أزمة الدواء في السودان.. لا سبيل لإنقاذ الحياة !
عاين-27 يوليو 2020م
استغرق “عادل محمد” أكثر من شهرين في البحث عن عقار “التامسولين” ولا يجده في صيدليات العاصمة السودانية الخرطوم، وهو دواء مستورد لعلاج أعراض تضخم البروستاتا. و يعاني عادل حالياً من زيادة أعراض هذا المرض بصورة مزعجة وتزداد حالته سوءاً يوماً بعد يوم.
ويقول “محمد” الذي التقته (عاين) في إحدى صيدليات ضاحية الكلاكلة جنوبي الخرطوم، “أنه بدد أضعاف سعر الدواء الذي يبحث عنه في وسائل المواصلات وسيارات الأجرة في رحلة بحثه، وأن هذه هي ربما الصيدلية العاشرة التي يدخلها منذ الصباح ولا يجد فيها غير جملة .. عذرا هذا الدواء غير متوفر لدينا”
ويعاني السودان منذ بداية هذا العام أزمة دواء غير مسبوقة، وصيدليات ادراج عرضها فارغة تكاد لا تتوفر فيها ابسط انواع الادوية بسبب توقف شركات استيراد الأدوية و شركات تصنيع الأدوية المحلية عن العمل بسبب عجز الجهات الحكومية عن القيام بمسؤولياتها تجاه عملية تسعير الأدوية وتوفير النقد الأجنبي المدعوم إضافة إلى اتخاذها مجموعة من القرارات المتضاربة خلال الفترة الماضية مما أوصل البلاد لوضع كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ويقول “عادل محمد”، “وجد هذا الدواء معروضا على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بسعر 4 آلاف جنيه-نحو 25 دولاراً في حين أن سعره الحقيقي حينما كان متوفرا لم يتجاوز 240 جنيها –اقل من دولارين، وعلمت (عاين) بعد تواصلها مع أحد من يعرضون هذا الدواء للبيع أن الدواء قادم من دولة مصر المجاورة عبر أفراد وهم يستغلون ندرته لزيادة سعره بسبب أن الشركة التي تستورده في السودان متوقفة عن الاستيراد منذ بداية العام 2020 كحال معظم شركات الدواء.
شلل الاستيراد
يتشكل سوق الدواء في السودان من ثلاثة قطاعات وهي الصناعة المحلية وقطاع الاستيراد ومؤسسة الإمدادات الطبية الحكومية، من الثلاثي يعتبر قطاع الاستيراد هو المساهم الأكبر في الوفرة الدوائية يأتي بعده مباشرة قطاع التصنيع المحلي ثم الإمدادات الطبية المسؤولة عن توفير اللقاحات والأدوية النادرة وبعض ادوية الطواريء ومساهمتها في الوفرة الدوائية تعتبر الأقل رغم أهمية الأصناف التي توفرها.
يساهم قطاع الاستيراد بما يقارب 65٪ من سوق الدواء السوداني حسب إفادة د.محمد فتحي وهو عضو في اللجنة التسييرية لمستوردي الأدوية، وهو القطاع الذي يعاني حاليا من توقف شبه كامل والذي أدى توقفه لحدوث ازمة الدواء الماثلة حاليا باعتباره المساهم الأكبر في الوفرة الدوائية.
يقول محمد فتحي لـ(عاين)، أن سبب الأزمة هو غياب الإرادة السياسية لحلها إضافة لعدم وجود استراتيجية حكومية واضحة لقطاع استيراد الدواء.
في السابق، والحديث لـ”فتحي”، “كانت الدولة تخصص 10٪ من حصيلة دولار الصادرات غير البترولية لقطاع استيراد الأدوية وهو رقم كان يساوي في أفضل حالاته ما يقارب 200 مليون دولار وهو رقم غير كافي لتغطية حاجة هذا القطاع التي تساوي حوالي 300 مليون دولار سنويا ولكن رغم ذلك كان الفرق يتم تحمله على مضض بتقليل التكاليف والتشاور مع الشركات المصنعة.
