أم درمان بعد عام ونصف من الحرب، كيف أصبحت؟

عام ونصف من بداية الحرب في السودان، كانت كفيلة بتحويل حياة ملايين المدنيين العالقين في مدن العاصمة الثلاثة، الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان إلى جحيم، وأحالت نيران المتحاربين بعض البنى التحتية المهمة إلى رماد، وتركتها أثرا بعد عين.مراسل لـ(عاين) يكتب من أم درمان

عاين-17 أكتوبر 2024

تقاتل مدينة أم درمان العريقة لاستعادة ألقها ونبضها وحياتها بعد أشهر طويلة من الحرب بين الجيش والدعم السريع التي نسفت استقرار المدينة الواقعة على الضفة الغربية لنهر النيل، وتمثل أحد أضلع العاصمة الثلاثة.

ولم تتوقع المدينة أن تدور بها تصاريف الأقدار؛ فتتحول من جغرافيا سُمِّيت في الأزمنة السابقة بـ(دار الأمان) لمكان أشبه بمدينة أشباح كئيبة ودار حرب ينتشر فيها الموت والدمار والمعارك، خصوصا في الأشهر الأولى من الحرب.

خارطة السيطرة

في اليوم الأول بدأت صافرة الحرب في أم درمان بعد أحداث المدينة الرياضية بالخرطوم بقصف الطيران التابع للجيش السوداني لمعسكر سركاب الذي كان يضم أعداداً كبيرة من قوات الدعم السريع، مما قلل المعارك في أشهرها الأولى بالمدينة، وتأرجحت المواجهات بين العلو والهبوط لأشهر متتالية. وصولاً إلى الوضع الحالي.

سعت قوات الدعم السريع للسيطرة فيها على أكبر عدد من المناطق، وذلك لأهميتها العسكرية متمثلةً في احتوائها على معسكر وادي سيدنا التابع للجيش، ويقع أقصى شمال محلية كرري شمالي أم درمان، ويضم القاعدة الجوية التي تنطلق منها الطائرات المقاتلة الخاصة بالجيش، بالإضافة إلى قيادة سلاح المهندسين.

عدد من الأحياء المتاخمة لسلاح المهندسين مثل أحياء بانت والعباسية والموردة، شهدت معارك ضارية بين الدعم السريع والجيش ليتمكن الأخير من استعادتها، فأصبحت خارطة حدود الجيش تمتد حتى حي الدوحة الموازي لحارات أمبدة.

كما سعى الجيش على الحفاظ على نقاط سيطرته بالمدينة، وجعلها منطلقاً لعملياته العسكرية الأخيرة في محوري الخرطوم وبحري.

تشتمل خارطة السيطرة الحديثة بعد مضي عام ونصف من الحرب على عدد من المتغيرات، حيث تحولت أماكن واسعة من نقاط الحياد أو السيطرة إلى مناطق تسيطر عليها أحد أطراف الصراع، ومناطق أخرى شهدت معارك استمرت لأشهر، فانتهت بذات المصير.

 

ما زال الجيش يفرض سيطرته على حارات منطقة الثورة التي تعتبر الأقل تأثراً بالنزاع، واستطاع عبر عمليات هجومية متعددة من استعادة السيطرة على أحياء أم درمان القديمة، التي كانت تحت قبضة قوات الدعم السريع حتى مارس ٢٠٢٤م.

وبعد معارك الإذاعة والتلفزيون في مارس الماضي التحمت قوات وادي سيدنا بقوات سلاح المهندسين لتتمدد رقعة هيمنة الجيش بأم درمان من الشمال وحتى وسط وجزء من الأحياء الغربية.

أما قوات الدعم السريع، فقد سيطرت لخمسة أشهر على أحياء أم درمان القديمة مثل حي العمدة وودنوباوي وأبروف والملازمين وبيت المال، إضافةً إلى السوقين الشعبي وأم درمان الكبير، وكان أكبر مكاسبها هي إحكام قبضتها على مقر الإذاعة والتلفزيون بحي الملازمين بحكم تواجد قواته المسبق في المكان.

بعد سيطرته على أحياء أم درمان القديمة المتاخمة لمحلية كرري، لم يكف الدعم السريع عن محاولات اقتحام كرري، وذلك عبر عمليات هجوم برية متواصلة تصدى لها الجيش في مقر قوات شرطة الاحتياطي المركزي شمال شرق السوق الشعبي، بالإضافة إلى لجوئها للتدوين على كرري من منصات مدفعية نصبتها في أحياء أم درمان القديمة.

الآن تستحوذ قوات الدعم السريع في أم درمان على الجزء الأكبر من حارات أمبدة حتى سوق ليبيا وسوق قندهار، وتنتشر بشكل أوسع في حي”صالحة “وبقية أحياء جنوبي أم درمان.

