مخاوف وصفقات.. مثلث حدود السودان ومصر وليبيا
عاين- 12 يوليو 2025
في قلب صحراء قاحلة، تُدار جملة من التناقضات السياسية والعسكرية بهدوء متناه، تلك الصورة تلخص الواقع الذي تشكل بعد سيطرة قوات الدعم السريع على مثلث عوينات الحدودي بين السودان ومصر وليبيا في يونيو الماضي، ومنذ ساعتها برز ما يشبه التفاهمات العالية بين أطراف كانت على عداء في السابق.
تناقضات يترجمها الدعم المصري الإماراتي المشترك، للجيش الليبي بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في الوقت الذي تقف فيه القاهرة مع الجيش السوداني في حربه ضد قوات الدعم السريع الذي يحظى هو الآخر بدعم من أبو ظبي، وحفتر.
ومنذ دخول قوات الدعم السريع إلى المثلث وما أحدثه من ربكة لهذه التحالفات التي تتسم بالطابع المعقد، انخرطت تلك الأطراف في مشاورات مكثفة معظمها كان في العاصمة المصرية القاهرة، وسط سياج من السرية على مخرجاتها، لكن انصب مجملها في محاولة معالجة هواجس ومخاوف كل طرف، وفق معلومات جمعتها (عاين).
والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 30 يونيو الماضي أي بعد نحو أسبوعين من سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث، اللواء خليفة حفتر ونجليه صدام وخالد في مدينة العلمين المصرية، وبحث معهم الأوضاع في ليبيا؛ لأن استقرارها جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، وفق بيان من الرئاسة المصرية.
وفي 4 يونيو أي قبل أسبوع من اجتياح قوات الدعم السريع المثلث الحدودي، التقى الرئيس المصري، بالرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد في مصر، وكان الملف السوداني حاضراً.
تلقى البرهان وعد مصري بعد استخدام قوات الدعم السريع المثلث منصة انطلاقة لمهاجمة الولاية الشمالية
مصدر مقرب للجيش السوداني
حراك اختتم بلقاء جمع رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، واللواء خليفة حفتر برعاية السيسي في مصر مطلع يوليو الجاري، بهدف تخفيف التوتر بين الجانبين، إذ يتهم الجيش السوداني، حفتر بدعم قوات الدعم السريع.
وبحسب مصدر مقرب من الجيش السوداني تحدث لـ(عاين) فإن اللقاء كان مشحوناً بعد أن عاب البرهان على حفتر دعم قوات الدعم السريع، رغم نفي الأخير بشدة، ولم يتوصل إلى التفاهمات المطلوبة.

وذكر المصدر أن الجانب المصري تعهد للبرهان بأن قوات الدعم السريع لن تستخدم المثلث الحدودي كنقطة انطلاق لمهاجمة الولاية الشمالية والاستيلاء عليها، وهي واحدة من أكبر هواجس الجيش السوداني.
وليس ببعيد من ذلك، يقول مستشار الأمن القومي والعلاقات الخارجية في مصر اللواء محمد عبد الواحد في مقابلة مع (عاين): إن “قوات الدعم السريع ستستفيد من البعد الاستراتيجي للمثلث الحدودي لوصول الإمداد إلى قواتها في إقليمي دارفور وكردفان، ولن تستطيع مهاجمة الولاية الشمالية، في شمال السودان”.
وضعت سيطرة الدعم السريع على المثلث مصر في موقف حرج نظراً للتحالفات المتداخلة، وهي تسعى إلى معالجات دبلوماسية تضمن حماية مصالحها وأمنها القومي
مستشار في الأمن القومي المصري
ويشير عبد الواحد إلى أن المشاورات الجارية بين الأطراف في القاهرة تهدف إلى إيجاد معالجات دبلوماسية لملف المثلث الحدودي ذي الحساسية العالية، والوصول إلى تفاهمات تضمن عدم المساس بالمصالح في ظل التحالفات المتباينة بين هذه الأطراف.