ومع ذلك وفقا لفتحي، قامت الحكومة الحالية في شهر يناير 2020 بإصدار قرار يقضي بإلغاء البنك المركزي لتخصيص هذه الـ 10٪ دون قرار مصاحب بتوفير بديل لها، وهو قرار تمت مناهضته من قبل الصيادلة وبعد ضغوطات تراجعت الحكومة عن قرار الإلغاء وهو تراجع لم يصمد سوى ثلاثة أسابيع عاد بعده مجلس الوزراء لتمرير قرار الإلغاء. يقول “أن هذا التخبط يدل على أن الحكومة لا تملك سياسية واضحة لقطاع الاستيراد على أهميته”.
ويرى محمد فتحي، أن الأزمة كبيرة جدا حاليا وتتطلب حلا عاجلا فما تم استيراده منذ بداية العام 2020 يمثل فقط 6٪ مما يتم استيراده خلال نفس الفترة في السنين السابقة وهذا نسبة توضح أن الفجوة كبيرة جدا.
ويقترح فتحي، على الدولة أن تضع استراتيجية طويلة الأمد لقطاع الاستيراد تمكنه من البناء عليها خططيا، إضافة لإصدار قرارات عاجلة في شأن توفير الدولار لأن عملية الاستيراد عملية تأخذ في حد ذاتها ما بين شهرين لأربعة أشهر وفي بعض الأصناف ستة أشهر هذا دون الوضع في الاعتبار تأثير جائحة كورونا على عمليات الشحن، مما يعني أن التأخر في القرار يؤخر في الإمداد ويضاعف بالتالي في الأزمة.
الصناعة المحلية تعاني
وليس ببعيد من قطاع الاستيراد فالصناعة المحلية المساهم الثاني في الوفرة الدوائية تعاني كذلك من نفس المعضلة حيث التقت (عاين) مدير التسويق في احد أكبر مصانع الدواء السودانية د.محمد الفاتح حمزة، الذي يشير إلى أن عدم توفير الدولار من قبل الحكومة حد من قدرة القطاع الإنتاجية بصورة كبيرة خلال النصف الأول من هذه السنة فكل المواد الخام يتم استيرادها من خارج السودان بالدولار إضافة لكثير من مواد التغليف والتعبئة المطلوبة، لذلك فكثير من المصانع حاليا لا تتوفر لديها المواد الخام الكافية للإنتاج بالطاقة القصوى إضافة إلى ذلك فهناك مشكلة تسعير للأدوية المحلية حيث تم التسعير لها بطريقة مجحفة في الفترة الماضية اضطرت معها هذه المصانع للتوقف عن البيع. حيث تم التسعير على حسب الدولار بالسعر الرسمي وهو 55 جنيه في حين أن المصانع تستورد الخام بسعر السوق الموازي 130 جنيه وهذا الفرق الكبير يجعل عملية البيع تمثل خسارة حتمية لكل المصانع المحلية.
وحول التسعيرة الاخيرة التي تم الاتفاق عليها مع المجلس الاتحادي للصيدلة والسموم وهي الجهة المسؤولة عن تسعير الأدوية وتم على ضوئها استئناف عملية البيع من قبل المصانع المحلية قال محمد الفاتح حمزة أن هذه التسعيرة تعتبر تسعيرة طواري على حد تعبيره حيث تم الاتفاق حولها لسد بعض من الفجوة الكبيرة الماثلة حاليا ولكنها ليست تسعيرة مجزية للمصانع المحلية ولا يمكن اعتبارها نهائية..
ولمعرفة خطط المجلس الاتحادي للصيدلة والسموم حول تسعير الأدوية لقطاعي الاستيراد والتصنيع المحلي وكذلك لمعرفة أكبر حول التسعيرة الأخيرة التي تمت أجازتها بزيادة كبيرة لبعض الأدوية المحلية والتي وفرت بعض الحل للفجوة الدوائية تواصلت (عاين) مع الأمين العام المكلف للمجلس الاتحادي للصيدلة والسموم د.مناهل عبد الحليم والتي رفضت الإدلاء بأي تصريحات في هذا الخصوص رغم المحاولات المتكررة معها.