دمار

عندما وصلت سيراً على الأقدام إلى شارع الدومة لم أتعرف على المكان الذي كان يضج حركةً وحيوية، إلى أن دلتني إليه بعض المعالم المكتسية بثقوب الرصاص.

فقد تسبب القتال المتواصل في دمار شديد لأحياء أم درمان القديمة، فلم تسلم المنازل ولا المواقع التاريخية المشيدة منذ تأسيس المدينة.

 لم تشفع المكانة الدينية لدور العبادة الواقعة في أحياء أم درمان من التأثر بالعمليات القتالية، فلم تسلم المساجد ولا الكنائس من بطش المعارك، ويعتبر الضرر الذي لحق بمسجد الشيخ الفاتح قريب الله – إحدى منارات الطريقة السمانية – هو الأكبر، فأينما يقع نظرك تُلاحظ اختراق الرصاص لواجهة وحرم المسجد، كما أن القذائف المدفعية دكَّت أجزاء واسعة من بِنية المكان.

وبرغم ما آل إليه حال المسجد؛ إلا أن أصوات الذكر والآذان المنادية للمصلين ما زالت تنبعث من المئذنة المصابة بالرصاص، وذلك بعد عمليات الصيانة والنظافة وتوصيل الكهرباء التي تمت مؤخراً.

كذلك تعرَّضت كنيسة ماري جرجس بحي العرب لدمار جزئي وعمليات سرقة طالت كل الممتلكات، لكن تجري عليها عمليات صيانة في الوقت الحالي يقودها سكان حي العرب.

أيضاً تأثرت الوقفة الشامخة لبوابة عبد القيوم بالخندق العريض الذي حُفر أمامها بعد استخدامها كدرع دفاعي خلال حرب أبريل، كما تعرض متحف بيت الخليفة التاريخي لعملية نهب طالت قطعاً أثرية مهمة تعود إلى عهد الدولة المهدية، كذلك تأثر مقر الإذاعة والتلفزيون الواقع بالملازمين بالمعارك التي دارت فيه لأشهر طويلة، مما عرَّض تراث السودان غير المادي لمخاطر التلف والدمار.

هل يذكر الناس كميات وأعداد السيارات في شوارع البقعة، الآن يمكنهم مشاهدة الكثير منها، لكن مجرد حطام في الشوارع، لا سيما في أم دمان القديمة وشارع العرضة، وتعمل مبادرة هناك على جمعها والبحث عن أصحابها وتسليمها لهم.

إيقاد شمعة

عاش المدنيون في أم درمان أوقات شدة، وتوقفت في الأشهر الأولى خدمات المياه والكهرباء وتذبذبت الاتصالات، ما اضطر بعضهم للنزوح إلى المدن الآمنة، وفقد من بقي منهم مصادر دخولهم، وواجهوا نقصاً في الغذاء.

لكن أكثر ما يلفت نظرك عند حديثك مع سكان أم درمان الذي لم يغادروا مدينتهم المنكوبة لعام ونصف من القتال هو تمسكهم القوي بالبقاء؛ كغيرهم من سكان المدن التي عركتها رحى الحرب، محاولين إيقاد شمعة بدلاً من الاكتفاء بلعن ظلامات الحرب، ورغم الحالة المزرية التي وصل إليها الكثيرون بسبب تطاول أمد الصراع، إلا أن الحياة في أم درمان تسير بمعادلة التعاون واقتسام الزاد.

في أثناء التجوال في أحياء أم درمان يلفت نظرك مشاهد” التكايا “التي استعادها المتواجدون كإرث شعبي قديم، والتكايا هي مطابخ جماعية يشرف عليها متطوعون يقدمون خدمات المأكل والمشرب للعامة، ولا يخلو حي من الصفوف المتراصَّة للأجساد المنهكة والناحلة في انتظار الفول أو العدس، الذي يكفي لإسكات قرقرة البطون الجائعة لأمدٍ قصير، وفق قولهم.

على غرار التكايا هنالك مبادرات أخرى لمتطوعين وموظفين، مثل مبادرات تقديم العلاج، واستعادة خدمات المياه بصيانة محطات بيت المال والمنارة والقماير اللواتي توقفن عن الخدمة لعدة مرات بسبب القصف.فضلاً عن مبادرات توصيل الكهرباء ونظافة الأحياء من مخلفات الحرب غير المنفجرة بالتعاون مع وحدة مكافحة الألغام.

كما تحتوي المدينة على منافذ خدمية هامة مثل السجل المدني بمنطقة الثورة، وفيه تُستخرج الجوازات والأوراق الثبوتية.

