجبهة الثورية، وحذفت اسمها من نصوص الباب الخاص بالسلام الموقع في إثيوبيا.
حركة العدل والمساواة التي ضمت صوتها للرافضين للوثيقة الدستورية الموقعة بين المجلس العسكري وقوي الحرية والتغيير، متهمة قوي الحرية والتغيير بالتلاعب ومحاولة شراء الوقت. ويقول المتحدث باسم حركة العدل والمساواة، معتصم أحمد لـ(عاين) ان قوى الحرية والتغيير ان العديد من القضايا الجوهرية لم تدرج في الوثيقة الدستورية، مثل، البند الخاص باعادة تشكيل أجهزة السلطة الانتقالية لاستيعاب اتفاق السلام الشامل، وإعادة هيكلة القوات النظامية لضمان قوميتها، عدم عقد المؤتمر الدستوري.
جذور الأزمة
قوى مسلحة أخري خارج الجبهة الثورية، سجلت رفضها للاتفاق بين العسكر وقوى الحرية والتغيير. و يصف الناطق الرسمي باسم حركة/ جيش تحرير السودان، محمد الرحمن الناير ل(عاين) الاتفاق بين قوى الحرية والمجلس العسكري، بأنه اتفاق مساومة، لا يعبر عن مواقف وأهداف الثورة، وشعاراتها التي أسقطت النظام، ونادت بتصفية مؤسساته، وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية انتقالية تقود السودان إلى الديمقراطية، ودولة المواطنة المتساوية،. “الذي حدث عبارة عن مساومة، وصفقة ثنائية مثل سابقاتها، ولن تنجح في جلب السلام والاستقرار للسودان، بل انها ضاعفت من الأزمة الوطنية.
ويعتبر الناير أن هذه التسوية الثنائية بمثابة سرقة للثورة السلمية، و خيانة لدماء الشهداء التي سالت، وتخلي عن أهداف وشعاراتها، وتعمد وأد أحلام جماهير في التغيير الشامل، ويعتقد انه قبول على تقاسم السلطة مع اللجنة الامنية للبشير، وهذا يعني بقاء نظام المؤتمر الوطني الذي يعتبره، أنه بدل جلده عبر انقلاب جنرالات، وتغييب بعض الوجوه، وابراز وجوه جديدة لقيادة المرحلة.
ويؤكد الناير ان قضية الحرب والسلام، هي قضية مركزية للبلاد، ولا يمكن معالجتها بمعزل عن الحديث عن جذور الأزمة، والاسباب التي ادت الى رفع السلاح في وجه السلطة، وإيجاد الحلول الناجعة له، ويطالب الناير يكون الاعتراف بالمظالم التاريخية التي وقعت على بعض الشعوب الاصيلة، ورد الاعتبار لهم، والسعي إلى معالجة كافة أشكال التهميش والإقصاء في إطار دولة المواطنة المتساوية، وكذلك دون إغفال لمعالجة إفرازات الحرب من تعويض فردي وجماعي للنازحين واللاجئين، وضحايا النظام من سياسات الخصخصة والصالح العام، ويجدد المطالبة باعادة هيكلة مؤسسات الدولة وفق اسس قومية جديدة، ومحاسبة المتورطين بجرائم الابادة وجرائم التطهير العرقي والجرائم ضد الانسانية، ثم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وتسليم المطلوبين للعدالة.
انتكاسة
عادل موسي من معسكر كلمة للنازحين بولاية جنوب دارفور، يرى أن اتفاق إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري، مجرد انتكاسة للمد الثوري، مشيرا إلى ان الاتفاقية لا تمثل شعب الهامش ، معتبرا اياها محاولة لإنتاج السودان القديم، القائم على التهميش والعنصرية، وتهميش الآخر، وعدم الاعتراف به. “هذه الاتفاقية لا يمكن لا تنقل السودان الى أي مربع جديد، يحقق عملية سلام عادل، والاتفاق الذي وقع عليه قادة الابادة الجماعية والاغتصاب في دارفور، ونحن بسببه الان موجودين في المعسكرات، واي اتفاق عن طريقهم مستحيل، لدينا غبن تاريخي تجاه مرتكبي الجرائم، و كنازحين لا نقبل به”. ويقول موسى ل (عاين) “ان أي اتفاق لا يضم كل أطراف الشعب السوداني، لا يمكن ان يحقق السلام الشامل، سواء كان في دارفور أو في المناطق الأخرى المتضررة من النزاعات”.
ويضيف ان “الاتفاق لم يخاطب كل جذور المشكلة بدارفور او السودان عموما، ولم يضم كل اصحاب الوجعة الحقيقيين، وليس فيه ممثل للنازحين، واللاجئين في عملية التفاوض، والنخب المركزية تريد فرض سلام مركزي، نفس سياسات نظام عمر البشير السابق، ويتم فرض عملية السلام عن طريق القوة”. ويمضي موسى إلى التأكيد بأن وجود قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي ضمن معادلة التسوية الجديدة يعد أحد أكبر العقبات أمام السلام. “حميدتي أعطاه الرئيس السابق الحق في الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين، وهو الآن نائب رئيس المجلس العسكري، واهله موجودين في القري التي طرد أهلها، إذن كيف تتم عملية سلام؟”.
تطمينات
وفي المقابل، تعمدت قيادات قوى الحرية والتغيير إرسال تطمينات كثيفة لحلفائها في الجبهة الثورية، مشددين علي اهتمامهم بقضية السلام وأهمية وقف الحرب وتحقيق حلول عادلة لقضايا الهامش. ويقول الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني، خالد عمر يوسف، ان قضية السلام والديمقراطية يرتبطان ببعضهما البعض دون فكاك ولا يمكن تحقيق واحدة دون الأخرى. ويحث أجهزة السلطة الانتقالية ان تعمل على إنهاء النزاعات في مناطق الحروب.
فيما يقلل القيادي بقوي الحرية والتغيير، مدني عباس مدني، من الخلافات بين الحرية والتغيير والجبهة الثورية، مؤكدا قدرة التحالف علي حلها بعدالة. ويري مدني ان الاسباب التي جعلت قوي الحرية والتغيير قادرا على ادارة التغيير كونه، اكبر تحالف في التاريخ السياسي السوداني، وضم كل المكونات بما فيها الجبهة الثورية، ويقول مدني لـ(عاين) ان وجود الخلافات في تحالف عريض مثل قوي الحرية والتغيير أمر طبيعي، مضيفا بأن وجود الجبهة الثورية ضمن قوي الحرية والتغيير يعد أضافة كبري. “وجودها كان اضافة لتحالف قوي الحرية والتغيير، ونحن حريصين أن أي اختلاف يحدث بين قوى الحرية والتغيير، يتم حله، والاختلافات الحالية مع الجبهة الثورية ليست جوهرية ويمكن حلها”. ويخلص إلى ان ” الخلافات مرتبطة بتخوفات بشأن الضمانات التي يمكن أن توفر في اتفاقيات السلام وتأكيد تضمينها في الدستور. ويعتبرها مدني نقاط محدودة، يمكن التوصل لحلول لها، واستمرار اللقاءات بيننا في القاهرة وغيرها هو دليل على بناء الثقة بين الأطراف”.