سوق حدودي في السودان يرسم لوحة زاهية للتعايش
عاين- 22 أكتوبر 2024
من الدماء والحرائق، إلى مساحة للتعايش وتبادل المنافع في بيئة آمنة خالية من أصوات البنادق، بينما ترتفع لغة المصالح وحسابات الربح والخسارة ووفرة البضائع وتنوعها بين مرتاديه، هكذا تحول سوق النعام على الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، ليصبح شريان حياة لشعبي البلدين.
يلتقي المواطنون من السودان الشمالي وجنوب السودان في سوق النعام للحصول على البضائع والسلع الاستهلاكية المختلفة، إلى جانب المواد البترولية من البنزين والجازولين، إذ صار السوق بمثابة منطقة تجارة حرة ومركز تجميع وعبور المنتجات، يقصده التجار من مختلف دول الجوار الإفريقي، كما يتم التعامل بعملات عديدة.
مصالح الشعوب فرضت السلام السياسي والاجتماعي في سوق النعام الذي يقدم نموذجاً متفرداً للتعايش
صاحب محل تجاري
مشاهد من التسامح والتعايش السلمي في سوق النعام تجاوزت حالة الاقتتال والعنف الأهلي الذي ظلت تشهده المنطقة المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان لأكثر من عقد من الزمان، فمصالح الشعوب فرضت السلام السياسي والاجتماعي في سوق النعام الذي يقدم نموذجاً متفرداً للتعايش، وفق ما يقوله علي أحمد – أحد أصحاب المحال التجارية هناك لـ(عاين).
ويقع سوق النعام على بعد 15 كيلومتر شمال أبيي، وجنوب مدينة الدائر، وتخضع هذه المنطقة لإدارة إشرافية مشتركة من المكونات الأهلية (دينكا نوك، المسيرية) مع وجود قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في أبيي “يونسفيا” التي نُشِرَت بعد قرار من مجلس الأمن الدولي صدر في يونيو 2011م، عقب انفصال جنوب السودان.
وشهدت أبيي توترات شديدة بين الخرطوم وجوبا بعد استقلال جنوب السودان وصلت حد الاشتباكات العسكرية، وألقى ذلك بظلاله على المكونات الاجتماعية المقيمة في المنطقة، والتي دخلت بدورها في دوامة الاقتتال والعنف الأهلي، مما استدعى التدخل الدولي، ونشر قوة مسلحة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
زخم كبير
وبحسب التاجر علي أحمد، فإن سوق النعام تأسس في خواتيم العام 2015م، لكنه بدأ يتطور ويأخذ زخماً أكبر بعد عامين من انطلاقته، وكانت التهديدات الأمنية مرتفعة بفضل المواجهات الأهلية الدامية التي تشهدها المنطقة من وقت لآخر، وبعد اندلاع الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع منتصف أبريل الماضي، بلغ سوق النعام الاهتمام الأكبر، وصار المنقذ الأساسي لسكان إقليمي دارفور وكردفان.
وظل التجار من ولايتي جنوب وغرب كردفان، وشرق وجنوب دارفور يرتادون سوق النعام باستمرار طوال فترة الحرب الحالية بشاحنات عملاقة للحصول على السلع والمنتجات المختلفة ونقلها بغرض توفير احتياجات السكان العالقين وسط نيران القتال، وفق علي الذي يقول:
“يضم سوق النعام قسماً للبضائع مثل الدقيق والسكر وزيوت الطعام، والصابون ومختلف السلع الاستهلاكية في موقع مخصص داخل القرية، بينما يوجد قسم خاص بالمواد البترولية خارج البلدة وهو الأكثر زخماً من حيث عدد مرتاديه، فضلاً عن أنه مربح للغاية، رغم ما يتعرض له من حرائق مستمرة”.
صمد سوق النعام أمام تحديات عديدة منذ تأسيسه، قبل أن يصنع من نفسه مساحة للتعايش السلمي منقطع النظير، إذ تعرض للحرق الكامل في العام 2021م بسبب تجاذبات أهلية، أعقبه في السنة التالية اشتباكات دامية بين المكونات الاجتماعية المقيمة في المنطقة قتل خلالها العشرات وجرح آخرين.
ومنذ ذلك الحين بدأ سوق النعام مرحلة جديدة من التعافي والاستقرار بعد أن فرضت قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام بعض التدابير الأمنية، عززتها تفاهمات بين الإدارات الأهلية للمجتمعات المحلية هناك، ولم يشهد أي توترات، فقط تعرض القسم الخاص بالمواد البترولية إلى حريق شديد في أبريل الماضي، لكنه كان بسبب تفاعل الوقود، وليس مفتعلاً مثل ما يحدث في المرات السابقة.
ووصلت صيغ التعايش إلى مسمى السوق، حيث يطلق كل مكون اجتماعي ما يحلو له من الأسماء، ويتم تداول جميع الأسماء في رضاء تام، دون أي اعتراض.
وعند مكون دينكا نوك، بحسب علي آدم وهو من التجار المؤسسين للسوق، يسمى “سوق أميت” وتعني باللهجة المحلية الشيء الحلو، بينما تسميه مكونات المسيرية “فيض الزراف” كناية عن المنطقة التي يقام فيها، بينما سماه التجار سوق النعام، نسبة لوجود نعامة كانت تسرح في منطقة السوق في بداية تأسيسه قبل نحو 7 سنوات.
نمط تقليدي
ويقام سوق النعام الذي يحظى باهتمام واسع، على نسق تقليدي ومشيد بالمواد البلدية “رواكب” خاصة الجزء الخاص بالمواد البترولية، بينما توجد قليل من المحال التجارية مبنية بالمواد الثابتة مثل الطوب والأسمنت، الشيء الذي يجعله على الدوام عرضة للحرائق المدمرة، سواء كانت متعمدة أو نتيجة لظروف خارجة عن الإرادة كما حدث في أبريل الماضي.