الولايات..لاحق في الدواء
أزمة الدواء في الولايات اكثر حدة، و المرضى هناك يعانون من فجوة دوائية كبيرة تفوق ما يحدث في العاصمة الخرطوم، حيث يقول مصعب مبارك عوض الكريم وهو رئيس اللجنة التسييرية لصيادلة النيل الأزرق جنوبي البلاد، أن “معظم الادوية غير متوفرة وأن هناك ندرة واضحة في كثير من أدوية الطواريء بسبب أن مؤسسة الإمدادات الطبية_وهي الجهة الحكومية المسؤولة من الإمداد الدوائي لكثير من أدوية الطواريء_ تعطي الأولوية للخرطوم ولا تبيع لصيدليات القطاع الخاص في الولايات كما هو الحال في الخرطوم”.
ويضيف عوض الكريم لـ(عاين)، أن “الإغلاق بسبب كورونا ساهم كذلك في الأزمة حسب رأيه حيث قلل من وتيرة ترحيل الأدوية للخرطوم نسبة لتوقف معظم شركات النقل عن العمل”.
من جهته، يقول د.محمد نوري، لـ(عاين) وهو عضو في اللجنة التسييرية للصيادلة في ولاية القضارف شرقي البلاد، أن الأوضاع في القضارف وكسلا المجاورة كذلك كارثية لأبعد الحدود حيث أن هناك انعدام شبه كامل لكل أنواع المضادات الحيوية إضافة لأدوية الأمراض المزمنة والنفسية كما أن الندرة الحالية سببت فوضى عارمة في الأسعار حيث تباع معظم الأدوية بأضعاف أسعارها الحقيقية.
كما يقول د.يوسف حديربي، وهو مالك صيدلية في مدينة الابيض اواسط البلاد، أن الأوضاع في تلك المناطق بالغة السوء حيث أن معظم الصيدليات فارغة من الأدوية حتى أن الحصول على البنادول صار مستحيلا. ويقول حديربي لـ(عاين)، أن “مؤسسة الإمدادات الطبية لا تملك سوى خمس منافذ للبيع في كافة الولاية وأن هذه المنافذ لا تكفي لحوجة إنسان المنطقة مما شكل فجوة كبيرة في أدوية الطوارئ والأدوية المنقذة للحياة كالمحاليل الوريدية وغيرها فإن ولاية الخرطوم تحوذ على نصيب الأسد من الأدوية المتوفرة حاليا على قلتها نسبة لتواجد مقرات شركات الأدوية المستوردة بها، كما أكد على أن عدم اهتمام السلطات الصحية بالرقابة فاقم الأزمة بسبب ظهور وسطاء وسماسرة ضاعفوا من أسعار الأدوية”.
ضغط الصيادلة
بسبب الجمود الحكومي تجاه أزمة الدواء وعدم اتخاذ قرارات ناجزة وفعالة قامت الأجسام الصيدلانية بعمل وقفات احتجاجية راتبة لعدة أسابيع أمام مجلس الوزراء لممارسة ضغط على الحكومة يدفعها لحل الأزمة. ويقول ممثل للجنة الصيادلة المركزية احد الأجسام التي نظمت الوقفات، ياسر علقم لـ(عاين)، أنهم يرون أن الحكومة لا تضع ملف الدواء من ضمن أولوياتها والدليل على ذلك أنها لم تضعه ضمن السلع الاستراتيجية بجانب الدقيق والوقود إلا بعد 8 أشهر كاملة من تولي مهامها. ويشير علقم، إلى ان هذا الادارج نظري وتم بعد ضغط ولم يصاحبه جهد حكومي لحل أزمة الدواء.