كيف يبدو الطريق إلى أم درمان؟
عاين- 6 نوفمبر 2023
مجرد الحديث عن السفر إلى أم درمان غربي العاصمة السودانية، داخل محطات المواصلات العامة في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان جريمة ربما تقودك للاعتقال بواسطة الاستخبارات العسكرية. لكن “سماسرة” ومتعهدون يقومون بإرشاد المواطنين سراً بأن يستغلوا سيارات تاكسي صغيرة إلى مدينة بارا نحو 70 كلم شمالي الأبيض، ومن ثم التوجه إلى العاصمة السودانية بالحافلات.
في مدينة بارا يبدأ طريق الاسفلت المؤدي الى أم درمان الذي أغلقه الجيش السوداني في وقت سابق أمام حركة المرور والتعامل مع مستغليه كأهداف عسكرية، لكن مغامرون من أصحاب الحافلات لم يكترثوا لهذا القرار وما زالوا يواصلون السفر عبره إلى العاصمة.
تحول طريق بارا – أم درمان الى شارع أشباح بعد أن اختفت فيه ملامح الحياة وانخفضت حركة المارة باستثناء سكان بعض القرى وسيارات تعبر مسرعة من وقت لآخر يستغلها منسوبي قوات الدعم السريع، وأخرى قادمة من العاصمة القومية محملة بالبضائع والمقتنيات المختلفة، وعلى امتداد الطريق الذي يقدر طوله بنحو 360 كلم ليس هناك أي نقطة تفتيش سوى واحدة عند المدخل الغربي لأم درمان في منطقة المويلح.
كان الخوف يسيطر على المسافرين بطبيعة الحال مع توجس كبير من غارات جوية تستهدف الحافلات المدنية. ومن وقت لآخر نشاهد سيارات قتالية ومسلحين تحت الأشجار والفناء بالقرب من طريق الاسفلت. وعلى امتداد الطريق توجد سيارات مدنية محترقة وأخرى معطلة تقدر أعدادها بالمئات.
مع الدخول إلى أم درمان من الناحية الغربية تقع الأنظار على مشاهد الدمار والخراب، حيث المنازل والمرافق محطمة وتكسوها أثار اللهب السوداء لدرجة تغيرت معها ملامح المدينة بشكل لافت، ولم تكن ذات الأمكنة التي تركتها بعد شهرين ونصف من اندلاع الحرب، بينما يخيم الحزن على طرقات المدينة التي هجرها العديد من سكانها.
التصالح مع الموت
بدأ السكان العالقين في مدينة أم درمان كأنهم متصالحون مع الموت الذي يحوم من حولهم، فالذين تغتالهم آلة الحرب من بينهم يوارون جثمانه داخل المساجد وميادين الحي، حتى تحولت الأحياء السكنية الى مدافن كبيرة حيث يمنع المسلحون نقل المتوفيين الى المقابر العامة وبخاصة سكان ضاحية امبدة وامدرمان القديمة.
تستمر حياة السكان في أم درمان رغم قساوة الحرب التي تحصدهم في كل يوم، وباتوا يحفظون أنواع الأسلحة والمدافع وتحديد حجم ومستوى الخطر الذي يحدق بهم من خلال صوت السلاح الذي يصل إلى مسامعهم.
واقع ينسحب على الأطفال الذين لم تعد أصوات الرصاص والمدافع والطائرات ترعبهم، بينما تأثروا بشكل كبير بمجريات الحرب ويومياتها. شاهدت الصغار في ضاحية امبدة يرتدون الكدمول ويربطون العصي بالحبال ويحملونها على هيئة سلاح ويرددون عبارات مسلحي قوات الدعم السريع (دعامة، اشاوس).
ما يزال سوقان في ضاحية امبدة غربي أمدرمان (ليبيا وقندهار) تحتفظان بزخم كبير ويرتادهما السكان ومسلحي قوات الدعم السريع بكثافة للحصول على الاحتياجات المختلفة وعرض ما لديهم من بضائع، لكنها في المقابل صارت مركز المقتنيات المسروقة التي تعرض بأسعار منخفضة للغاية إذ لا يتعدى ثمن شراء ثلاجة منزلية 20 ألف جنيه سوداني، نحو 25 دولارا.
مع رخص ثمن المقتنيات من أدوات كهربائية مختلفة واثاثات المنازل، فإن جميع السلع والمنتجات ذات الصلة بالأكل والشرب تشهد ارتفاعاً جنونيا في الأسعار مما فاقم المعاناة المعيشية للسكان العالقين في منطقة الحرب والذين توقفت مصادر دخلهم بطبيعة الحال، في مقابل ذلك أغلقت غالبية المتاجر والمخابز في الأحياء السكنية أبوابها بعد أن نفد مخزونها من السلع.
مغامرة التنقل
لم يكن الانتقال من ضاحية امبدة جنوب أم درمان التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع إلى منطقة كرري شمالي أمدرمان بالمهمة السهلة إذ تنطوي عليها مخاطر كبيرة قد تكلف الحياة، ومع ذلك يستمر السكان في مغامرات يومية بغرض الوصول الى أقاربهم ومعارفهم وأيضا بقصد سوق صابرين (شمال) الذي تحول بدوره إلى مركز تجاري كبير يرتاده المواطنين العالقين في المدينة.