ويقول: “مصر تريد استقرار المنطقة وحماية مصالحها وأمنها القومي، فهي تدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الشرق الليبي، لأنه يمثل خط دفاع في حدودها الغربية، وتساند الجيش السوداني؛ لأنها ترى في سقوطه انهياراً للدولة السودانية، وفي ذات الوقت تجمعها علاقات ثنائية استراتيجية مع دولة الإمارات”.
تلك الوضعية المعقدة، وفق اللواء محمد عبد الواحد وضعت القاهرة في موقف حرج، واتضح ذلك من خلال التصريحات المصرية القليلة والغامضة بشأن المثلث الحدودي منذ سيطرة قوات الدعم السريع عليها، فلا تريد التحدث كثيرا حتى لا تُخرج كلاماً يساء فهمه من حليفها الإمارات واللواء خليفة حفتر.
تكامل تجاري
ويحظى مثلث العوينات بأهمية استراتيجية، ورغم وجوده وسط صحراء قاحلة، إلا أنه يشكل نقطة ربط للحركة التجارية والاقتصادية بين ثلاث دول، السودان ومصر وليبيا، كما أنه غني بالموارد خاصة الذهب، ويضم عشرات المناجم للتنقيب اليدوي عن الذهب، وليس به شركات للتعدين المنظم عن الذهب.
ويبعد سوق كبير أسسه معدنون تقليديون في منطقة المثلث بنحو 350 كيلومتراً عن مدينة الكفرة الليبية، و25 كيلومتراً عن داخل الحدود المصرية، وتمثل منطقة الخناق أقرب مدينة سودانية للمثلث، وتقدر المسافة بينهما بحوالي 550 كيلومتراً.
ولأول مرة منذ اندلاع الحرب في السودان، تحدث قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي بشكل إيجابي عن القاهرة خلال خطاب له في يوم 26 يونيو بعدما ظل يهاجمها على الدوام، ويتهمها بمساندة الجيش السوداني وضرب قواته، وقال: “مشاكلنا مع مصر سببها هؤلاء المجرمون – يقصد الجيش- ونحن راجعنا حساباتنا ولازم نحل مشاكلنا مع مصر عبر الحوار، وعلى الطاولة وليس بالمشاحنات”.

وذهبت قوات الدعم السريع أبعد من ذلك، بعدما عرضت خلال بيان صحفي إلى تحويل المثلث إلى منطقة تكامل تجاري واقتصادي بين السودان ومصر وليبيا، في أكبر تراجع لموقفها تجاه القاهرة.
وتدير مصر وليبيا – حفتر، والإمارات ملف المثلث دبلوماسياً للوصول إلى تفاهمات، بينما يبدو وجود الدعم السريع في المنطقة الاستراتيجية وفتح منافذ جديد للدعم اللوجستي، مزعجاً للجيش السوداني الذي بنى استراتيجيته على قطع خطوات الإمداد لقوات الدعم السريع، كضرورة للانتصار عليها.
أهمية سيادية
وقال مصدر مقرب من الجيش السوداني لـ(عاين): إن “الجيش تمكن من تحييد مطار نيالا كأكبر خط إمداد جوي لقوات الدعم السريع، لكن المثلث أحدث ربكة كبيرة، ولا خيار للقوات المسلحة غير حسمه عسكرياً، لكن ليس في الوقت الحالي؛ لأن الجيش مهتم بتحرير كردفان”.
المثلث لا يشكل أي أهمية عسكرية للجيش السوداني، بقدر ما يثير قلق القاهرة من وجود جيوب وجماعات سلفية على حدودها تهدد أمنها
خبير عسكري
ويقول الخبير العسكري اللواء معاش المعتصم عبد القادر: “لا يمثل قيمة عسكرية وأهمية في الوقت الراهن مقارنة ببقية المدن وعواصم الولايات في دارفور وكردفان، لكنه له قيمة سيادية للجيش، وله بعد نفسي لقوات الدعم السريع التي تريد من خلاله تأكيد قدرتها على الوصول إلى مناطق أبعد من دارفور، وإلى الحدود المصرية، وولايتي الشمالية ونهر النيل.