من جانب آخر ما زالت حركة المواصلات الولائية بين مدينتي أم درمان وشندي تعمل بشكل منتظم؛ مما يسهل حركة المواطنين من وإلى أم درمان جيئةً وذهاباً.

قصف متبادل

ثناء تواجدك في أم درمان؛ لا يمر عليك اليوم دون سماعك لأصوات القذائف المدفعية الساقطة على المدينة أو المنطلقة منها، وأصبح السكان بمن فيهم الأطفال يميزون بآذانهم الحذرة أصوات القذائف المختلفة، ويتساءلون فيما بينهم عند سماع صوت انفجار بجملة ساخرة: (طالع ولا واقع؟!).

يستهدف الجيش من مواقعه، تجمعات الدعم السريع في الخرطوم والخرطوم بحري وأم بدة باستخدام أنواع القذائف المدفعية الثقيلة، مثل الهاون، فضلاً عن الطلعات الجوية المتواصلة من وداي سيدنا باتجاه جنوب الخرطوم وبحري، كما يستخدم أيضاً سلاح المسيرات التي دخلت حيز الحرب بعد معركة الإذاعة والتلفزيون.

بالنسبة للدعم السريع، فلم يكن في شهور الحرب الأولى مزوداً بالأسلحة المدفعية، ويمكن تأريخ هذا الحدث المفصلي في المواجهات بعد مرور حوالي أربعة أشهر من اندلاع القتال، أي أغسطس ٢٠٢٣م، الذي استخدمت فيه الدعم السريع أول مدافعها في أم درمان.

ولاحقاً امتلكت راجمات صواريخ بعيدة المدى تطلق دفعات من الرشقات الصاروخية.

دائماً ما تنطلق قذائف الدعم السريع من مواقعه ببحري والخرطوم وأمبدة، وأكثر القذائف موجهة نحو محلية كرري المأهولة بالمدنيين.

ويتسبب هذا القصف في وقوع ضحايا وسط المدنيين؛ خاصةً في سوق صابرين شمال غرب محلية كرري، ومحطة مواصلات الثورة الحارة ٣٠ وغيرها من الحارات.

ولم تسلم مستشفى النو، أكبر المستشفيات حاليا من القصف المدفعي، حيث تعرض خلال العام والنصف من الحرب لعدد من الضربات راح ضحيتها مرضى ومرافقون ومتطوعون.

مآوي النازحين

بعد الأمان النسبي الذي تعيشه المدينة، تأسست عدد من مراكز للنازحين من أمبدة والخرطوم وبحري وجزيرة توتي، وتتباين الحالة المعيشية لهم من حالة متوسطة بالنسبة للذين يمكنهم الخروج والبحث عن سبل الرزق اليومي، أما كبار السن والمرضى والجرحى المتواجدون بهذه المراكز يعانون أوضاعاً يمكن وصفها بالمأساوية.

وخلال الأشهر الماضية بعد دخول قوات الدعم السريع إلى مدينتي سنجة وسنار، شهدت أم درمان عودة الكثير من الأسر التي نزحت منها في بدايات الحرب، مضافاً إليها نزوح عدد أكبر من المواطنين الذين كانوا مقيمين بولايات الجزيرة وسنار فراراً من فظائع الحرب، ما جعل المدينة مكتظَّة بالسكان، وبالأصح محلية كرري التي تتوفر بها الخدمات.

هذا الحركة جعلت شوارع كرري الرئيسية (الوادي ـ النص ـ الشنقيطي) شوارع مزدهرة وممتلئة بالأنشطة.

أن تكون طفلاً في زمن الحرب

تُجهز الحرب بكل وحشيتها على الإنسان، فتغير فطرته السليمة، والأطفال أكبر ضحاياها، فطبيعة الأطفال الذين يتواجدون في مناطق الصراع تتشكل وفقاً لما يحيط بهم من مآسي.

في شوارع أم درمان عندما تجول عيناك للبحث عن أطفال يلعبون كرة القدم أو أي من الألعاب الشعبية، ستُدهش من أن هذه الألعاب حلَّت محلها ألعاب جديدة تخص الواقع، فهم يحفرون أمتاراً في الأرض، ويطلقون عليها اسم ”الدفاعات“، ويتجولون وفي أياديهم مجسمات لأسلحة رشاشة من الخشب والحديد.

حتى براءة الطفولة في ملامحهم تبدلت لوجوم وصرامة تظهر في استعارتهم لمفردات من قاموس حرب إبريل.

تحاول عدد من المبادرات بأم درمان إعادة هؤلاء إلى فطرتهم السليمة عبر تأسيس المساحات الآمنة في مراكز الإيواء، وإقامة فصول للمراجعة الأكاديمية.