إدانة كوشيب.. آمال ضحايا حرب دارفور على قيد الحياة

عاين- 16 أكتوبر 2025

لم تستطع 22 عاماً مضت أن تُنسي علي عبد الجبار أحمد، ما تعرض له من مليشيات الجنجويد التي كان يقودها علي كوشيب، فرغم تقدم عمره ما تزال ذاكرته تحفظ الفظائع التي ارتكبت بحقه وآخرين في بلدة ديليج في وادي صالح بولاية جنوب دارفور غربي السودان، بكل تفاصيلها.

ومن تحت “راكوبة” في مخيم كلمة للنازحين بجنوب دارفور، يروي عبد الجبار البالغ من العمر 61 عاماً لـ(عاين) تعرضه للاعتقال والضرب والإهانة بواسطة قوات علي كوشيب، قبل أن يتمكن من الفرار إلى مخيمه الحالي، ويمكث فيه لمدة 21 عاماً وكأنه في سجن مفتوح، بعدما توقفت حياته بالكامل، وفقد كل شيء، حسب وصفه.

وبعدما سمع بتوقيف كوشيب وإدانته في المحكمة الجنائية الدولية، انتابته سعادة كبيرة، وانتعشت آماله في تحقيق العدالة له، ولأخوته الآخرين الذين طالتهم هذه الانتهاكات.

وقال عبد الجبار: “نشكر المحكمة الجنائية الدولية، على قبضها ومحاكمتها للمجرم الخطير علي كوشيب الذي قتلنا ودمرنا وشردنا في منطقة ديليج بوادي صالح، ونطالبها بتوقيف بقية المطلوبين عمر البشير وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين، ومحاكمتهم، لتحقيق العدالة، وإعطائنا كامل حقوقنا”.

تظاهرات مؤيدة لإدانة كوشيب وللمطالبة بتسليم بقية المتهمين- مخيم كلمة للنازحين
تظاهرات مؤيدة لإدانة كوشيب وللمطالبة بتسليم بقية المتهمين- مخيم كلمة للنازحين

وفي 6 أكتوبر الجاري، أدانت الدائرة الابتدائية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية، علي كوشيب بارتكاب 27 تهمة تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين في إقليم دارفور خلال الفترة الزمنية ما بين أغسطس 2003 وأبريل 2004م، وهي المرحلة التي شهدت حرب ضارية بين الجيش الحكومي بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير وحركات مسلحة.

وأدين كوشيب بصفته شريكاً مع قوات الجنجويد و/أو قوات حكومة السودان في ارتكاب جريمة القتل والشروع في القتل و/أو التعذيب، ضد ما لا يقل عن 200 أسير و/أو معتقل خلال عمليات مكجار وديليج، بوصفها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؛ وجريمة الاعتداء على الكرامة الشخصية كجريمة حرب، وجريمة الاضطهاد باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، وفق المحكمة.

سجن وتعويضات

ومن المقرر أن تُعْلَن عقوبة علي كوشيب خلال جلسة للمحكمة الجنائية الدولية في 17 نوفمبر المقبل، ورجح محامي الادعاء الرئيسي في القضية، أن تكون عقوبة كوشيب السجن مدى الحياة. كما بدأ فريق المحاميين الممثلين للضحايا مرحلة تعويض المتضررين من هذه الجرائم، والتي ستُدْفَع من صندوق الائتمان الذي تموله الدول الأعضاء في ميثاق روما، وذلك حال لم يكن المدان يملك أموالاً.

وفي منتصف الأسبوع الماضي، نفذ نازحون في مختلف أنحاء إقليم دارفور بما في ذلك الذين هم في مخيم كلمة، مسيرات سلمية، رحبوا خلالها بالإدانة الصادرة بحق علي كوشيب، ورفعوا لافتات تدعو إلى تسليم بقية المطلوبين، الرئيس المخلوع عمر البشير ووزير الدفاع في نظامه عبد الرحيم محمد حسين، ووزير الدولة بالداخلية سابقاً أحمد هارون، بغرض محاكمتهم.

في أولى جلسات محاكمته دولياً..(كوشيب) يتبرأ من التهم
المتهم على كوشيب امام جلسة المحكمة (الجنائية الدولية)- أرشيف

وقال علي عبد الجبار أحمد، أحد الضحايا لـ(عاين): “تعرضت للضرب وومحاولة القتل، هاجمت جماعة علي كوشيب على منطقتي، واعتقلتني مع آخرين، وألقت بنا في معسكر الشرطة في ديليج، وطرحنا على الأرض، ومن ثم أخذ الجنجويد المسلحون يلعبون على ظهورنا بأقدامهم، ويضربوننا، ومن شدة الضرب بمؤخرات البنادق، تكسرت أسناني”.

