مكتبة مجانية بـ(نيالا) يخطط صاحبها لربح وطن معافى بالوعي
عاين- 2 مارس 2024
تحت مساحة مشيدة بمواد بناء محلية في إحدى أسواق مدينة نيالا غربي السودان، يجلس الشاب محسن محمد وأمامه طاولة مليئة بمئات الكتب، يعرضها لعامة الناس للقراءة المجانية، وهو غير مكترث لنيران الحرب المشتعلة في المكان، في تجربة ملهمة يسعى من خلالها تغيير الواقع المضطرب، برفع الوعي.
لم يتوقع محسن، أن تجد فكرته القبول في مثل هذه الظروف، فخلال فترة وجيزة استطاع أن يجذب جمهوراً كبيراً من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية لدرجة ضاق بهم محله المتواضع، وهو نجاح يحفزه للمضي قدماً في مهمته الرسالية وتوسعة المكتبة لتصل القرى والمناطق النائية، بحسب ما يقول في مقابلة مع (عاين).
يعمل الشاب البالغ من العمر 25 عاماً طوال النهار في خدمة رواد مكتبته التي تضم أكثر من 400 عنوان في مختلف المجالات، الأدبية والفكرية والقانونية وغيرها، كما يساعد زواره في العثور على ما يناسب كل واحد فيهم من بين الكتب الموجودة، بعد أن وفر لهم ما يلزم من مقاعد للجلوس.
بدأ محسن محمد، مشروعه في منتصف شهر يونيو الماضي، أي بعد شهرين من اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، وكان دافعه توفير بيئة للقراءة والاطلاع للشباب الذين أغلقت مدارسهم وجامعاتهم بدلا من أن يقضوا أوقاتهم في الفراغ أو حتى الانخراط في القتال.
حلم يتحقق
في بادي الأمر كانت فكرة إنشاء مكتبة مجانية لخدمة مجتمعه في مدينة نيالا مجرد حلم يراوده بين الحين والآخر يظن أن تحقيقه أمر صعب، نظراً لإمكانياته المالية المحدودة فهو شاب حديث التخرج، ولم يسلك طريق الكسب المادي بعد.
كانت قناعاته تجاه المعرفة ورفع الوعي كسبيل وحيد لتغيير الواقع الدامي وتحقيق السلام- كما يقول- تحركه في كل مرة، وبعد جهود وإصرار تمكن من تأسيس مكتبته وسط سوق موقف الجنينة بمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور على بناية من المواد المحلية.
وعلى تلك البناية ترفرف لافتة من قطعة قماش بيضاء مكتوب عليها بخط اليد “أقرأ وغيّر من حولك” مكتبة المعرفة للقراءة المجانية، حيث يخدم هذا الشاب رواده بلا أي مقابل، فهو غني بقناعاته تجاه المعرفة.
ويقول محسن محمد في مقابلة مع (عاين): إنه “تخرج من كلية الإنتاج الحيواني بجامعة الفاشر في العام 2022م، وكان لديه شغف واسع بالقراءة والاطلاع؛ مما جعله يحتفظ بعدد مقدر من الكتب في مكتبته الشخصية في المنزل، وبعد نشوب الحرب فكر في نقلها إلى مكان يتيح للجميع الاستفادة منها”.
وعندما فكر في مكتبة المجانية كان من الضروري زيادة هذه العناوين، حتى تكون شاملة، وتلبي شقف الجماهير بمختلف مستوياتهم التعليمية والفكرية، فبدأ مشروع صغير لتسمين الأغنام وخلال فترة وجيزة تمكن من اقتناء مزيد من الكتب التي تكفي لمشروعه الجديد.
ويضيف: “كان شقيقي يشجعني على فكرة المكتبة المجانية، وقد ساهم معي بعدد مقدر من كراسي الجلوس لقناعته بأهدافها النبيلة، وتمكنت من تحقيق حلمي وتفاعل المواطنين معه، وظلوا يأتونه من مسافات بعيدة”.
ولم يمض وقت طويل حتى تحول مقر مكتبة القراءة المجانية إلى منتدى جامع للشباب من الجنسين، وإلى جانب الاطلاع يشهد نقاشات مستمرة في الفكر والثقافة وسبل رفع الوعي المجتمعي تجاه قضايا السلام ونبذ العنف.
ويبدي محسن، سعادته بتمكنه من جذب السيدات إلى مكتبته بعد كسر الحواجز الاجتماعية الصلبة والقيود الأسرية الواسعة تجاه هذه الأنشطة المختلطة، فظلت الفتيات يشكلن حضوراً دائماً لزيادة معرفتهن، فلهن دور كبير في إحلال وتعزيز السلام. يقول محسن.
ورغم قصر مدته بدأ مشروع المكتبة المجانية يأتي ثماره، فقد شكل ملاذا للشباب ومحطة لكسر الملل وتناسي مرارات الحرب المدمرة التي شهدتها مدينة نيالا وهو ما يحدث مع “طلحة صالح” أحد الشباب المداومين على المكتبة.
ويقول صالح في مقابلة مع (عاين): “لدي شقف في القراءة، ولكن الوضع الاقتصادي والمالي لا يسمح لي بشراء الكتب خاصة القيمة منها، فالمكتبة المجانية أتاحت لي فرصة الاطلاع على عناويني المفضلة، بجانب قيادة نقاشات مع روادها”.
ملاذ آمن
وفي زمن تسيطر فيه أحاديث الحرب على مجالس المدينة، وجد محمد آدم ملاذاً آمناً في مكتبة المعرفة، وظل يرتادها بشكل يومي من أجل قضاء وقت في بيئة هادئة ليس بها أصوات غير تلك التي تصدر عن صفحات الكتب عند تقليبها ومؤانسات الفكر والمعرفة.
ويقول آدم، في مقابلة مع (عاين): “وفرت لنا مكتبة المعرفة بيئة تعليمية نقية، ونلاحظ في كل مرة يزداد روادها، وعن نفسي لم أتغيب عنها يوماً، فهي المكان الوحيد الذي نشعر فيه بالأمان والسلام، رغم رصاص المعارك العسكرية الذي نسمعه بالقرب منا”.
ويضيف “شكلت المكتبة فرصة لتبادل المعرفة بين الشباب والشابات، والتفاكر في قضايا الوطن وكيفية تحقيق السلام، فمحسن أوقد شمعة أضاءت طريق الكثيرين من سكان مدينة نيالا في الوقت الذي كان يجلس فيه آخرين، ويلعنون في الظلام، وينبغي تشجيعه ودعمه ليستمر ويمضي قدماً.
ومع الجهد الكبير الذي يبذله محسن محمد في خدمة رواده، وحمله للكتب جيئا وذهاباً، يبرز سؤال الفائدة المادية له من هذا المشروع خاصة وأنه يقضي كل وقته وهو يحرسه.
لكن محسن، الذي بدا زاهداً في الأموال، يقول إنه يكسب معاشه من مصادر اقتصادية أخرى، ولا يرجوا مبالغاً من مكتبته المجانية بقدر ما يخطط لربح وطن معافى بوعي سكانه، فمشاهد الاحتراب والاقتتال التي تعم أرجاءه ما هي إلا نتاج للجهل المستشري وفق تقديره.
ويختم حديثه، برغبته في أن يتبنى الشباب المشروع الذي بدأه ليعم القرى والفرقان وكل أنحاء السودان، فبالمعرفة ورفع الوعي سوف يتحقق السلام، وتضمد جرح الوطن النازف.