فيضان النيل يقاوم للغدر بتاريخ السودان الأثري
9 سبتمبر 2021
لم ينج موقع مدينة مروي التاريخية- المدينة الملكية- شمالي السودان للمرة الثانية هذا العام من فيضان نهر النيل الذي تسلل للحمامات الملكية في الموقع الأثري الأهم في القارة الافريقية.
ومع تسلل مياه النيل الى موقع المدينة الملكية الذي يبعد عن العاصمة الخرطوم شمالا حوالى مئتي كيلومتر من الخرطوم داخل موقع مروي التاريخي، بادر نشطاء في مدينة عطبرة بمعاونة مسؤولين في الموقع الأثري العام الماضي بضرورة الإيقاف السريع لزحف المياه إلى الموقع وتداعى العشرات منهم لإقامة مصد ترابي حول المنطقة.
غرق وانقاذ
“نجحنا لحد كبير في تدارك الخطر في لحظاته الأولى”. يقول المبادر علاء الدين عبد الحميد، قبل أن تأخذ مبادرتهم شكلا تنظيميا ويطلق عليها في مدينة عطبرة المبادرة الشعبية لحماية الآثار ودعم السياحة. ويضيف علاء الدين لـ(عاين)، ” تمكنا من جمع 800 جوال فارغ لملئها بالتراب ورصها لتكون مصدا للمياه”.
وعلى الرغم من تخفيف وطأة الغمر المباشر للمدينة الملكية من فيضان نهر النيل، إلا أن خطر ارتفاع مناسيب المياه الجوفية ما زال يهدد الموقع. ويقول حارس المدينة التاريخية مصطفى احمد مصطفى لـ(عاين)، “فيضان العام الماضي كان عالي المستوى وتسربت المياه إلى داخل الحمام الملكي”.
ويضيف مصطفى، ” نعلم أن المدينة الملكية هي العاصمة المروية ويوجد بها الكثير من الآثار والدلائل الخاصة بأنشطة صنع الحديد وآثار مهمة عندما حدث الفيضان بلغنا هيئة الآثار وقامت بالاحتياطات اللازمة للفيضان ولكن الخطر الحقيقي هو المياه الجوفية التى تنبع من الداخل”.
“فيضان العام الماضي كان ناقوس خطر ينذر بحدوث مزيد من المشاكل في المستقبل”، يقول مدير موقع التراث العالمي- جزيرة مروي، ومدير مكتب الآثار الإقليمي في ولاية نهر النيل ، د. محمود سليمان ، لـ(عاين). ويتابع، “فيضان العام الماضي عالي المنسوب كان سبباً في تسرب المياه الى داخل الحمام لطول فترته وبقاء المياه بجوار مباني المدينة الملكية،وأثر ذلك في ارتفاع منسوب المياه الجوفية ما جعل الحمام يغمر بالمياه.
“إكتشاف الحمام الملكي جاء صدفة في فيضان 1946م حينها فوجئ خفير الحمام بامتلاء الحوض بالمياه وقامت الهيئة العامة للآثار بحفريات لمعرفة السبب واتضح أن أنابيب التصريف عملت بشكل عكسي” د. محمود سليمان
وزاد سليمان، ” عانينا العام الماضي من مشكلتين الأولى وصول الفيضان في سبتمبر من العام السابق الى المباني واجهناها بشكل سريع وطارئ ولم تحدث خسائر ولكن حدثت خطورة أكبر عندما زاد منسوب المياه الجوفية لأن جدران الحمام مزينة بألوان يمكن أن تؤثر المياه والرطوبة على درجة حفظ الألوان والرسومات اضافة إلى وجود مجموعة كبيرة جداً من التماثيل كانت موضوعة يجري العمل عليها، و كان من الممكن أن تحدث بها خسائر ولكن تداركنا ذلك قبل أن تحدث مشاكل كبيرة في الموقع”.
ويصف المسؤول في الآثار موقع المدينة الملكية بأنه واحد من المواقع الاثرية الهامة في السودان. وهو محل اقامة ملكات وملوك فترة مروي في القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي الذي يمثل فترة استيطان طويلة من الملوك وبه العديد من القبور والمعابد، ويقع على الضفة الشرقية للنيل. وفقا لمحمود الذي يتابع قائلا..
“معظم المواقع الاثرية اقيمت في مناطق عالية بعيدة عن النيل إذ يمثل الموقع الجغرافي للمدينة أهمية كبيرة ويوجد ارتباط بين المدينة الملكية والنيل في الفترات القديمة تحديداً موقع الحمام الملكي وهو من أهم المباني داخل المدينة ويضيف إليها بعدا كبيرا جداً لانه مشيد على الطراز الروماني، وحاول المرويين في العمارة والتشيد للحمام ان يظهروا للعالم انهم على علم وصلة بالمعمار الاغريقي والروماني والمصري القديم، وكانوا متأثرين ومؤثرين في غيرهم. والحمام هو مكان للاستجمام وأقرب إلى حوض السباحة ويحوي غرفة حمام بخار على أعلى مستوى تظهر فعلاً ان هذا مكان اقامة ملوك “.
ويقول محمود، أن طبيعة تشغيل الحمام الملكي كانت مرتبطة بالنيل لكن يعتقد في ذلك الوقت أن النيل لم يكن مهددا للمدينة الملكية وهناك سيطرة من المرويين على النيل وارتفاع مناسيبه في فترة الفيضان.
ويشرح سليمان طريقة تصريف المياه في الحمام الملكي بأنه تتم عن طريق بئر بواسطة ساقية تضخ المياه عبر قنوات معينة داخل حوض الحمام يظهر فى نهايتها زخارف وتماثيل حيوانية وغيرها تؤكد عظمة المهندس المعماري المروي واعتمدوا على تصريف المياه الراجعة بواسطة أنابيب من الحوض الذي يصل عمقه الى ستة امتار ترجع عبر القنوات للنيل.
ويؤكد محمود سليمان، أن إكتشاف الحمام الملكي جاء صدفة في فيضان 1946م حينها فوجئ خفير الحمام بامتلاء الحوض بالمياه وقامت الهيئة العامة للآثار بحفريات لمعرفة السبب واتضح أن أنابيب التصريف عملت بشكل عكسي وسحبت مياه النيل بعد ارتفاع مناسيبه وأغلقوا الانابيب ولم يحدث أن دخلت المياه الى الحمام إلا في العام الماضي .
مخاوف عالمية
بعد تدارك المشكلة تم الاتفاق مع اليونسكو على اقامة ترس بالمواد المحلية يمكن إزالتها لأسباب فنية إذ تعتقد اليونسكو انه موقع عالمي وحدوده غير معروفة وتشيد عزل بمواد ثابتة ربما يحدث بعض الأضرار تعيق الحفريات في المستقبل وفقاً لـ د سليمان. الذي يضيف بالقول..
“كانت المنظمة بين قرار بناء سد يمكن إزالته او حاجز ترابي، انتهينا إلى إقامة الأخير وراضين الى حد ما”. ويؤكد سليمان، أن االحاجز وفر حماية كاملة وحجز المياه عن المدينة الملكية وهذا العام تمت السيطرة على المياه وجرى العمل على سد الفراغات وشفط المياه فور دخولها واعادتها الى النيل بواسطة موتورات.
قصور في الدراسات
“المدينة الملكية اكبر موقع اثري في أفريقيا من حيث المساحة وكثافة المباني والدلالات الاثرية التي تم كشفها في المدينة غير اقامة الملوك والملكات في فترة مملكة مروي، وكان هناك سكان في المنطقة منذ القرن الثامن والعاشر قبل الميلاد وبها فترة استيطان طويلة”. يشدد د. محمود سليمان ويقول ان كل هذا يحتاج إلى عمل ودراسة، ويعتقد انه يوجد قصور كبير في الدراسات الاثرية لمدينة ملوك أهم فترة تقدر الدراسات فيها بأقل من (50%) من الموجود داخل المدينة ، وهذا قصور كبير جدا في الابحاث الاثرية التى يجب ان تُكثف بمصاحبة الترميم والإصلاح وحماية الآثار لإثراء معلومات تاريخنا الأثري وخلق سياحة.
إهمال الآثار:
“المدينة الملكية تتعرض لعوامل الطبيعة من تجريف وزحف صحراوي وتقوم الرمال بتغطية الآثار ” يقول مصطفى أحمد مصطفى الذي امضى سنوات عديدة متنقلا في حراسة المواقع الاثرية في المدينة المروية بولاية نهر النيل، ويضيف لـ(عاين)، ” نحن نحرس المواقع الاثرية حراسة تامة ولكن الرمال التي يجرفها الهواء المتحرك تهددها.. يقولون ان هناك فكرة حزام أخضر وتتم دراسة نوع الأشجار الملائمة لمكافحة الزحف الصحراوي “.
بعد تفاقم خطر تهديد النيل للمدينة الملكية على نحو مفاجئ العام الماضي نشأت المبادرة الشعبية لحماية الآثار ودعم السياحة بعد مساهمة تنسيقية لجان مقاومة عطبرة في حماية المدينة الملكية من الغرق وتطورت المبادرة لتصبح قومية وتوسع نشاطها الى عمل التوعوي عن الآثار.
وبحسب عضو المبادرة علاء الدين، فإن ما توصلوا إليه في المبادرة هو أن “الحكومة تهمل الآثار بطريقة كبيرة وهذه المصلحة خارج اهتمامها”.
لا يجد مدير موقع التراث العالمي- جزيرة مروي، ومدير مكتب الآثار الإقليمي في ولاية نهر النيل، د. محمود سليمان، من التأكيد على عدم قدرة السودان من الاستفادة من التاريخ الأثري. ويقول لـ(عاين)، “نحن غير قادرين على الإستفادة من مواقعنا الاثرية المدرجة عالمياً”.