يقل الخطر عند الانتقال بالحافلات الكبيرة التي تلزم قوات الدعم السريع سائقيها بدفع مبالغ نقدية نظير العبور شمالا، بينما يكتفي الجيش بتفتيشها وتفحص ركابها بعناية فائقة، لكن محاولة الوصول الى شمال أمدرمان والعودة منها بواسطة سيارة خاصة بمثابة خطوة انتحارية أراد صاحبها الموت حيث يتعامل معها كل من الجيش وقوات الدعم السريع كهدف عسكري عند منطقة التماس الفاصلة.
كنت قد اخترت التوجه من امبدة الى كرري عبر سيارتي الخاصة، وكان علي دفع مبلغ مالي قدره 250 ألف جنيه لمسلحين من قوات الدعم السريع عبر وسطاء عبر ينشطون في هذه المهمة، وذلك من أجل تأمين رحلتي حتى آخر نقطة يسيطر عليها الدعم السريع شمالاً وبالتحديد سوق حلايب الذي يبعد بضع مترات عن منطقة (رأس الشيطان) – أكبر أوكار العصابات الإجرامية حتى قبل اندلاع الحرب.
عند آخر ارتكاز لقوات الدعم السريع، كان المسلحون يبشروننا بقرب ساعة موتنا لأننا على موعد مع دخول المنطقة الفاصلة، وأن الجيش لن يتوانى في إطلاق النار علينا. كانوا يحدثونني عن قناصين يعتلون البنايات المجاورة وكأنهم يتلذذون ويتسلون بإرهابنا.
عند آخر ارتكاز لقوات الدعم السريع، كان المسلحون يبشروننا بقرب ساعة موتنا لأننا على موعد مع دخول المنطقة الفاصلة، وأن الجيش لن يتوانى في إطلاق النار علينا. كانوا يحدثونني عن قناصين يعتلون البنايات المجاورة وكأنهم يتلذذون ويتسلون بإرهابنا لدرجة جعلتني افكر في العودة، لكن مرافقي كان مصراً على المضي قدماً في وجهتنا.
دخلنا منطقة التماس “الصفرية” وكان الصمت يخيم على أرجاءها والمنازل مغلقة بعد أن نزح أصحابها. وبينما يختفي أثر الناس كنا نمني أنفسنا برؤية أي شخص على الأقل ينقل خبر موتنا، إن لم نتشبث به كطوق نجاة ورعبنا يتزايد مع تعالي أصوات القصف المدفعي والرصاص المتقطع الذي يصدر من وقت لآخر.
كان علينا قيادة السيارة ببطء مع تشغيل الإضاءة ورفع أيدينا للأعلى عبر نوافذ العربة وهي نصائح تلقيتها من أحد معارفي ربما تتيح فرصة للنجاة من الاستهداف المباشر بالرصاص، ظللنا على تلك الحالة ونحن نمضي نحو المجهول بعد أن فقدنا الأمل في الحياة فلا شيء يبشر بذلك فقد اختفى كل شيء عن المنطقة حتى الدواب والكلاب والطيور.
دقائق من الرعب وفقدان الأمل لا ندري كيف مرت، وبعد أن قطعنا مسافة تقدر بنحو 500 متراً ظهر لنا أول ارتكاز للجيش، كان علينا إبطاء الحركة أكثر قبل أن نفكر في النزول من السيارة ورفع أيدينا مع إبلاغ بالصوت العالي بأننا مواطنين ونرغب في العبور نحو سوق صابرين شمالاً.
ساعتها كان أكثر من سلاح موجه صوبنا، بينما تقدم أحد الجنود نحونا بخطوة بطيئة ويده على زناد سلاحه الناري في مشهد عصيب وصلنا الجندي وقام بفحص هوياتنا وتفتيش السيارة بعناية وبعدها سمح لنا بدخول المنطقة التي يسيطر عليها الجيش بعد أن تأكد من هوياتنا وسلامة ملكيتنا للعربة التي نستغلها، كانت ملامح الفرح تتسلل على محيانا بعد أن نجونا من موت محقق.
مدينة الخنادق
كانت المشاهد أكثر حزناً في أم درمان ليس لمنازلها المدمرة وآثار الحرائق التي تكسوا جدرانها فحسب، لكن شوارع المدينة ومتاجرها الكبيرة مثل طرق “الشنقيطي، والوادي، والثورة بالنص” تحولت إلى ما يشبه الخنادق العسكرية ويكسو ملامحها الزاهية في وقت سابق دمار وآثار الحريق.
يتمركز جنود الجيش في منطقة الثورة بعد أن حفروا الخنادق في شوارعها الرئيسية بمسافات متقارب لا تتجاوز الواحد كيلوا متر، ورغم الدانات المدفعية التي تحصد الأرواح بصورة مستمرة تواصل بائعات الشاي وأصحاب بعض المتاجر والمطاعم عملهم دون اكتراث لأي اشتباك محتمل او استهداف مدفعي.
يعاني السكان في محلية كرري خاصة الحارات الغربية من نقص حاد في مياه الشرب حيث وصل سعر برميل المياه 15 ألف جنيه، كما تشهد قطوعات مستمرة في التيار الكهربائي وتدهور في خدمة الاتصالات والانترنت، أما الخدمات الطبية فهي بدورها تعاني.
الخروج من أم درمان نحو الولايات الوسطى مثل مدني وسنار لم يكن بدوره بالمهمة السهلة في ظل اغلاق الجسور النيلية. كان علينا قطع مسافة 1400 كلم متر على الأقل بغرض الوصول إلى ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، في حين لا تتعدى مسافة الخرطوم – مدني 270 كلم بالطريق الرسمي، وهو شيء يصعب مهمة العالقين الراغبين في الفرار مما يدفعهم إلى الاستسلام والبقاء تحت نيران الحرب.