بعد مهرجان من التعذيب نُقل عبد الجبار ورفاقه بسيارات إلى الخلاء، يروي “طرحنا على الأرض مجدداً داخل مجرى مائي، وبعد معاناة تمكنت من الهروب عن طريق الجري وسط الخيران، فتحوا علي الرصاص الحي، لكني نجحت في الفرار منهم، غير أنني ظللت لمدة 21 يوماً تائهاً وسط الجبال، وبعد ذلك استطعت الوصول إلى معسكر كلمة للنازحين سيراً على الأقدام وحافي حتى تسلخت أقدامي”.

يكمل هذا الرجل 21 عاماً داخل معسكر كلمة، بعدما نُهب وضُرب وصُودرت أمواله، مما جعله يشعر بسعادة كبيرة عند سماعه بالقبض على، علي كوشيب وإدانته في المحكمة الجنائية الدولية.

ويضيف: “طوال هذه الفترة نحن نعيش في سجن مفتوح، بعدما حُرمنا من كل شيء، الصحة والتعليم والأرض. نريد تطبيق القانون ومحاكمة جميع المجرمين، وسعيد بأن العدالة تأخذ مجراها، كما يجب إعطاؤنا كامل حقوقنا في التعويضات الفردية والجماعية”.

نهب وتعذيب

عثمان موسى مصطفى، هو الآخر نجا من عمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبتها مليشيات الجنجويد، بعدما أخذ نصيباً من الاعتقال والتعذيب، كما نُهبت ممتلكاته وأغنامه، وهُجِّر قسرياً، ليقضي كل هذه الفترة في مخيم كلمة في ولاية جنوب دارفور تحت ظروف إنسانية قاهرة، يعاني فيها نقص الطعام والرعاية الطبية والتعليم لأبنائه.

ويقول عثمان في حديثه لـ(عاين): “أخذ علي كوشيب ومليشياته كل ممتلكاتنا، وتركنا منكوبين نعاني بشدة في معسكر كلمة، وعندما سمعت بمحاكمته فرحت شديداً، ونطالب بتقديم المجرمين الآخرين الذين كانوا يأمرونه، عمر البشير، وأحمد هارون، وعبد الرحيم محمد حسن، والـ 51 متهما غير المعلنين، ويقدمونهم إلى المحاكمة ومحاسبتهم”.

تظاهرات مؤيدة لإدانة كوشيب وللمطالبة بتسليم بقية المتهمين- مخيم كلمة للنازحين

ويضيف: “نشكر المحكمة الجنائية الدولية كثيراً على ما قامت به، وقد بدأنا نشعر بأن الدنيا بها مؤسسات عدلية قادرة على معاقبة المجرمين مثل كوشيب، ونطالبها بالعمل على بدء التعويضات الجماعية والفردية لنا، عن ما لحق بنا، فنحن منكوبون نقيم في معسكرات النزوح، بعدما أخرجونا من أراضينا قسراً”.

من جهته، يعرب سعيد آدم وهو محام من نيالا تعرض أقاربه لانتهاكات واسعة من قبل مجموعات علي كوشيب، عن سعادته الكبيرة بالإدانة الصادرة بحق كوشيب، وهي تشكل مدخلاً لإنهاء حالة الإفلات من العقاب في حرب دارفور التي ارتكبت خلالها مجازر بشعة، وتتيح فرصة لتوحيد الجهود بغرض تحقيق العدالة كاملة، وتعويض الضحايا، حسب قوله.

وأوضح سعيد في حديثه لـ(عاين) أن التعويضات تتم من صندوق الائتمان في المحكمة الجنائية الدولية، ولكن لا يوجد ما يمنع من المطالبة بتعويضات من الحكومة السودانية؛ لأن تصرفات كوشيب وجرائمه كانت إنابة عنها.

يقول: “كان الضحايا يبكون عندما سمعوا بإدانة كوشيب، لأنهم لم يكونوا يتوقعون أن يصل العقاب إليه، وقد كان يمشي بينهم في وداي صالح حراً طليقاً طوال هذه المدة، ويفكر الضحايا الآن فيما بعد الحكم، خاصة مسألة التعويضات وهي مهمة لجبر ضررهم”.

حكم تاريخي

بدوره، قال المتحدث الرسمي لمنسقية النازحين واللاجئين، آدم رجال لـ(عاين) إن “الضحايا استقبلوا إدانة علي كوشيب بكل فرحة وسرور، ونعتبرها خطوة أولية نحو تحقيق العدالة، تعقبها أخرى مستقبلا، وتؤكد أنه لا مكان لإيواء المجرمين، وسيأخذون جزاءهم، مهما طال الزمن، فقد كان هؤلاء المجرمون كوشيب والبشير وأحمد هارون يعتقدون أن العقاب لن يصلهم”.