ولم تكن هناك أي تهديدات تعترض مرتادي سوق النعام سوى الظروف الطبيعية مثل السيول والأمطار التي تغلق الطرق البرية؛ نظراً للأرض الطينية في المنطقة، حسب ما قاله نصر الدين تنش، وهو تاجر من الفولة يستورد البضائع من سوق النعام لـ(عاين).
ويضيف: “تفرض قوة حفظ السلام إجراءات مشددة، حيث تمنع حمل السلاح في سوق النعام والمنطقة مع وضع عقوبات صارمة على من يخالف هذه الضوابط، لذلك يعيش الناس هناك في سلام تام ولا أحد يعتدي على الآخر، كما لا توجد أي أعمال نهب أو سرقة، فالجميع يظلون في مأمن سواء التجار المقيمين في المنطقة أو القادمين بغرض التسوق”.
وتابع: “نحن ننعم بالسلام في إشارة إلى قوة حفظ السلام المتحدة في أبيي المتنازع عليها بين دولتي السودان وجنوب السودان، والتي نُشِرَت تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وفي سبتمبر الماضي، جرفت السيول طريق “الردمية” الرابط بين الفولة وأبيي، مما أعاق حركة الشاحنات القادمة، والتي تأتي من سوق النعام وتكدسها، الشيء الذي أعاق انسياب السلع والمواد الغذائية، شهدت الأسعار ارتفاعاً كبيراً في ولاية غرب كردفان، لكن الأوضاع والحركة التجارية عادت إلى طبيعتها بعد انتهاء موسم الأمطار- وفق نصر الدين.
يرتاد سوق النعام بشكل أكبر التجار من ولايتي جنوب وغرب كردفان، وشرق دارفور، فهو الوجهة الأقرب والآمنة لهم
ويرتاد سوق النعام بشكل أكبر التجار من ولايتي جنوب وغرب كردفان، وشرق دارفور، فهو الوجهة الأقرب والآمنة لهم لاستيراد السلع الغذائية المختلفة والوقود، خاصة خلال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، حيث توقف الإمداد السلعي من شرق السودان إلى غربه نسبة لانعدام المسارات الآمنة.
فرصة جديدة
ووفق آدم إبراهيم عبد الله وهو تاجر في قسم الوقود بسوق النعام، فإن سوق النعام شكل فرصة للعديد من السودانيين لبدء حياة تجارية جديدة بعد أن تحطمت أنشطتهم التجارية بسبب الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع لأكثر من عام ونصف، فبعضهم أسس محال تجارية في السوق، وآخرين ينقلون البضائع إلى إقليمي كردفان ودارفور وهو نشاط مربح غير حياة الكثيرين للأفضل، كما خلق فرص عمل للعديد من الشباب.
ويضم السوق بحسب آدم الذي تحدث لـ(عاين) تجار من مختلف الدول بينهم، صوماليين وإثيوبيين، وأوغنديين، ومصريون، بالإضافة إلى الجنوب سودانيين، والسودانيين وهم الأكثر عدداً، ويُتَعَامَل فيه بالعملة السودانية، والجنوب سودانية، والدولار الأمريكي، وهو بمثابة منطقة تجارية حدودية حرة.
يعتبر سوق النعام من أكثر المناطق أمنا في الوقت الحالي، فهو منزوع السلاح، ولا يسمح لأي مواطن يحمل البندقية
تاجر بالسوق
ويقول “يعتبر سوق النعام من أكثر المناطق أمنا في الوقت الحالي، فهو منزوع السلاح، ولا يسمح لأي مواطن يحمل البندقية، مع التزام قوة حفظ السلام الأممية بحماية التجار والسكان، فلم نشهد أي اعتداءات على المواطنين وممتلكاتهم خلال عامين، كما توجد حالة من التعايش والتصالح بين المكونات الأهلية التي كانت تتقاتل في المنطقة”.
ويشكل سوق النعام شريان حياة لسكان ولاية جنوب كردفان التي تشهد حصاراً وحرب على ثلاث جبهات، يقودها الجيش مع الحركة الشعبية قطاع الشمال قيادة عبد العزيز الحلو من جهة، ومع قوات الدعم السريع، وبفضل المواجهات المتواصلة، لم يتوفر أي منفذ آخر للحصول على البضائع غير سوق النعام، والذي بدوره يشهد مخاطر كبيرة.
وتحت هذه الظروف يغامر محمد أحمد (اسم مستعار لتاجر من كادوقلي) في الوصول إلى سوق النعام طوال عام مضى بغرض جلب شاحنات البضائع والوقود لتلبية احتياجات المواطنين في مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان التي يعيش سكانها تحت وطأة حصار شديد، نتج عنه واقع إنساني بالغ السوء.
يقول أحمد في حديث لـ(عاين) “يفرض الجيش إجراءات قاسية على التجار الذين يستوردون البضائع من سوق النعام، ويطالب بتصاديق مسبقة، كما يحتجز الشاحنات وفرض غرامات على أصحابها، ومع ذلك نواصل عملنا حتى لا تنعدم السلع الاستهلاكية في كادوقلي، كما واجهنا عقبات خلال فترة الخريف، الذي أثر في الحركة.
ويضيف: “لولا سوق النعام لشهدت مدينتي كادوقلي والدلنج انعدام تاماً للمواد الغذائية، فليس هناك أي جهة أخرى يمكن الوصول إليها، فهو سوق كبير وملئ بالخيرات والسلع القادمة من جنوب السودان والدول المجاورة، كما يشهد استقرار وتعايش سلمي بين التجار والمجتمعات المحلية في المنطقة”.