بسبب سد مروي ومشروعات زراعية.. حياة كاملة إلى زوال شمالي السودان
عاين -4 ابريل 2020
“نجوت انا وعائلتي من موت محقق، تهدم الحائط الامامي لمنزلنا اكثر من مرة واعدت تشييده، وبعدها انتقلت مخاطر الانهيار إلى باقى غرف المنزل الذى انهارت سقوفه قبل لحظات من خروجي انا وزوجتي ووالدتي من احدى الغرف التي كنا ننقل منها الاساس إلى فناء المنزل”، يروي المواطن مجدي حسن من بلدة السوقيات شمالي السودان معاناته مع تسرب مائي دمر مئات المنازل واتلف عشرات المشاريع الزراعية في المناطق المتاخمة لبحيرة سد مروي وعدد من المشروعات الزراعية الحكومية الضخمة.
ويقول حسن لـ(عاين) وهو الذي ينشط ايضاً في لجان اهلية لمعالجة مشكلة التسرب المائي او ما يعرف محليا بـ”النز “، بأن أول تأثيراته على منزله بدأت بانهيار الحائط الأمامي ثلاث مرات وقام بتشييده في النهاية بالحجارة إلا أنه انهار مرة أخرى، ويقول :”في يوم ما شعرت بأن المنزل سينهار كله، فبدأت بنقل الأثاثات وحيداً، ثم ناديت بعض الأصدقاء لمساعدتي، زوجتي أشارت إليّ بتفكيك مصابيح الإنارة على الحائط، فأحضرت معول مفك وبدأت بذلك، وعندما خرجت من الاتجاه الشرقي مع والدتي لأعيد إصلاح عطب في اداة استخدمها لتفكيك اسلاك الكهرباء، وخرجت زوجتي من الاتجاه الغربي، وبعد دقيقة واحد من خروجنا جميعا من داخل المنزل، انهار سقفه كاملاً وسقطت الجدران على الأرض”.
وتابع مجدي: “قضيت كل فصل الشتاء داخل هذا الراكوبة التي شيدتها بعد انهيار المنزل”، وناشد جميع الجهات المسؤولة ومنظمات العمل الطوعي للتدخل لنجدة أهالي المنطقة الذين يعيشون في أوضاع صعبة جداً.
ومنذ ما يقارب العشرة أعوام، يعيش سكان عدد من القرى في الولاية الشمالية مشكلة تسرب مياه النيل الناتج من حيضان المشاريع الزراعية التي تنفذها الحكومة ف تلك المناطق، ورغم غياب أي فائدة يتلقاها هؤلاء المواطنون من المشاريع الزراعية المذكورة، إلا أنهم أول ضحاياها، وبالتحديد في قرى محلية مروي القريبة من سد الحامداب (مروي)، حيث تتأثر أراضي القرى من الآثار البيئية الناتجة ما بعد تنفيذ السد، وحسب رؤية خبراء وجيولوجيون، فإن الدراسات القبلية التي توضح تلك الآثار أما أنها محجوبة بشكل ما أو أنها تجاهلت الأخطار التي سيتعرض لها المواطنون.
(عاين) زارت القرى المتضررة الواقعة تحت السلطة التنفيذية لمحلية مروي، وهي ثلاث قرى تأثرت بتسرب مياه المشاريع الزراعية وهي مشروع الللار الزراعي ومشروع الكاسنجر الزراعي ومشروع تنقاسي الكبرى، والقرى هي على الترتيب قرية الرجيلة بمنطقة نوري وقرية السويقات بمنطقة كريمة وقرية الكُري بمنطقة القرير.
وظهرت مشكلة التسرب في بداياتها في العام 2011 بمنطقة الرجيلة بعد ملء بحيرة سد مروي بأعوام قليلة وبعد تنفيذ مشروع اللار الزراعي بمنطقة نوري، حيث بدأت المياه بالتسرب من أحواض المشروع الزراعي إلى باطن الأرض وزادت من مخزون المياه الجوفية، ما ادى لظهور برك صغيرة تسبب تشرب جدران المنازل بالمياه وتغمر الأراضي الزراعية وترويها أكثر من حوجتها الأمر الذي يقود لتلفها وخصوصًا أشجار النخيل التي إما تستقط أو تتعفن جذورها وتصبح غير قادرة على الإثمار.
خسائر كبيرة
وحسب احصائيات المحلية فإن الخسائر في منطقة اللار التي تمت معالجتها وفي انتظار التعويضات، بلغ حوالي 50 بيتاً، وفي منطقة السويقات حوالي 64 منزلا وفي منطقة الكري حوالي 130 منزلاً، ولكن ما شاهدته (عاين) بالمنطقتين الأخيرتين يفوق الاحصائيات الرسمية بأعداد كبيرة. ففي منطقة الكري، أفاد مواطنون أن مجموع المنازل المتضررة بلغ حوالي 500 منزل بينما المنازل المنهارة كليا حوالي 149 منزلا. وفي منطقة السويقات، كل منازل المنطقة متضررة بينما بلغ عدد المنازل المنهارة كليا ما يقارب 45 منزلاً، إلى جانب الخسائر الكبيرة في المحاصيل والمزارع.