ويفسر عبد القادر الذي تحدث لـ(عاين) التحركات المصرية المكثفة، بقلق القاهرة من هذه الجيوب التي تشكل تهديداً لأمنها، خاصة وأن الجماعات التي تدعم قوات الدعم السريع في المثلث ذات توجه سلفي، ويمكن للمنطقة أن تكون ملاذا للتشكيلات السلفية لا سيما ما يعرف بحركة حسم المعادية للحكومة المصرية.
ويضيف: “من الواضح أن تحركات مصر دفعت الجماعات الليبية المتحالفة مع حفتر إلى التراجع عن دعم قوات الدعم السريع للتوغل إلى العمق السوداني خاصة الولاية الشمالية، بخلاف ما كان يتوقعه ويخطط له الدعم السريع، والذي دون الدعم الليبي لا يستطيع التحرك نحو الشمالية؛ لأن خطوط إمداده ستكون مقطوعة تماماً وظهره مكشوف”.
ومن خلال دعوات قوات الدعم السريع إلى تكامل تجاري واقتصادي في المثلث، يبدو أنها تخطط إلى تثبيت أقدامها في المنطقة عبر بوابة المصالح الاقتصادية، وأبلغ مصدر مقرب منها (عاين)، أن قوات الدعم السريع عرضت على القاهرة السماح بتصدير المنتجات الزراعية والحيوانية من كردفان ودارفور إليها بعدما أوقفتها في وقت سابق، وضمان كافة مصالحها، مقابل مباركة وجودها في المثلث والتعاون حوله.
هاجس أمني
لكن موقف القاهرة يتجاوز الحسابات الاقتصادية إلى الهواجس الأمنية الكبيرة؛ بسبب وجود قوات الدعم السريع على مقربة من حدودها، وفق ما يراه مستشار الأمن القومي والعلاقات الخارجية بمصر اللواء محمد عبد الواحد.
ويقول عبد الواحد “حفتر يريد الاستفادة من المثلث لعمليات التهريب وتحقيق مكاسب اقتصادية، وحميدتي يرغب في تأمين خطوط إمداد لقواته في كردفان ودارفور والانطلاق نحو الولاية الشمالية، أما مصر فهي المتضرر الأكبر في هذه المعادلة، نسبة لوجود قوات الدعم السريع غير المدربة وغير المؤهلة والتي ترتبط بمرتزقة وغيرها، مما يجعل القاهرة في حالة استنفار دائم ومكلف على حدودها”.
ويضيف “مصر قادرة على التدخل العسكري في ليبيا والسودان، لكنها لا تريد ذلك، وهي تعمل الآن عبر ضغط دبلوماسي على حفتر لوقف دعم قوات الدعم السريع، وعلى حميدتي بغرض التهدئة”.
من جانبه، يرى المحلل السياسي أبو ذر علي الأمين في حديث لـ(عاين): أن “مصر لن تقبل أي مساومات في مسألة حدودها الجنوبية مع السودان، ولن تقبل أي دور لقوات الدعم السريع على المثلث، مهما بلغ تواطؤ القاهرة مع الإمارات الداعم الرئيس لقوات الدعم السريع”.
ويتابع الأمين: “لن نتوقع أي مستجدات في موقف القاهرة في الملف السوداني، فهي لا تقبل أي تغير في معادلة تعزز من دور الدعم السريع الذي يربطه تحالف مع إثيوبيا، مما يشكل خطرا على أمنها القومي”.
وشدد: “في تقديري أن بقاء قوات الدعم السريع في المثلث سيكون مؤقتاً، ولن تمارس القاهرة أي ضغوط على السودان، لوجود دور للدعم السريع في هذه المنطقة الاستراتيجية”.