“حرب الغنائم”.. كيف نُهبت الخرطوم؟
عاين- 16 أغسطس 2025
“محمد اليماني” ليس وحده من عاد إلى متجره ليجد خاليا من الهواتف والمقتنيات بعد أن تركها محكمة الإغلاق في سوق “سعد قشرة” بالخرطوم بحري شمال العاصمة السودانية، ولم يجد حتى الأبواب وكأن من نهبوا أردوا تجريده من كل شيء.
تنقسم عمليات النهب التي نفذت في العاصمة السودانية خلال الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى مراحل، بدأت من الأسابيع الأولى للقتال حيث تركزت عمليات النهب على وسط الخرطوم والسوق العربي وأحياء شرق العاصمة مقر الشركات الكبيرة والبنوك والمؤسسات.
ويقول محمد اليماني، التاجر الذي فقد أصول تجارته بالكامل في الخرطوم بحري لـ(عاين): “زرت متجري وغادرت إلى وجهتي التي جئت منها؛ لأنه لا يمكن استعادة النشاط التجاري، ولا يمكن سداد إيجار العقار نفسه”.
أما عمليات النهب التي جاءت بعد مرور الأشهر الأولى شملت الأسلاك الأرضية لبنية الكهرباء بغرض الحصول على معدن النحاس، وشاركت عصابات منظمة في هذه العملية على صلة بالطرفين المتحاربين وفق شهادات أشخاص على الأرض تحدثوا مع (عاين).
عمليات النهب التي طالت القطاع الخاص أدت إلى فقدان ثلاثة مليون وظيفة
اتحاد الغرف التجارية
استخدمت آلاف الشاحنات في العاصمة السودانية خلال الحرب لنقل المنهوبات من المنازل والشركات والبنوك والمؤسسات العامة- وفق إفادات محليين في اقتصاد الحرب- مشيرين إلى أن عمليات النهب قضت على طبقة تجارية كانت توفر قبل اندلاع الحرب حوالي ثلاثة مليون وظيفة في العاصمة السودانية.
وسيطرت قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من الخرطوم وبحري وأم درمان قرابة 23 شهرا قبل أن يتمكن الجيش السوداني من استعادة السيطرة كليا على ولاية الخرطوم في 20 مايو 2025.
سيطرة عسكرية
يوضح مصدر عسكري من الجيش السوداني لـ(عاين): “كل شيء قابل للنهب لم يتركه جنود الدعم السريع خلال الأسابيع الأولى، انتشروا في السوق العربي ومقار الوزارات والشركات والبنوك أفرغوا الخزن الحديدية من الأموال والذهب”.
ويضيف قائلا: “عندما تحدثنا عن ضرورة منع الدعم السريع من نهب الأموال والذهب في السوق العربي في الوقت ذاته كانت هذه القوات تسيطر على منافذ الدخول والخروج.. عسكريا كان من الصعب منعهم قبل السيطرة على جميع الممرات”.
وفي أول تعليق رسمي على نهب الذهب بالعاصمة السودانية علق وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم في فبراير 2024 على تعرض 2.7 طن من الذهب للنهب من مصفاة الذهب بالخرطوم دون الإشارة إلى الجهة المتورطة في هذه العملية.

ورفض مسؤولون بقوات الدعم السريع التعليق على أسئلة من (عاين) حول عمليات النهب التي طالت العاصمة السودانية خلال فترة سيطرتها بين أعوام 2023 و2024 و2025.
وتشدد قوات الدعم السريع على أنها تكافح “الظواهر السالبة” باستمرار في صفوف قواتها، وأعادت منهوبات إلى ملاكها خلال الحرب ضد الجيش السوداني مضيفة أنها تعمل باستمرار على معالجة الانتهاكات التي ترتكبها عناصرها بحق المدنيين بما في ذلك النهب.
ضربة موجعة لقطاع الوظائف
فيما أفاد عضو في اتحاد الغرف التجارية في حديث لـ(عاين) أن المنهوبات التي طالت القطاع الخاص بالعاصمة السودانية تقدر بحوالي 55 مليار دولار تشمل الأصول والمقتنيات الثمينة والأموال النقدية وهي تقديرات أولية أجريت مطلع هذا العام.
