(الويكة).. كيف تنقذ حياة أطفال سوء التغذية في السودان؟
عاين- 6 أغسطس 2025
حين دارت آلة الحرب في السودان، وانقطعت الإمدادات الغذائية، تمدّد الجوع في معظم مناطق البلاد، وتفاقمت حالات سوء التغذية، خصوصاً بين الأطفال. لكن وسط العجز الرسمي وشح الإغاثة، كان بحث السودانيين والسودانيات مستمرا في لإنقاذ أرواح الصغار، فكانت دقيق خضار البامية “الويكة” طوق نجاة لمن عرف قيمتها الغذائية لمعالجة سوء التغذية وسط الأطفال مع إضافة مكونات محلية هي الأخرى متوفرة.
ووفقاً لبيانات برنامج الغذاء العالمي، يعاني قرابة 40% من الأطفال دون الخامسة سوء تغذية حادّا، من بينهم 11% مصابون بنقص شديد في التغذية، بحسب برنامج الأغذية العالمي. فيما تشير خلال يوليو الماضي، عن ارتفاع بنسبة 46% في عدد الأطفال الذين يتلقون العلاج من سوء التغذية الحاد عبر السودان، ما يعكس تفاقم الأزمة واستمرارها رغم تدخل الجهات الإنسانية، وهنا تبرز أهمية استعمال الأدوات المحلية.
في أيام الحصار بأم درمان، ما أنقذنا أنا وأطفالي كان طبق الويكة مع السمك الذي يصطاده زوجي
زينب- أم درمان
في ضاحية الفتيحاب بأم درمان إحدى مدن العاصمة السودانية الثلاثة، حيث خيّم حصار قوات الدعم السريع على المنطقة منذ يوليو 2023، حتى استعادها الجيش في مارس 2024، تحكي زينب عمر (28 عاماً). كيف أن عادة بسيطة ورثتها عن والدتها أنقذت حياتها وحياة طفليها. وتقول لـ(عاين): “منذ أن تزوجت، اعتدتُ أن أقطع ربع مقدار البامية إلى شرائح صغيرة، ثم أفرشها تحت الشمس حتى تجفّ. كنتُ أفعل ذلك لعلّي أستعملها لاحقاً في الطبخ، حتى أصبح لديّ دائماً كيسٌ بلاستيكيٌّ مليءٌ بالويكة”. وتتابع:”كان زوجي يغضب، ويتساءل ما الفائدة منها؟ فهو يحب البامية طازجة في الطهي، ولكن مع اشتداد الحصار وغياب التموين عن الأسواق المحلية، باتت تلك الويكة الملاذ الوحيد.

“كنتُ أجمع الحطب لأطبخ الويكة مع ما يتيسر: بصل، طماطم، عدس، أو حتى لبن إن وجد، لكن ما أنقذنا — أنا وأطفالي الذين لم يتجاوز أكبرهم ثلاث سنوات — كان طبق الويكة مع السمك الذي يصطاده زوجي”. تروي زينب.
في سوق “أم دفسو” الوحيد المفتوح رغم قصفه المستمر، لاحظت زينب ارتفاع الأسعار الجنوني آنذاك: فقد ارتفع سعر كيلو دقيق الذرة من 1,600 جنيه إلى 30,000 جنيه سوداني. ولم يكن هناك دواء ولا أي مقومات حياة أساسية.
اليوم، تنظر زينب إلى طفليها بصحة جيدة كما تصفهما، يلهوان ويضحكان رغم الأزمة. تبتسم وتقول: “زوجي الآن إذا خرج من البيت يعود حاملاً بامية أو ويكة!”
لم تكن زينب وحدها من خاضت تجربة الحصار. ففي مناطق عديدة من السودان، ففي الخرطوم ودارفور وكردفان، تُركت العائلات تواجه الجوع وحدها. وقد شهدت هذه المناطق المحاصرة تصاعداً حاداً في معدلات سوء التغذية، لا سيما بين الأطفال.
ففي تحليل تغذوي شامل نشره تجمع التغذية السوداني بالتعاون مع الجهات الصحية في أبريل 2024، وُثّق أن 29.4٪ من الأطفال دون 5 سنوات في مخيم زمزم يعانون سوء تغذية حاد بينهم 8.2٪ في حالات سوء تغذية حاد جداً كما بلغت نسبة الحوامل والمرضعات المصابات بسوء التغذية 33.3٪.
وقد وصف مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في يونيو 2024 الأزمة بأنها واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية عالمياً، حيث قدر أن 25.6 مليون شخص يواجهون انعدام أمن غذائي حاد، ومنهم 755,000 في مرحلة المجاعة، و14 منطقة، بما فيها أحياء محاصرة في الخرطوم ودارفور، معرضة لخطر المجاعة
وصفة منزلية تُخفف وطأة سوء التغذية
“في ظروف الحصار، أو النزوح، أو حتى في القرى النائية التي تفتقر إلى الإمدادات الطبية، نحتاج دائماً للعودة إلى ما هو محلي ومتاح. و الويكة تُعد من الأغذية التقليدية ذات القيمة الغذائية العالية، وتحديداً عند استخدامها في وجبات الأطفال.” يقول اختصاصي طب أطفال وتغذية علاجية / مستشفى بحري التعليمي (سابقًا)، د. مأمون عبد الحليم (الاسم مستعار حسب طلبه).
كنا ننصح الأمهات بإدخال مكونات مثل الويكة، الدخن، وزبدة الفول السوداني في وجباتهم اليومية
طبيب تغذية علاجية
يشير خلال مقابلة مع (عاين) إلى أنه وخلال عمله في بحري، رأى أسراً كثيرة تعاني نقص الغذاء، وتأتي بأطفال فاقدي الشهية وضعيفي البنية، وفي بعض الحالات التي لا تتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً، كانا فقط ينصح الأمهات بإدخال مكونات مثل الويكة، الدخن، وزبدة الفول السوداني “الدكوة” في وجباتهم اليومية.
وذكر مأمون، أن هذه المكونات لا تعالج سوء التغذية الحاد، لكنها تساهم في تعويض الفيتامينات والمعادن وتحسين كفاءة الجهاز الهضمي لدى الطفل.
وقال واصفاً ما فعلته زينب – تجفيف البامية وتخزينها – إنه سلوك ذكي جداً، ويمثل نموذجاً لما نسميه “التكيّف الغذائي المجتمعي”. في مثل تلك البيئات المنقطعة، حيث لا توجد أغذية علاجية مثل الـ”الراوتفود”، أو حتى الحليب المدعّم، يمكن للويكة أن تكون جزءاً من “وجبة منقذة للحياة”، خصوصاً إذا دُمجت مع مصادر أخرى للبروتين مثل العدس أو السمك.
“الويكة” تحوي أليافاً ومضادات أكسدة، وتساعد على تقوية مناعة الطفل وتحسين امتصاص العناصر الغذائية، وهذا مهم جداً للأطفال المصابين بإسهالات أو التهابات مزمنة.
لذلك، من الضروري إعادة التفكير في الممارسات الغذائية التقليدية، ليس باعتبارها بدائل طبية، ولكن كحلول ذكية قابلة للتنفيذ في الأوضاع الحرجة. بل ويرى الطبيب مأمون، أنه يجب على وزارة الصحة والمنظمات الإنسانية ابتكار ودعم مثل هذه المبادرات المجتمعية، وتطوير وصفات غذائية بسيطة تعتمد على ما هو موجود فعلاً في منازل السودانيين.
علاج شعبي بدعم علمي
ما كانت تقوم به زينب، دون وعي علمي، وما يقترحه الطبيب يشبه كثيراً ما تقدمه اليوم خبيرة التغذية السودانية “آمنة” — اسماً مستعار — والتي تعمل مع مبادرة طوعية تقدم وجبات علاجية بديلة للأطفال المصابين بسوء تغذية خفيف أو متوسط.
آمنة، التي تملك سنوات من الخبرة في الإشراف الغذائي المجتمعي، لاحظت الانتشار الواسع للويكة المجففة في البيوت، فابتكرت وصفة مستوحاة من المكونات المحلية المتوفرة، تحاكي من حيث القيمة الغذائية المنتجات العلاجية المستوردة مثل “البلانبي” و”الراوتفود”.
تقول آمنة في مقابلة مع (عاين): “الفكرة جات من الواقع، من المتوفر في البيت السوداني، الويكة غنية بالبروتين النباتي، والألياف، ومضادات الأكسدة، وتساعد على تحسين الهضم وامتصاص المغذيات. إذا أضفنا إليها اللبن والسمسم المطحون وقليل من السكر، تتحول إلى وجبة متكاملة ومناسبة للأطفال.”
وتشرح طريقة تحضيرها للأمهات إلى أن تستطيع مبادرتها صناعتها محلياً وتوزيعها كالآتي:
5 ملاعق كبيرة دقيق ذرة أو دخن + ماء وتحريكها على النار، حتى تصبح عصيدة سميكة، تُضاف 3 ملاعق كبيرة من مسحوق الويكة إليها، ثم تضاف ملعقة كبيرة مسحوق فول سوداني محمّص (دكوة)، ثم 3 ملاعق حليب مجفف كامل الدسم (أو نصف كوب حليب سائل)، ملعقة صغيرة زيت نباتي (فول سوداني أو سمسم)، ملعقة صغيرة سكر (اختياري)، رشة سمسم مطحون (للمعادن الدقيقة)، تُخلط المكونات حتى تُصبح معجوناً ناعماً ودافئاً يُقدّم مرتين يومياً.
وتشرح آمنة الفائدة من كل عنصر داخل الخليط فالويكة: تساعد على امتصاص المعادن وتحسين الهضم، والفول السوداني: يوفّر البروتين والدهون الصحية، والحليب يضيف بروتيناً حيوانياً وكالسيوم، والزيت: يرفع كثافة السعرات وامتصاص الفيتامينات، والدخن أو العدس غنيان بالحديد والمغنيسيوم.
آمنة، تنبّه إلى أن الملح غير مناسب للأطفال دون عمر سنة، وتحذر من إضافته، كما تؤكد أن هذه المكونات لا تُعوّض الغذاء العلاجي، لكنها تُساهم في تحسين الحالة العامة، وتعمل كحل واقعي في ظل غياب الإمدادات.
زراعة البامية.. حل ينتظر
لتصبح مثل هذه الوصفات حلًا مستداماً، لا بد من ضمان توفر المكونات الأساسية، وهنا تبرز أهمية زراعة البامية. في سوق المبيدات بمدينة الدامر، شرح هشام محمد بلة لـ(عاين) تفاصيل محصول “الويكة” لطالما ارتبط بمائدة السودانيين. ويقول هشام، وهو تاجر مبيدات مهتم بالشأن الزراعي: “البامية لديها مواسم محددة في الزراعة، تُزرع مرتين في السنة: الموسم الصيفي تبدأ فيه الزراعة من 15 فبراير، والخريفي من 15 يوليو، مما يجعلها متوفرة تقريباً طوال السنة، وبأسعار في متناول الجميع، وهذه ميزة إذا أردنا الاعتماد عليها كغذاء علاجي.”

يشير هشام، إلى أن مناطق الزراعة الأساسية للويكة تمتد على نطاق واسع، من نهر النيل والخرطوم، إلى الجزيرة وسنار، ما يجعلها محصولاً متجذراً في التربة السودانية.
ويوضح أن الأصناف المزروعة محلياً متعددة، منها: “مليسا، خرطومية، سنارية، خشنة، طوكر، هندية، وصينية”. ويضيف: أن “الصنف المحلي هو الأكثر انتشاراً وتفضيلاً بين المزارعين”.
وعن طرق الزراعة، يشرح هشام قائلًا: “تُزرع البامية في سرابات عرضها 70 سم، تكون الحفر على جانب واحد من السرابة، والمسافة بين الحفرة والأخرى من 20 إلى 25 سم، تُوضع فيها 3 أو 4 حبات. بعد الزراعة تُروى فوراً، وتؤخر المرة الثانية لكي تتماسك الجذور، وبعدها يكون الري كل خمسة أيام في الصيف، وكل أسبوعين تقريباً في الشتاء.”
ويؤكد أن التربة المناسبة للبامية هي الجُزر، والتروس العليا، والكرو، خاصة إذا كانت خالية من الأملاح، مشيراً إلى أن بعض الأراضي لا تحتاج إلى تسميد، بينما يمكن تحسين الإنتاجية في التروس بإضافة سماد بلدي متحلل قبل الزراعة، مع 40 كيلوغراماً من اليوريا بعد الإنبات.
من ناحية إنتاجية، يقول هشام: إن “الفدان الواحد يمكن أن ينتج ما بين 3 إلى 6 أطنان حسب الصنف وميعاد الزراعة”، مشدداً على أن “اللَقيط المستمر للقرون – أي الجمع المتواصل – يزيد الإزهار، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج”.
لو أرادت أي جهة أن تعمل على تحويل (الويكة) لغذاء علاجي حقيقي، فالموارد موجودة لكن هناك حاجة إلى جهة تتبنى الفكرة، وتنفّذها بالطريقة العلمية
مهتم بشأن الزراعي
أما الحصاد-بحسب هشام- يبدأ بعد شهر إلى شهرين ونصف حسب الموسم، ويستمر لقرابة شهرين إلى ثلاثة أشهر.
لكنه هشام، لا يغفل التحديات التي تواجه المحصول، ويقول: “توجد آفات مثل الذبابة البيضاء، والعسلة، و الجاسد، والدودة الشوكية (المصرية)، ولا بد أن تكون المكافحة حسب التوصيات المعروفة.”
يختم هشام حديثه: “لو أرادت أي جهة أن تعمل على تحويل الويكة لغذاء علاجي حقيقي، الموارد موجودة، والتربة صالحة، والمزارع جاهز… فقط إذا وُجدت جهة تتبنى الفكرة وتنفّذها بالطريقة العلمية..”
قد لا تكون الويكة دواء متعارفاً عليه، لكنها غذاء يعرف طريقه للمناعة، والبقاء، ويمكن أن تكون عنصراً مهماً وفعالاً في المقاومة الغذائية يعكس ما يمكن أن تفعله الثقافة الغذائية المحلية، حين تقطع سبل الوصول للإمدادات الغذائية، مثلما يحدث في مناطق عديدة في السودان الآن بسبب الحرب الدائرة لأكثر من عامين.