ويضيف: “هذا حكم تاريخي بالنسبة لنا، لأن القضاء السوداني كان عاجزاً عن إنصاف المظلومين، بل كان مستخدماً من قبل النظام الحاكم للانتقام من الخصوم السياسيين وقتل الناس، كذلك اُسْتُخْدِمَت الشرطة والجيش، وكل الأجهزة النظامية لنفس هذه الأغراض. كانت مراكز الشرطة في دارفور ترفض فتح بلاغات للمواطنين الذين يُعْتَدَى عليهم، كما غُيِّرَت سجلات الدعاوى القضائية بأخرى في عملية ممنهجة لطمس الأدلة”.

ويشير إلى أن الرئيس المخلوع عمر البشير، وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين كانوا يعطون الأوامر للمجموعات العسكرية لقتل المواطنين في إقليم دارفور وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، مما يتطلب تسليمهم إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمتهم.

وشدد أن المسيرات السلمية التي شهدتها عدد من مخيمات النازحين في دارفور، جاءت للتعبير عن تأييد خطوات المحكمة الجنائية الدولية، ودعمها للمضي قدماً في تحقيق العدالة لضحايا الحرب في الإقليم، وذلك من خلال الضغط على الحكومة في بورتسودان لتسليم بقية المطلوبين “لأننا فقدنا الثقة في القضاء السوداني، ما لم يعاد ترتيبه”.

امرأة خارج منزلها المحترق في قرية بيليل بولاية جنوب دارفور

ولم تتوقف الفرحة بإدانة علي كوشيب عند الضحايا، لكنها امتدت إلى الحقوقيين والمجموعات القانونية التي تبت الدفاع عن ضحايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وجمعت الأدلة لمحاكمة المتورطين في هذه القضايا.

عبد الباسط الحاج، أحد القانونيين الذين ساعدوا الضحايا، وصف محاكمة كوشيب بمثابة خطوة مهمة لتحقيق العدالة لضحايا دارفور من الذين نالوا صنوفا من العذاب بواسطة الجنجويد في مطلع القرن الحالي، الذين كان يقودهم المجرم علي كوشيب بدعم كامل من حكومة البشير في ذلك الوقت، معتبراً أن تدخل المحكمة الجنائية الدولية كان ضرورياً لمنع الإفلات من العقاب حيث لم تعبر الحكومة السودانية عن نيتها الجادة في فتح تحقيق عن الجرائم التي وقعت، بالإضافة إلى أنها متورطة في أعمال العنف التي وقعت.

بوابة العدالة

وقال الحاج في مقابلة مع (عاين): إن “محاكمة كوشيب هي مفتاح لبوابة العدالة في السودان حيث تعيد الأنظار لسؤال العدالة والإفلات من العقاب وضرورة إنصاف الضحايا، إذ انعكس رضاهم الكبير عن المحاكمة، وأن أحد المطالب الكبرى أصبح من الممكن تحقيقها”.

 وأضاف “المطلوب لتحقيق العدالة هو تسليم بقية المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، من جانب آخر هنالك دور للقضاء الوطني مستقبلاً بعد إصلاحه والمؤسسات العدلية لفتح تحقيقات وطنية مستقلة عن الجرائم التي وقعت ومحاكمة بقية المتورطين واعتماد تدابير العدالة الانتقالية لإنصاف الضحايا”.

وأوضح أن التعويضات تأخذ أشكالاً متنوعة، ولكن الأهم منها هي التعويضات الجماعية التي يجب أن تنفذ في المناطق التي تعرضت للضرر الأكبر عبر الهجوم الذي نفذه كوشيب سابقا. وتتمثل التعويضات الجماعية في إعادة بناء المرافق الخدمية العامة، وتمكين النازحين من العودة إلى قراهم، وفق عبد الباسط.

ويشير المدير التنفيذي للمنظمة السودانية لإنهاء الإفلات من العقاب، عثمان علي جامع، إلى أن إدانة كوشيب جاءت بعد مشوار طويل من جمع الأدلة والبينات قبل مثوله ومحاكمة، وفي إحدى زياراته مع فريق تحقيق من المحكمة الجنائية إلى منطقة ديليج وجدوا أن 150 شخصاً بينهم عُمد، أُعْدِمُوا في ميدان دفعة واحدة؛ مما يكشف حجم الفظائع التي ارتكبها هذا الرجل.

ويقول جامع في مقابلة مع (عاين): “الحكم أكد عدم وجود كبير على العدالة الدولية، ولا حصانة تمنع أي مجرم من العقاب، وسيمثل بقية المطلوبين البشير وهارون وعبد الرحيم محمد حسين، طال الزمن أو قصر، لأن ميزة قضايا المحكمة الجنائية لا تسقط بالتقادم، وهناك تجارب سابقة، مثل ما حدث في يوغسلافيا، حيث أدين بعد عقود المجرمين الأساسية وآخرين قادت إليهم التحقيقات”.

 

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *