“نيالا على خطى الخرطوم”.. مآسٍ مستنسخة لـ(حرب المدن)
عاين- 8 أغسطس 2023
على خطى الحرب المدمرة في العاصمة السودانية الخرطوم، تمضي ثاني أكبر مدن البلاد وعاصمة ولاية جنوب دارفور نيالا، التي يعيش سكانها منذ أشهر تحت وطأة معارك بين الجيش وقوات الدعم السريع كان مسرحه شوارع وأزقة المدينة، مخلفاً أوضاع إنسانية قاسية.
“اقتحام للمنازل ومقذوفات طائشة ونهب وسلب”، ممارسات تعكس صورة الحرب في المدينة المكتظة، بينما غادر العديد من سكانها إلى مناطق آمنة نسبياً داخل إقليم دارفور وخارجه نحو دول مجاورة وفق ما نقله شهود ونشطاء مدنيون لـ(عاين).
إلى جانب حالة الرعب التي يعيشها مواطني نيالا جراء القصف المدفعي اليومي، تشهد المدينة تدهور مريع في الأوضاع الإنسانية تتجلى في قطع خدمات الكهرباء والاتصالات وانعدام لكثير من الأدوية المنقذة للحياة وتوقف المستشفيات المرجعية وسط غلاء طاحن في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية.
يقول يوسف محمد وهو ناشط مجتمعي من نيالا لـ(عاين):”في كل يوم يزداد الوضع الأمني في المدينة تدهوراً، فلم تكن هناك مواجهات مباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع بشكل كبير ولكن هناك قصف مدفعي مستمر ومتبادل بين المتحاربين وتضل المقذوفات طريقها الى منازل المواطنين. وقد مات عشرات المدنيين نتيجة القصف العشوائي”.
“توقفت كل المستشفيات في نيالا عدا المستشفى التركي الذي ما يزال يعمل ولكن أسعار العلاج فيه مرتفعة للغاية حيث تفوق رسوم عملية الولادة القيصرية فيه مبلغ 200 ألف جنيه سوداني -حوالي 400 دولار- بخلاف الادوية والمستلزمات الطبية الأخرى وهي تكاليف طائلة تفوق مقدرة غالبية السكان الذين توقفت مصادر دخولهم”. يضيف محمد.
وتسببت الحرب في حجب الكهرباء عن نيالا على مدار الثلاثة أشهر الماضية وما يزال التيار مقطوعاً وذلك نتيجة توقف إمداد محطة التوليد الحراري بالوقود اللازم الشيء الذي ألقى بظلاله على خدمة الاتصالات والانترنت التي تشهد رداءة وانقطاع في أغلب الأحيان بالمدينة، كما أثرت على المرافق الخدمية مثل المشافي والمراكز الصحية وقادت لتوقف معظمها وفق يوسف.
خارطة الحرب
تتركز الأعمال العسكرية في الجانب الشمالي الشرقي من مدينة نيالا في أحياء مثل كرري، الجير، الثورة الحارة الأولى وتكساس والمستقبل والمزاد وحي الوادي، وذلك نتيجة لقربها من قيادة الفرقة الـ16 مشاة التابعة للجيش السوداني والتي تستهدفها قوات الدعم السريع بالقصف المدفعي وفق ما نقل شهود لـ(عاين).
ووفق المصادر نفسها، فإن الجيش يسيطر على منطقة منتصف مدينة نيالا التي تضم قيادته والسوق المركزي ومجمع المصارف وأمانة الحكومة الولائية والوزارات، كما يسيطر على الجسر الوحيد بالمدينة من جهتين ويركز انتشاره على محيط قيادة الفرقة السادسة عشر مشاة.
بينما تسيطر قوات الدعم السريع على معابر المدينة من كل الاتجاهات وتنتشر في الجزء الشمالي الشرقي من نيالا، كما تسيطر على مركز التحكم في توزيع الكهرباء بجانب السوق الشعبي جنوبي نيالا.
وبحسب مصادر (عاين) أن قوات الدعم السريع اقتحمت المنازل خاصة أحياء كرري، المستقبل، الثورة، تكساس واضطر العديد من سكان هذه الاحياء الى الفرار منها الى عد الفرسان وبرام وقريضة، كما تم إنشاء مركزين للإيواء جنوب مدينة نيالا ولكن تنعدم فيها الخدمات وسط نقص حاد في الغذاء والمياه.
وتمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على منطقة دوماية وهي معبر رئيسي غرب مدينة نيالا واتخذتها منصة لإطلاق القذائف المدفعية نحو قيادة الجيش السوداني في تطور لافت لمجريات الحرب بين الطرفين في المدينة، وذلك حسب ما أفاد به مصدر عسكري لـ(عاين).
وكان قادة الإدارة الأهلية نجحوا في منع نشوب قتال في نيالا لأيام بعد اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم، ولكن توترت الأوضاع في أعقاب قيام الجيش بصرف الرواتب لمنسوبيه فقط استناداً على قرار أصدره قائده الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان يقضي بوقف مرتبات قوات الدعم السريع الشيء الذي أثار حفيظتها وقاد الى الصدام الدامي الذي ما زال مستمراً.
شلل اقتصادي
قادت الحرب إلى إغلاق أسواق رئيسية في مدينة نيالا بما في ذلك السوق المركزي المجاور لقيادة الجيش والسوق الشعبي جنوب المدينة والذي كان يعتمد عليه معظم سكان عاصمة ولاية جنوب دارفور في كسب الرزق من خلال أعمال تجارية صغيرة، الى جانب الحصول على المستلزمات الغذائية فهو يمتاز برخص ثمن بضاعته مقارنة بالأسواق الأخرى، وذلك بحسب ما نقله الصحفي المقيم بنيالا حالياً محمد آدم لـ(عاين).
يعمل في نيالا حاليا سوق موقف الجنينة فقط وذلك بعد أن بادرت قوات الحركات المسلحة بتأمينه، فأصبح مركز رئيسي لسكان المدينة للحصول على احتياجاتهم المختلفة
ويقول آدم “يعمل في نيالا حاليا سوق موقف الجنينة فقط وذلك بعد أن بادرت قوات الحركات المسلحة بتأمينه، فأصبح مركز رئيسي لسكان المدينة للحصول على احتياجاتهم المختلفة، فقد انتقلت إليه معظم الأعمال التجارية والصيدليات الدوائية”.
ويشير آدم، إلى أن السوق المركزي المجاور لقيادة الجيش صار يعمل بشكل جزئي وسط توجس كبير فيظل التجار والزبائن في حالة تأهب مستمرة لمغادرة سريعة تحسباً لاشتباك وقصف مدفعي في أي وقت، الشيء الذي دفع العديد من التجار إلى نقل بضائعهم والعمل في مناطق أخرى بينها سوق موقف الجنينة وداخل الأحياء السكنية بالمناطق الآمنة.
ويضيف: “يعتمد أغلب سكان نيالا في معاشهم على الأعمال التجارية المختلفة للمنتجات والمحصولات الزراعية والمواشي وشتى أنواع البضائع، لكن الحرب تسببت في توقف كل هذه الأنشطة الاقتصادية وهو ما سيقود إلى ضائقة معيشية للمواطنين”.
ولم تظهر أي ملامح ندرة في السلع الغذائية رغم الوضع الذي أشبه بالحصار الذي تعيشه مدينة نيالا فقد تمكن التجار من إدخال سلع مثل السكر من دولة جنوب السودان، لكن هناك ارتفاع مضطرد في أسعار مجمل السلع الاستهلاكية، وفق محمد.
وتعد نيالا ثاني أكبر مدن السودان من حيث الكثافة السكانية بتعداد يقدر بنحو 7 ملايين شخص، كما تمثل مركز ثقل اقتصادي وتجاري كبير في إقليم دارفور حيث تضم بورصة للمحصولات الزراعية المختلفة بما في ذلك الصمغ العربي، وكانت من أوائل مدن البلاد التي وصلتها خطوط السكة حديد لأهميتها الاقتصادية.
صعوبة الحركة
على النحو الذي شهدته تطورات الحرب في العاصمة الخرطوم من انتشار لعصابات النهب، تمضي الأوضاع في نيالا التي باتت تحركات مواطنيها محدودة خشية الوقوع في مصيدة قطاع الطرق
وعلى النحو الذي شهدته تطورات الحرب في العاصمة الخرطوم من انتشار لعصابات النهب، تمضي الأوضاع في نيالا التي باتت تحركات مواطنيها محدودة خشية الوقوع في مصيدة قطاع الطرق المسلحين في واقع عصيب فاقم محنة الصراع في هذه المدينة.
