العتاد الحربي يبتلع إيرادات السودان الشحيحة
عاين – 6 يناير 2024
عندما اندلعت حرب السودان أبريل الماضي كان نحو (15) مليون يعيشون في مستويات منخفضة من الأمن الغذائي. لكن اليوم وبعد نحو تسعة أشهر من الحرب لا يمكن التكهن بما وصلت إليه الأوضاع مع تهاوي الاقتصاد أمام تنافس طرفي الحرب في تحويل موارد البلاد الشحيحة إلى التسليح والعتاد الحربي، في وقت يواجه السودانيون مصيرهم أمام متاعب اقتصادية تنعدم فيها السيولة النقدية وارتفاع سعر الصرف ونقص الوقود.
هيام ربة منزل تقيم في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالي البلاد وهي من الولايات الآمنة نسبيا تقضي يومها بحثا عن مشترين لمستحضرات التجميل التي تشتريها من موردين في السوق الرئيسي.
بالكاد تحصل هذه السيدة على هامش أرباح من تجارتها التي بدأتها بعد اندلاع الحرب على 70 ألف جنيه أسبوعيًا تنفقها لشراء الطعام لعائلتها، بينما لا يجد زوجها في أيام كثيرة العمل في عربات الشحن بالسوق الرئيسي، ويعتمدون على وجبة رئيسية واحدة في اليوم.
تقول هيام لـ(عاين) إن “الوضع المعيشي زاد سوءا إلى حد بعيد في الأشهر الأخيرة، لم يعد بالإمكان شراء 30 قطعة من الخبز في كل وجبة بقيمة 5 آلاف جنيه ما يعادل 5 دولارات”.
تقطن هذه العائلة مع بعض الأقرباء في منزل صغير دون مقابل مالي عقب فرارهم من الحرب في الخرطوم التي فقدوا محتويات منزلهم الذي تعرض إلى النهب إلى جانب “التوك توك” الذي كان يعمل عليها زوجها.
تعثر سداد الرواتب
بينما يواجه نحو مليون عامل في القطاع العام في السودان أزمة الأجور عقب فشل وزارة المالية الاتحادية التي حولت مقرها إلى مدينة بورتسودان عقب اندلاع الحرب قبل ثمانية أشهر في الوفاء بدفع رواتب القطاع العام إلى جانب ذلك فإن مؤسسات الدولة الاقتصادية تواجه شبح الشلل بسبب تراجع الإيرادات.
كما أن الإنفاق الحكومي في نفس الوقت طبقا للباحث الاقتصادي محمد إبراهيم لم يتوقف ولم يتقلص؛ لأن الوزارات تتسابق على تأجير العقارات الفخمة بمدينة بورتسودان وتحويلها إلى مكاتب لا تقدم أي خدمة للمواطنين سوى جمع الرسوم والضرائب.
تزايد الإنفاق العسكري
يعتقد إبراهيم أن الإنفاق على الحرب يلتهم جميع الإيرادات الحكومية لدرجة أن وزارة المالية خصصت موظفين للعمل في دفع ميزانيات الحرب يوميا مثل الإمداد والتموين وحتى صفقات الأسلحة، وربما أنفقت الحكومة القائمة في بورتسودان نحو (3) مليار دولار خلال ثمانية أشهر.
ويقول إبراهيم في مقابلة مع (عاين): إن “الوضع الاقتصادي بالنسبة للمواطنين لم يعد أولوية بالنسبة لوزارة المالية ومؤسسات الدولة القائمة في ولاية البحر الأحمر؛ لأن الملايين حاليا على أعتاب المجاعة وحتى المنظمات الدولية تتعرض إلى مضايقات أمنية ومنع تصاريح الدخول لعشرات العمال في مجال الإغاثة”.
فيما يقول مصدر حكومي من وزارة المالية الاتحادية لـ(عاين): إن “المالية سمحت للولايات بالبحث عن بدائل لسداد رواتب العمال في القطاع العام من خلال تصميم إيرادات حقيقية بأوامر محلية”.
وأضاف: “لم تود وزارة المالية تركت الأزمة دون معالجات.. هناك مقترحات قدمت إلى الولايات لتوفير إيرادات تحول إلى حساب الفصل الأول من الموازنة المالية لإنهاء أزمة الرواتب”.
مخيمات حول المدن
بدأ سعر الصرف صعودا قويا في تعاملات بداية العام بالأسواق الواقعة في الولايات البعيدة نسبيا عن الحرب بين الجيش والدعم السريع، ووصل سعر واحد دولار أمريكي إلى 1.70 جنيها وهناك توقعات بتخطي حاجز الـ 1.5 ألف في غضون شهرين حال عدم توقف القتال.
يقول الباحث الاقتصادي محمد إبراهيم إن الحكومة تعتمد على صادرات الذهب الذي تنفق جزءاً من إيراداته على مؤسسات الدولة والنفقات الحكومية إلى جانب تمويل العتاد الحربي.
ويتوقع إبراهيم، أن يتحول الوضع الاقتصادي الحالي إلى “إفقار المجتمعات” الناجية من الحرب والبقاء حول المدن في مخيمات نزوح ومراكز الإيواء مع طبقات اقتصادية عسكرية باطشة. وأضاف: “هذه الملامح بدأت تتشكل الآن”.
عالقون في ظروف سيئة
بحثا عن موطن نزوح، وصل عامر مع عائلته من مدينة ود مدني بولاية الجزيرة عقب هجوم الدعم السريع إلى مدينة القضارف شرق البلاد وهي مدينة حدودية مع إثيوبيا، وأنفق نحو مليون جنيه ما يعادل ألف دولار أمريكي لجلب حافلة صغيرة لنقل عائلته والأمتعة من ودمدني إلى القضارف.
وعامر هو واحد من آلاف المواطنين الذين واجهوا ظروفاً اقتصادية قاسية، ووضع أمني حاصرهم للمرة الثانية في ولاية الجزيرة بعد أن وصلوا إلى هناك من الخرطوم هربا من القتال.
وترى الباحثة الاجتماعية سوسن عبد الكريم في حديث لـ(عاين)، أن الملايين من السكان العالقين في المناطق الساخنة مثل الخرطوم وكردفان ودارفور والجزيرة لا يملكون المدخرات المالية، وتضررت أعمالهم بالنهب وتوقف الحياة الاقتصادية ونهب غالبية الأسواق.
وتقول سوسن عبد الكريم، إن “معالجة هذه الأزمة تتطلب تدخلا ناجعا بالسماح للمنظمات الإنسانية بالعمل وسط المواطنين دون ملاحقات أمنية، وأن تكف الحكومة في بورتسودان عن سياسة -إغلاق الأذنين- إزاء معاناة المدنيين”، لأنها طبقا لسوسن “مسؤولة عن توفير الطعام والعلاج في أثناء فترات الحرب كما تفعل الدول عادة”.
وترجح الباحثة الاجتماعية سوسن عبد الكريم، أن تؤدي الحرب المتطاولة إلى حالات جنون وانتحار بين الفئات الاجتماعية الضعيفة أو ذهاب الأطفال إلى التجنيد العسكري والعمالة في الأسواق بالتالي تفكك العائلات.