ويوضح عضو اتحاد الغرف التجارية “هيئة نقابية” مشترطا عدم الإشارة إلى اسمه إلى أن المنهوبات التي طالت القطاع الخاص بالعاصمة السودانية أفقدت ثلاثة مليون شخص وظائفهم في هذا القطاع.
وتابع: “يشكل القطاع الخاص 40% من الوظائف في العاصمة السودانية إذا لم يعد نشاطه كما كان قبل الحرب لا يمكن ضمان استعادة 3 مليون شخص وظائفهم بالتالي لا يمكن انتعاش الحياة الاقتصادية”.
ويقول عضو اتحاد الغرف التجارية: إن “عمليات النهب لم تقتصر على قوات الدعم السريع، بل نفذت عبر عصابات مسلحة تخصصت في نهب المدن التي تعيش تحت نيران الحرب وتغري الجنود الذين يحملون السلاح بأموال طائلة لاستخدام الممرات الآمنة”.
وفي تعليق رسمي آخر ذكر عضو مجلس السيادة الانتقالي إبراهيم جابر منتصف العام 2024 أن الخسائر الاقتصادية في الحرب والتي تشمل المنهوبات تقدر بأكثر من 150 مليار دولار.
ممرات للمنهوبات وآلاف الشاحنات
يكشف الخبير في اقتصاديات النقل محمد أبو القاسم لـ(عاين)، أنماط جديدة طغت على عمليات النهب في العاصمة السودانية خلال النزاع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع تمثلت في استخدام قرابة ثلاثة آلاف شاحنة عبرت الطريق الغربي من أم درمان مرورا إلى شمال كردفان.
وذكر أبو القاسم، أن قوات الدعم السريع حولت طريق أم درمان بارا إلى “ممر للمنهوبات” التي شحنت إلى داخل البلاد وخارجها، ووصلت ما لا يقل عن 18 ألف قطعة سيارة جديدة إلى دول الجوار من قلب العاصمة السودانية أغلبها نهبت من المعارض والشركات والمؤسسات الحكومية.
وأضاف: “المنهوبات الثقيلة ذات القيمة العالية حصل عليها ضباط كبار ومجموعات من الدعم السريع. أما المنهوبات التي تتمثل في الأثاثات والمقتنيات الصغيرة والسيارات القديمة ذهبت إلى عصابات مسلحة تعاونت مع الدعم السريع والجيش معا”.
فيديو من ارشيف (عاين) حول عمليات النهب التي تعرضت لها منطقة جنوب الخرطوم
ويرى محمد أبو القاسم، أن القيمة الإجمالية للمنهوبات في العاصمة السودانية تتجاوز 350 مليار دولار وفي هذا الصدد، فإن هذه العملية الحرب لم تفرغ الخرطوم من المواطنين، بل من طبقة تجارية كانت لديها أنشطة مالية واقتصادية معقولة، ومن الصعب استعادتها بعد الحرب.
ويشدد أبو القاسم، على ضرورة تضمين أي اتفاق لوقف الحرب بنود تعويض المواطنين الذين تعرضوا إلى النهب وإلزام قوات الدعم السريع الوالغة في النهب بشكل أكبر في استرجاع المنهوبات أو تعويض الضحايا ويجب أن تشمل العملية الجيش السوداني أيضا.
شرق العاصمة.. منطقة مغلقة
يقول الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم لـ(عاين): إن “الحرب في العاصمة السودانية كانت ذات طابع تدميري بشكل كبير للبنية التجارية والمالية في كثير من الأحيان كانت قوات الدعم السريع تسيطر على المناطق ذات النفوذ الاقتصادي، ويتحمل الجيش السوداني مسؤولية عدم حماية العاصمة السودانية؛ لأن المسؤولية القانونية والسياسية تحتم عليه ذلك”.
وأضاف: “مئات الشاحنات نقلت الأموال في الصناديق من البنوك والشركات في السوق العربي والرياض وشارع الستين والعمارات، وحولتها إلى مبان مهجورة ومدمرة”.