ويقول عيسى صالح مواطن من نيالا لـ(عاين) إن السكان في المدينة يعيشون معاناة كبيرة بسبب انتشار عصابات النهب، فطرق المدينة صارت غير آمنة حيث تنهب هذه العصابات السيارات والموبايلات والنقود وكل ما يحمله الشخص في جيبه، فهذا الأمر جعل السكان يتخوفون حتى من الذهاب الى السوق للحصول على احتياجاتهم من المواد الغذائية.
ويضيف:”في ظل عدم وجود شبكة الاتصالات لم تكن هناك حاجة لحمل الموبايل فيتم تركه في المنزل، لكن المدينة أصبحت بسوق واحد وهو موقف الجنينة البعيد نسبيا عن بعض الأحياء الشيء الذي يعرض المواطنين إلى مخاطر كبيرة أقلها التعرض للنهب المسلح”.
ويشير الى عودة تدريجية لخدمة الاتصالات الى مدينة نيالا هذا الأسبوع، لكن ما يزال التيار الكهربائي منقطع في معظم أرجاء المدينة لمدة ثلاثة أشهر ماضية حيث تسيطر قوات الدعم السريع على مركز التحكم الرئيسي.
وتابع: “نواجه معاناة كبيرة في الأمن والمعاش فهناك غلاء طاحن في الأسعار وشح في الأدوية والمستشفيات فالكل بدأ يفكر بشكل جدي في مغادرة نيالا الى مناطق أخرى آمنة نسبياً مثل برام وقريضة وعد الفرسان وغيرها. يجب أن تحكم الأطراف صوت العقل وتوقف هذا القتال فالمواطن لم يعد يحتمل المزيد من المآسي”.
انهيار الصحة
يعكس الوضع الصحي في نيالا الوجه الأكثر قسوة لحرب الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، إذ أغلقت كافة المشافي الحكومية بما في ذلك مستشفى “نيالا التعليمي” أبوابها أمام المرضى الذين لم يعد أمامهم سوى المستشفى التركي ذو التكاليف العلاجية الباهظة، وسط نقص كبير في الأدوية.
واقع أليم يعيشه المرضى في عاصمة ولاية جنوب دارفور جراء نقص الدواء وارتفاع أسعاره
وينقل طارق جبر الله وهو أحد المتعاملين في قطاع الأدوية بمدينة نيالا واقع أليم يعيشه المرضى في عاصمة ولاية جنوب دارفور جراء نقص الدواء وارتفاع أسعاره الأمر الذي شكل ضغط كبير على السكان في ظل توقف مصادر الكسب المادي جراء الحرب الدائرة.
ويكشف جبر الله في مقابلة مع (عاين) عن انقطاع تام لدواء السكري “انسولين” وبخاخات مرض الأزمة والعديد من الأصناف الدوائية المنقذة للحياة عن مدينة نيالا التي لم يتسن دخول أي ادوية جديدة لها منذ اندلاع الحرب وذلك نتيجة لعدم وجود معابر آمنة.
ويقول “تم نهب الإمدادات الطبية الحكومية منذ الأيام الأولى من الحرب، والآن بدأت الادوية المنهوبة تدخل الى الأسواق فبعض أصحاب الصيدليات يشترونها مضطرين لسد النقص الدوائي، وآخرين يتحفظون عليها. فهناك فوضى كبيرة في أسعار الدواء فكل أحد يضع المبالغ التي تناسبه في ظل غياب الرقابة والتسعيرة”.
“يعيش المرضى مأساة بالغة حيث يقضون طوال وقتهم في البحث عن الدواء، فضلا عن أن الوصول إلى المستشفى الوحيد الذي يعمل في المدينة وهو المستشفى التركي الواقع جنوب نيالا يجد المرضى الذي يسكنون شمال المدينة صعوبة في الوصول إليه نسبة لإغلاق الجسر أمام حركة المركبات، لذلك يضطرون للذهاب إلى منطقة دوماية غرب نيالا لتجاوز الوادي المليء بالمياه ومن ثم العودة مجدداً” يضيف طارق.
وفي ظل واقع معتم، يتحرك ناشطون من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية السلام وعملوا على مبادرات لتأهيل المراكز الصحية في المناطق الطرفية والأحياء السكنية الآمنة في مدينة نيالا بغرض تخفيف الأعباء على المرضى.