وفي منطقة الكري، تحدثت (عاين) إلى المواطن سيد أحمد محمد سيد أحمد الذي خسر كله منزله جراء النز، وهو شاب في العشرين من العمر بنى منزله ليكمل مراسم زفافه، ولكن النز لم يسعفه وأسقط المنزل كاملاً سوى بعض الطين المتبقي على الأسوار، ويقول سيد احمد:”خسرت خسائر كبيرة في تشييد هذا المنزل، ولا أستطيع تحمل تكاليف بناء منزل آخر”، وأشار إلى زيارات المحلية للمنطقة المنكوبة، ووعودها التي قطعتها للمواطنين دون تنفيذ أي منها، وطالب بتعويضهم عن كل ذلك أو إيقاف المشروع. كما ناشد الحكومة المركزية للتدخل وتخفيف وطأة المعاناة على الأهالي.
تجاهل حكومي
كما قال المواطن الذي انهار منزله كاملاً بلة حمدية ادريس، إن المحلية والجهات المختصة لم تفيدهم في أي شيء، مشيراً إلى أنها تعلم بوضعهم جيداً، وأعرب عن استيائه من أن المشروع ليس ملكاً لأهالي المنطقة، وإنما يتبع لمستثمرين سودانيين وأجانب اشتروا مناطق زراعية قريبة لمناطقهم السكنية، وهدد بلة بلجوءهم للاحتجاج ضد المحلية في حالة عدم استجابتها لوضع حلول لأن الوضع أصبح لا يحتمل، واشتكى تأثرهم من ارتفاع مناسيب المياه الجوفية إلى سطح الأرض وتوالد البعوض وكثرة الأمراض وخسارتهم لعدد كبير من مواشيهم بسبب سقوط الزرائب عليها.
وفي منطقة السويقات شمال مدينة كريمة، بدأ النز في حوالي العام 2017، وكون الأهالي لجنة لمتابعة الأمر مع الجهات المختصة، وقابلوا المحلية التي وفرت لهم عدداً قليلاً من الخيم لا يغطي حوجة جميع أهالي المنطقة كما أفادوا.
مساعي سياسية
وكشف رئيس لجنة معالجة النز بالمنقطة، المواطن عوض العقيد، أنهم أجروا اتصالات عدة مع جيولوجيون وخبراء، إلى جانب اتصالات مع المفاوضات التي تجري في عاصمة جنوب السودان جوبا وتم تضمين قضيتهم ضمن ملفات مسار الشمال المفاوض في الجنوب، ولفت إلى تقديمهم خطاب للمدير التنفيذي للمحلية طالبوا فيه بإيقاف المشروع الذي لا يعود لهم بأي فائدة بل يوقع بهم الأضرار، ونبه إلى أن المشروع هو جزء من المشكلة ولكنه سبب ظاهري، قائلا إن السبب الرئيسي في كل مشاكل المنطقة سد مروي الذي له تأثيرات بيئية على المناخ والتربة ومناسيب المياه.
أخطار وتهديدات
الباحث في قضايا السدود، الحسن هاشم، يقول أن ظاهرة النز في الولاية الشمالية بدأت بعد بناء سد الحامداب بالمنطقة، وأن المشاكل الملازمة لسد الحامداب كثيرة منها هدامات الأراضي التي تؤدي لاختفاء جزر كثيرة على النيل، وتلوث المياه الذي بسبب أمراض كثيرة لأهالي المنطقة، وحوالي 6000 فشل كلوي في الولاية الشمالية مشيراً إلى تصريحات سابقة لوالي الشمالية الأسبق.
ونبه هاشم إلى خطورة وصول النزل شمال السد حتى مناطق حوض السليم والدفوفة الأثرية المتبقية من حضارة كرمة، الأمر الذي اعتبره اشد خطورة من انهيار منازل المواطنين وخسارتهم لأراضيهم الزراعية ومحاصيلهم، وناشد حكومة الثورة ووزارتي الري والموارد المائية والسياحة لإنقاذ المنطقة ودرء الخسارات.
تعويضات ضائعة
واستمرت تلك الظاهرة لسنين طويلة عانى فيها مواطنو قرية “الرجيلة” من النز وآثاره على بيئتهم، وواصلوا احتجاجاتهم التي وصلت لحدي الإضرار بالمشروع الزراعي، الأمر الذي قاد المحلية للإسراع في حل المشكلة في شهر يناير الماضي، وبها الصدد. وقال مدير إدارة الزراعة بمحلية مروي المهندس عثمان أحمد عثمان لـ(عاين)، إن دراستهم للمشكلة أثبتت أن الخلل الأساسي يكمن في توزيع القطع السكنية لأولئك المواطنين، وذلك بإسكانهم في مناطق تقع في مجاري ووديان رئيسة للسيول، وأضاف أن الخلل الثاني في تصميم تلك المشاريع الزراعية وأحواض ريها، مؤكداً أن طبيعة التربة في المنطقة مفككة، وكشف أن معالجتهم للقضية تمت على مستويين فني وإجرائي، ويشمل الأول إصلاح خلل الترعة الرئيسية بمشروع اللار الزراعي لمنع تسرب المياه، والثاني يتمثل في بحث تعويضات للمتضررين منها تعويضات مالية ومنها إيجاد مخططات سكنية لهم.
ومنذ إقرار التعويضات المذكورة، لم يتسلم الأهالي أي جزء منها، الأمر الذي بررته المحلية بارتباطه بإجراءات فقط، في وقت لم تؤكد احتمالية تعويض المتضررين من قرى السويقات والكري، وأشارت نائبة المدير التنفيذي بالمحلية سمية التوم، أن التعويضات يتم اعتمادها بشكل مركزي ثم ولائي ليتم توزيعها على الأهالي، الأمر الذي لم يتم حتى اللحظة.