“جلبت قوات الدعم السريع العمال من سجونها لحفر الأرض واستخراج الأسلاك في الرياض ومواقع حول مطار الخرطوم ومنطقة “جاردن سيتي” قرب شارع النيل” هذا ما شاهده عضو غرفة الطوارئ شرق العاصمة السودانية، عصام عمر. الذي يقول لـ(عاين): “نهب أسلاك الكهرباء وشبكات الاتصال جاء في المرحلة الثالثة؛ لأن الشهور الأولى كان النهب يتركز على الأموال والذهب والأشياء الثمينة عندما نفد كل شيء حفروا الأرض لنهب الأسلاك والحصول على النحاس حدث ذلك طوال العام 2024”.
وأردف: ” تم نقل المواد المعدنية المستخلصة من الأسلاك عبر شاحنات سلكت طرق الشمالية وطرق تمر عبر مناطق الجيش وطرق أخرى من أم درمان إلى بارا وطريق آخر من الجزيرة إلى الشرق”.
عصابات منظمة في قلب الخرطوم
ويرى عصام عمر، أن النهب في العاصمة السودانية لم يكن مقتصرا على الدعم السريع، بل شاركت مجموعات منظمة لا صلة لها بالطرفين في عمليات النهب، وكانت تدفع الرشاوى في خطوط التماس للطرفين لتمرير الشحنات.
ويعتقد الجيلي، أن الرشاوى وتقاسم المنهوبات أدت دورا كبيرا في تمرير شحنات الأثاثات والأجهزة الكهربائية المنهوبة من الشركات والمعارض بالعاصمة إلى خارج البلاد.
30 ألف سيارة ما بين مستعملة وجديدة نقلت إلى دولة تشاد
مصدر حكومي
وأبلغ مصدر من وزارة البنى التحتية ببورتسودان العاصمة الإدارية للحكومة (عاين) أن عمليات النهب التي طالت الخرطوم جاءت على مراحل تولى ضباط كبار في الدعم السريع نقل السيارات الجديدة من المعارض إلى تشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا وأوغندا.
وأردف قائلا: “السيارات التي سلمتها تشاد للسفارة السودانية في إنجمينا مطلع أغسطس 2025 تشكل قطرة في محيط من السيارات التي عبرت إلى هذا البلد، والتي تقدر بـ 30 ألف سيارة ما بين مستعملة وجديدة”.
وشكلت الحكومة السودانية لجنة لتتبع المنهوبات العام الماضي، بينما يقول أعضاؤها إن هناك “بيروقراطية” تصاحب عملها بسبب عدم تعاون الدول المستهدفة خاصة دول الجوار حسب المصدر من وزارة البنى التحتية.
حرب الغنائم والمنهوبات
ويقول الخبير الأمني والضابط السابق في الشرطة السودانية أحمد حسان لـ(عاين) إن الحرب التي دارت في العاصمة السودانية في العاصمة السودانية كانت ذات طابع مختلف.
ويضيف حسان قائلا: “في الأسابيع الأولى أيقن الطرفان أن الحسم العسكري يستغرق وقتا طويلا خاصة الجيش السوداني؛ ولذلك اعتمد على الغارات الجوية قرابة 22 شهرا وسط الخرطوم وشرق العاصمة في تلك الأوقات كان الدعم السريع يتحرك بحرية تامة لذلك تمكن من نهب وشحن السلع والأثاثات والأموال والذهب والمعدات الثقيلة والسيارات إلى خارج العاصمة، وإلى دول الجوار”.
ويوضح حسان، أن قوات الدعم السريع التي قاتلت في بداية الحرب بالعاصمة ضد الجيش كانت أغلبها من قوات النخبة التي تلقت تدريبا لسنوات، وعندما انتشرت معلومات عن النهب جاءت مجموعات كبيرة من القبائل المساندة لهذه القوات، وقضت على الأخضر واليابس.
وتابع: “خسرت قوات الدعم السريع مئات العناصر في صفوفها؛ بسبب الاشتباكات أثناء عمليات النهب، ووقعت مواجهات عسكرية ذات طابع عرقي في الخرطوم وبحري بشكل أكبر”.