شبكات تضع استخراج أوراق الهوية السودانية في (السوق السوداء)
15 فبراير 2022
في أغسطس العام الماضي أعلنت وزارة الداخلية السودانية انفراج أزمة استخراج الجوازات وأوراق الهوية عقب سلسلة من الأزمات التي أدت إلى بقاء مئات الآلاف من المواطنين في طوابير طويلة للحصول عليها من مراكز الشرطة بالعاصمة والولايات.
في ذلك الوقت كانت الأزمة بلغت ذروتها جراء مطالبة وزارة الداخلية بتوفير نحو عشرة ملايين دولار لدى البنك المركزي لحل الأزمة باستيراد مدخلات الطباعة والإجراءات الفنية المستخدمة في استخراج الوثائق الشخصية سيما “جوازات السفر” مع موجة هجرة غير مسبوقة للسودانيين بسبب الازمة الاقتصادية.
قائمة الانتظار
في مجمع إدارة “العلاقات البينية” شرق العاصمة السودانية والتي تديرها الشرطة لاستخراج “جوازات السفر” و”البطاقة الشخصية” و”ترخيص السيارات” و”رخصة القيادة” يصطف المئات يوميًا للحصول على هذه المستندات بينما تفرض وزارتي المالية والداخلية رسوما مالية يصفها المواطنون بـ”الباهظة”. ارتفعت قيمة إصدار “جواز السفر” من ألفي جنيه (مايعادل 5 دولار أمريكي) نهاية العام الماضي إلى عشرة آلاف جنيه (24 دولارا) ورغم الزيادات التي طبقت مؤخرا لكن من الصعب الحصول عليه في غضون أيام.
وتؤكد “صابرين” 24 عاما وهي طالبة تقدمت بطلب للحصول على “جواز السفر” من مجمع للشرطة في العاصمة السودانية في مقابلة مع (عاين)، إنها دفعت عشرة آلاف جنيه ضمن إجراءات طلب الجواز وقضت ثلاثة أيام في الطوابير داخل مركز للشرطة عندما تلقت إخطارا رسميا باستلام الجواز . وانتظرت هذه الفتاة أربعة أشهر حتى عثرت على وسيط (سمسار) تمكن من إحضار جوازها خلال يومين فقط وحصل على 25 ألف جنيه وتضيف: “المشكلة الرئيسية في استلام الجواز وليست الإجراءات داخل المجمع فهي مرنة”.
وفي الشهور الأخيرة خاصة بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية ورغبة ملايين السودانيين للهجرة بدوافع تحسين الوضع المالي ظهرت في مراكز الشرطة التي تعمل في إصدار “جوازات السفر” و”رخصة القيادة” و”البطاقة الشخصية “سوق سوداء” مهمته تقديم خدمة تسريع الإجراءات التي تبدأ من النوافذ وتنتهي عند تسلم الشخص للوثيقة الخاصة به في غضون ساعات أو أيام في بعض الأحيان إذ تخضع فترة الانتظار إلى المساومة وحسب مصطلح متداول بين أفراد هذه المنظومة للمبالغ المالية التي يدفعها الشخص مقابل تسريع الوثيقة يسمى “العمولات”.
هذه المجموعة بحسب مصدر شرطي سابق في مجمع الجوازات بالعاصمة تمتد إلى داخل المكاتب وتبدأ من “السمسار” والذي قد يكون متقاعدا من الخدمة في هذه المراكز ولديه شبكة علاقات واسعة قد تمتد إلى غالبية المراكز.
وأدلى هذا المصدر بتفاصيل لـ(عاين) مشترطا حجب الاسم لغرض الحماية من الملاحقة الأمنية والذي يرى أن الأزمة الاقتصادية دفعت بعض منسوبي هذه المجمعات للتعامل مع “السماسرة” باقتسام العائدات يوميا نظير تسريع إجراءات الأشخاص الذين يودون التعامل مع “السوق السوداء” للأوراق الثبوتية وجوازات السفر ورخصة القيادة وترخيص المركبات.
الدولة تتعامل مع معاملات مراكز السجل المدني مصدرا للإيرادات المالية وليست كـ “خدمة ضرورية” لمواطنيها بالتالي العقلية السائدة تركز على الجبايات على حساب الإصلاحات
مواهب ميرغني محللة في دراسات الهجرة والإحصاء
مقاومة الإصلاحات
وأشار إلى أن وزارة الداخلية قبل أربعة سنوات طبقت إصلاحات عميقة في المجمعات الخاصة بالأوراق الثبوتية ورخصة القيادة والسجل المدني وأصبحت الإجراءات مرنة للغاية لدرجة أن الشخص يتسلم جوازه خلال ثلاثة أيام لكن مؤخرا وفي ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة أصبح من الصعب استمرار الإصلاحات.
وتحتفظ سجلات الشرطة بوجود نحو نصف مليون طلبات للحصول على “جواز السفر” و”رخصة القيادة” و”البطاقة الشخصية” و”ترخيص المركبات” هذه الإجراءات تستغرق عادة أسبوعا إلى ثلاثة أيام لكنها في ظل الأزمة تستغرق شهرين إلى شهر بحسب مصدر شرطي.
ويكشف المصدر الشرطي الذي عمل في مركز يتبع لوزارة الداخلية متخصص في استخراج الأوراق الثبوتية للمواطنين إن : “ما يحدث في قضية الجوازات ورخصة القيادة وترخيص المركبات فساد تديره منظومة داخل هذه المراكز ومن الصعب محاربتها إلا بإصلاحات جذرية بالاطاحة بها”.
وأردف:”يذهب أحد مندوبي هذه المنظومة إلى مصنع الجوازات حاملا قائمة الأشخاص الذين يتعاملون مع السوق السوداء مثلا في الجواز بعض القوائم تدفع 200 ألف جنيه (500 دولار) للاستلام خلال يومين وبعض القوائم تدفع 150 ألف جنيها للاستلام خلال ثلاثة أيام”.
وفي ظل فراغ حكومي وعدم وجود مشرعين برلمانيين من الصعب توجيه استفسار لوزارة الداخلية حول أزمة الجوازات ومكاتب الشرطة التي تعمل في السجل المدني بحسب نشطاء إذ أن وزارة الداخلية واحدة من المؤسسات التي تواجه قضايا الإفلات من المحاسبة في ملفات عديدة أبرزها كيفية ادارة انشطتها الاقتصادية والشركات التابعة لها والتي تدر ملايين الدولارات سنويا.
أسوأ تصنيف
ويشير المحلل في دراسات الهجرة والسكان عادل كمال لـ(عاين)، إن المعايير الدولية تصنف السودان ضمن اسوأ البلدان فيما يتعلق بالإجراءات المتعلقة بـ مواطنيها ورعايا الدول ويسجل بين الفينة والأخرى تدهورا مريعا في هذا الصدد. ويعتقد كمال، أن وزارة الداخلية ذات مهام مدنية لكنها تتبع إلى العسكريين الذين هيمنوا على المواقع التي تدر إيرادات هائلة بما في ذلك مطار الخرطوم وعجز المدنيون قبل الانقلاب في إحداث تحول في هذه المؤسسة ذات الطابع المدني.
وأضاف : “لم تكن الحكومة الانتقالية تملك تصورا حول المهام الجسيمة الملقاة على عاتقها ولم تتمكن من تفكيك وزارة الداخلية وإجراء اصلاحات جذرية وتركتها تحت ادارة الجيش بالتالي ما يحدث أمر طبيعي”. وأردف : “أزمة مراكز الشرطة ومجمعات السجل المدني أكبر من مجرد إجراءات روتينية يجب أن تخضع لولاية الحكومة المدنية لديها قدرة على رسم سياسات ذات جودة عالية”.
في الشهور الماضية تعاملت مراكز وزارة الداخلية السودانية مع (1.5) مليون مواطن ورعايا دول أجنبية فيما يتعلق بالإجراءات الخاصة بالسجل المدني والهجرة.
عادة تستغرق المعاملات في مراكز خدمة الجوازات والسفر ورخصة القيادة والبطاقة الشخصية وجميع الإجراءات المتعلقة بالأشخاص ورعايا الدول طبقا للمعايير العالمية 48 ساعة إلى 12 ساعة عبر التعاملات الإلكترونية بينما ينتظر السودانيون ثلاثة إلى أربعة أشهر لاستلام الجواز او رخصة القيادة وفي بعض الأحيان ستة أشهر إذا تخليت عن فكرة اللجوء إلى “سماسرة المجمعات”خاصة في العاصمة.
وتقول موظفة في وكالة سفر شرق العاصمة لـ(عاين) : “من خلال تعاملنا مع هذه المراكز لدينا تجارب مريرة جدا في الغالب يتحول غالبية العاملين فيها إلى لكسب المال عن طريق استلام رشاوى مالية لتسريع الإجراءات للأشخاص المتعجلين”.
وأضافت : “في ظل تدني الأجور مقارنة مع التضخم الهائل في المعيشة خاصة العامين الأخيرين يلجأ بعض موظفي هذه المراكز سيما رجال الشرطة وهم على صلة بالسماسرة لتحسين وضعهم الاقتصادي”. وتضيف : “سلسلة منظومة فساد في هذه المراكز تمتد من خارج المكاتب إلى داخلها ووصولًا إلى بعض الرتب التي لديها علاقة مباشرة مع تسريع الإجراءات”.
عرقلة
وأجرت وزارة الداخلية محاولات متكررة لإصلاح الوضع في هذه المجمعات بحسب مصدر التقته (عاين)، لكنها جميعا تصطدم بالفراغ الحكومي وعدم وجود خطط رسمية وغياب المؤسسة التشريعية إلى جانب وجود مراكز نفوذ تعرقل هذه الإصلاحات. ويرى هذا المصدر أن الأمور ازدادت سوءً بعد تبعية وزارة الداخلية للمكون العسكري في مجلس السيادة الانتقالي بحسب الوثيقة التي وقعها المدنيين مع العسكريين في أغسطس 2019 بدلا من تبعية “الداخلية” لمجلس الوزراء فنيا واداريا ودستوريا.
وزاد المصدر : “صلاحيات رئيس الجمهورية اغلبها آلت إلى رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك لكنه لم يتمكن من استخدامها ومن ضمن هذه الصلاحيات تبعية وزارة الداخلية للحكومة المدنية …أقصى ما كان يفعله حمدوك هو التنسيق مع وزير الداخلية بدلا من إصدار قرارات ناجعة” يقول هذا المصدر.
وتتوقع الإحصائيات حسب عدد الذين ترددوا على هذه المجمعات العام الماضي أن يقفز العدد إلى 4 ملايين شخص هذا العام بينما صممت البنية التحتية للمنشآت الخاصة بتصنيع “جوازات السفر” و”رخصة القيادة” و”شهادات المواليد” “وترخيص المركبات” و”البطاقة الشخصية” و”معاملات متعددة” لمليوني شخص سنويا وهذا يعني ان وزارة الداخلية ستلجأ إلى تحميل المنشآت فوق طاقتها لإنتاج أكبر قدر من الوثائق والحصول على الرسوم المالية بحسب المصدر.
تدخلات سياسية
بينما تعتقد مواهب ميرغني وهي محللة في دراسات الهجرة والإحصاء أن معالجة الازمة في وزارة الداخلية فيما يتعلق بالسجل المدني تتطلب تدخلات سياسية وليست فنية فقط. وترى ميرغني، أن الدولة تتعامل مع معاملات مراكز السجل المدني مصدرا للإيرادات المالية وليست كـ “خدمة ضرورية” لمواطنيها بالتالي العقلية السائدة تركز على الجبايات على حساب الإصلاحات.
وترى ميرغني، أن “الداخلية” طالما تحقق ربطها المالي سنويا من هذه المراكز في ذات الوقت غير متحمسة لاجتثاث “منظومات الفساد”. بالنسبة للمحلل في دراسات الهجرة والسكان عادل كمال “رأي سوداوي” فهو يتوقع انهيار الخدمات المدنية إذا سارت الأوضاع بهذا الشكل لفترة قادمة لأن المنظومة الفاسدة قد تحاول مواكب الأزمة الاقتصادية وترفع قيمة “الرشاوى” وتحد من طلبات ملايين السودانيين للحصول على الوثائق الشخصية وهي حقوق أساسية للمواطنين.
وزارةالداخلية لديها تجربة تجنيس رعايا بعض الدول العربية ولم يحاسب مسؤوليها السابقين على هذه القضايا بعد سقوط نظام المخلوع والذي كان يدير هذه الملفات تحت رعاية أشقاء البشير”.
عادل كمال المحلل في دراسات الهجرة والسكان
وتابع: “الخطورة لا تقتصر على خدمة الوثائق الشخصية فقط لكن في حدوث عملية تجنيس لأجانب قد يتحولوا ناخبين جدد في أي انتخابات قادمة خاصة وأن الداخلية لديها تجربة تجنيس رعايا بعض الدول العربية ولم يحاسب مسؤوليها السابقين على هذه القضايا بعد سقوط نظام المخلوع والذي كان يدير هذه الملفات تحت رعاية أشقاء البشير”. وقال كمال، إن وزارة الداخلية يجب أن تنشر عناصر شرطية مدربة داخل مجمعات تحث المواطنين على عدم التعامل مع “سماسرة الرشاوى” وتقدم إرشادات لهم وتعريفهم بمكاتب الخدمات لأن بعض الأشخاص يتعاملون مع “شبكة العمولات” نتيجة غياب المعلومة.