سيارات السودان.. أدوات حرب ومنهوبات
عاين- 23 يناير 2024
تتحرك السيارات السودانية بكثافة في شوارع العاصمة التشادية انجمينا وبعض مدن البلاد الأخرى، بمستوى يكشف تورط مسلحي قوات الدعم السريع في نهب سيارات المواطنين السودانيين وتهريبها إلى خارج البلاد عبر الحدود الغربية التي تخضع لسيطرتها العسكرية، وذلك وفق ما وثقه مراسل لـ(عاين).
وتظهر مقاطع مصورة سيارات خاصة من مختلف الموديلات والماركات المنهوبة من السودان تجوب شوارع إنجمينا، بينما يمتطي مسلحو قوات الدعم السريع عربات مدنية في مناطق سيطرتهم، ويستغلونها في المعارك العسكرية، وهو ما أحدث فجوة واسعة، وأعطى مبرراً للحكومة التي يقودها الجيش من بورتسودان لتخفيف القيود على استيراد السيارات من الخارج.
لكن القرار الذي اتخذته وزارة المالية مؤخراً والقاضي بالسماح باستيراد السيارات المستعملة إلى البلاد أثار جدلاً واسعاً في المشهد، وسط تباين في آراء الخبراء والمختصين بشأنه، ففي وقت يعتقد البعض أنه يسهم في تعويض المواطنين الذين نهبت سياراتهم خلال الحرب، يشدد آخرون أن الخطوة ستحيل السودان إلى سلة “نفايات”.
ووسط المخاوف والتفاؤل من جهة أخرى، يستمر القرار الحكومي في طريق التنفيذ، ولم يمض طويلا شهدت أسعار السيارات انخفاضاً نسبياً في أسواق الولايات الشرقية التي تخضع إلى سيطرة الجيش، لكن هذا التراجع يظل مرحلياً واستمراره مرهوناً بحجم الجمارك التي ستُفْرَض على السيارات المستوردة، بحسب مصطفى محمد، أحد تجار العربات في ولاية نهر النيل.
ويقول مصطفى لـ(عاين): إن “التراجع الذي شهدته أسعار السيارات كان نتيجة صدمة فك حظر استيراد السيارات المستعملة من الخارج، ولن يستمر طويلاً؛ لأنه من المتوقع فرض جمارك عالية عليها، كما أن سعر صرف الجنيه السوداني يشهد تراجعاً مستمراً مقابل العملات الأجنبية، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار العربات مجدداً”.
تعويض المواطنين
تبرر وزارة المالية في الحكومة التي يقودها الجيش من مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر شرقي البلاد، السماح باستيراد السيارات المستعملة من الخارج، برغبتها في جبر ضرر المواطنين الذين نهبت قوات الدعم السريع سياراتهم، وتعويض الفاقد الكبير من السيارات نتيجة للحرب المستمرة لأكثر من 21 شهراً.
حصيلة لوزارة الداخلية صدرت في سبتمبر الماضي، تكشف نهب 16 الف سيارة من المواطنين خلال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى تلف وتدمير ما يفوق العدد المنهوب
وتكشف حصيلة لوزارة الداخلية صدرت في سبتمبر الماضي، عن نهب 16 الف سيارة من المواطنين خلال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب، بينما تشير تقديرات غير رسمية إلى تلف وتدمير ما يفوق العدد المنهوب من السيارات نتيجة الأعمال القتالية، مما أدى إلى فجوة كبيرة وارتفاع قياسي في أسعار السيارة في الولايات التي يسيطر عليها الجيش، وتضم كثافة سكانية عالية.
ويدعم الخبير الاقتصادي د. هيثم فتحي قرار السماح باستيراد السيارات المستعملة، بشرط أن تعقبه خطوات كخفض الضرائب والجمارك على السيارات المستوردة، حتى تتحقق فائدة سريعة بتراجع أسعار السيارات في السوق المحلي، كما ينبغي قصر الاستيراد على السيارات من صنع العام 2017 فأعلى، لضمان عدم استنزافها لقطع الغيار والصيانة داخل البلاد، مع ضرورة وجود لجان فحص دقيقة في إدارة الجمارك لضمان دخول سيارات ذات حالة جيدة.
وشدد فتحي في مقابلة مع (عاين) أن القرار بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتحليل لتحقيق النتائج المنتظرة، كما أن أنه بالشكل الحالي يعكس عدم التنسيق في السياسات الاقتصادية الكلية، مما يستوجب على الجهات المسؤولة إعادة النظر في القرار الحالي ليتوافق مع القرار الذي اتخذه السودان قبل سنوات، والذي قضى بحظر استيراد السيارات المستعملة.
ويرى فتحي، أنه من الضرورة تحديد كفاءة السيارات التي تدخل إلى السوق السوداني من حيث الموديل والمواصفات والمقاييس، للحد من التلوث خاصة السيارات التقليدية، لا سيما وأن العالم يتجه بقوة نحو تصنيع السيارات الكهربائية للحفاظ على البيئة والحد من الملوثات.
ويشير إلى أن القرار يمكن أن يساهم في تحقيق وفرة في مختلف أنواع السيارات، وسيؤثر في استقرار السوق والأرصدة الدولارية وقيمة الجنيه، وهو قد يكون مفيداً لكبح جماح الأسعار وإعادة التوازن للسوق، بالإضافة إلى جبر ضرر المواطنين الذين سرقت أو نهبت أو تضررت سياراتهم خلال فترة الحرب، كما يساهم في تحقيق إيرادات جمركية عالية للدولة.
مخاوف مستمرة
كانت وزارة الداخلية في السودان فتحت نوافذ لتقلي البلاغات من المواطنين الذين نهبت سياراتهم خلال فترة الحرب، مع إبلاغ البوليس الدولي “الإنتربول” لإعادة السيارات التي تم نهبها وتهريبها إلى خارج البلاد.
ومنذ اندلاع الحرب كانت سيارات المواطنين الهدف الأول لمسلحي قوات الدعم السريع في أي منطقة أو مدينة يجتاحونها، فينهبون العربات الخاصة من أصحابها، ويستغلونها في نشاطهم الحربي بما في المعارك العسكرية، كما ظهر ذلك في مقاطع مصورة، ويوثقها هؤلاء المسلحون أنفسهم.
ومع تزايد المخاوف بشأن فتح استيراد السيارات المستعملة، فإن ثمة من يستبشرون بهذا القرار ويصفونه بالصائب، وسيعد إلى تجار السيارات وقطع الغيار عملهم، ويتيح للمواطنين تعويض ما فقدوه من سيارات بسبب الحرب والتي يقدر عددها بالآلاف، وذلك حسب ما أفاد به مجدي علي وهو تاجر سيارات في مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر (عاين).
ويقول: “سوق السيارات بعد الحرب شهد اضطراباً شديداً، وأصبحت هناك حالة من عدم التخصصية، فصار التجار يتجارون في كل أنواع السيارات نتيجة الشح فيها، لكن عقب فتح الاستيراد سيركز التجار على استيراد السيارات الكبيرة مثل اللاند كروزر وغيرها؛ لأنها ذات عائد ربح أكبر، بينما سيلجأ المواطن العادي إلى استيراد نوع العربة التي كان يمتلكها في السابق، وبما يتناسب مع وضعه المالي”.
بينما يوضح صاحب متجر قطع غيار في بورتسودان لـ(عاين) أن السيارة الجديدة لا تحتاج إلى قطع غيار لمدة سنتين على الأقل بعد بدء استخدامها، بخلاف السيارات المستعملة وهي بحاجة إلى قطع غيار باستمرار؛ مما يؤدي إلى زيادة الاستهلاك في قطع الغيار في السودان، ومن هنا تكمن مشكلة فتح استيراد السيارات المستعملة.
ويشير إلى ارتفاع عالي هذه الأيام في الطلب على قطع غيار العربات في مدينة بورتسودان، وذلك نتيجة لمستوى الدمار الذي حدث للسيارات المتبقية في السودان، على الرغم من قلتها.
تكلفة باهظة
وحظر السودان في العام 2012 بشكل نهائي استيراد السيارات المستعملة من الخارج، ضمن حزمة إجراءات اقتصادية لتقليل الضغط على النقد الأجنبي، ولتجاوز الصدمة الاقتصادية التي سببها له استقلال دولة جنوب السودان وذهاب مورد النفط، مع استثناء فئة الدبلوماسيين والمغتربين العائدين إلى البلاد بشكل نهائي، بأن يسمح لهم باستيراد سيارات مستعملة لا تتجاوز خمس سنوات للوراء.
ويقول الخبير الاقتصادي د. محمد الناير، إن “استيراد السيارات المستعملة كان يكلف السودان مليار دولار سنويا قبل حظره، وربما يحتاج المبالغ نفسها حالياً؛ مما يشكل ضغط كبيراً على النقد الأجنبي، فما لم تضع الحكومة ضوابط تضمن توفير هذه الأموال من الخارج عبر مدخرات المغتربين وغيرها، سيحدث تأثير كبير على قيمة على العملة المحلية، خاصة إذا لجأ التجار إلى شراء النقد الحر من السوق السوداء المحلية”.
ويرى الناير في مقابلة مع (عاين) أن فتح استيراد السيارات المستعملة ربما يحقق إيرادات جمركية للدولة، لكن الوقت غير مناسب لمثل هذه القرارات، وكان ينبغي تأجيله إلى ما بعد الحرب حتى يُتَّخَذ وفق دراسات شاملة وتحليل وأهداف واضحة لتحقيقها، سواء فيما يتعلق بجبر ضرر المواطنين الذين نهبت سياراتهم أو تحقيق إيرادات وغيرها.
ويشير إلى أن وزارة المالية وضعت قيمة جمارك تصاعدية على السيارات المستعملة المستوردة بموجب قرارها الأخير، بحيث كل ما كان موديل السيارة متأخراً كلما زادت مبالغ جماركها، وذلك ربما يشجع الأشخاص والتجار على استيراد سيارات متقدمة في الموديل وبحالة جيدة، مما يقلل المخاوف بشأن الآثار البيئية.
آثار كارثية
ويعارض الخبير الأمني الفريق خليل محمد الصادق بشدة قرار فتح استيراد السيارات المستعملة إلى السودان، ووصفه بأنه جريمة في حق الوطن والمواطن، لما يترتب عليه من أضرار كارثية.
ويقول الصادق في مقابلة مع (عاين) إن “فتح الاستيراد والتحصيل الجمركي، يتطلب فتح عملية ترخيص السيارات التي جُمِّد منذ اندلاع الحرب، وذلك سيمكن الجميع من ترخيص السيارات الموجودة داخل السودان وجميع الموديلات بما في ذلك المنهوبة والمسروقة، ويصعب التدقيق ومعرفة الملاك الحقيقين في ظل التداول والبيع والشراء الواسع للسيارات خلال عامين ماضيين عن طريق التوكيل القانوني من المحامين، وذلك سيؤدي إلى ضياع حقوق المواطنين بدلاً من تعويضهم”.
وشدد على وجود عدة طرق يمكن أن يجبر به ضرر المواطنين، من بينها منح امتيازات إلى الشركات المتخصصة لاستيراد سيارات جديدة مع منحها إعفاءات جمركية؛ وبذلك ستصل السيارات إلى المواطن بسعر متقارب مع السيارة المستعملة، كما يمكن فتح التمويل المصرفي لشراء السيارات بطرق سداد مريحة وأرباح معقولة.
ويضيف “القرار بشكله الحالي يضر المواطن والدولة، وستذهب الإيرادات الجمركية المتحصلة لتمويل استيراد قطع الغيار التي تحتاجها السيارات المستعملة، كما يؤدي ذلك إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الجنيه، وسيتحول السودان إلى سلة نفايات، وسيحقق القرار فائدة محدودة لتجار وسماسرة السيارات في الأسواق، وينبغي إعادة النظر فيه”.