كردفان.. أرض المليشيات

عاين- 1 أكتوبر 2024   

لم تكلف قوات الدعم السريع نفسها، عناء نشر جنودها الرسميين في إقليم كردفان عندما بدأت الحرب مع الجيش في منتصف أبريل من العام الماضي، لكنها اعتمدت استراتيجية صناعة مليشيات محلية وتزويدها بالسلاح والعتاد الحربي، وبذلك استطاعت السيطرة على مناطق واسعة في الإقليم بعد معارك عسكرية محدودة.

ومع مضي الوقت برز عدد من القادة على رأس هذه المجموعات المسلحة، ونصبوا أنفسهم حكاماَ على عدد من المناطق، لا سيما في ولايتي غرب وشمال كردفان، وهم يتمتعون بسلطات مطلقة في إدارة الشأن المحلي من جمع الجبايات من أصحاب المحال التجارية والسيارات بالطرق السفرية، الأمر الذي مكنهم من بناء إمبراطوريات مالية، بينما تحول آخرون لأعمال النهب تحت تهديد السلاح، وبدأ صدام بينهم والدعم السريع.

المصالح السلطوية والمالية التي حققوها، تطرح تساؤلات بشأن استعداد هؤلاء القادة المسلحين التنازل عن هذه الامتيازات في حال توقيع اتفاق سلام بين طرفي الحرب الرئيسيين، ومدى قدرة قوات الدعم السريع على احتوائهم، والمضي بهم نحو العملية السلمية ودمجهم وتسريحهم.

وفي سياق قراءة مستقبل الصراع في ظل عمليات التسليح العشوائية وصناعة المليشيات من قبل قوات الدعم السريع، لم نحصل إلا على وجهات نظر متشائمة تتوقع سناريوهات سيئة، بأن يشكل لوردات الحرب الجدد في إقليم كردفان عقبة حقيقية أمام عملية السلام، وربما يوجهون أسلحتهم نحو كل من يسعى إلى المساس بمصالحهم ومكاسبهم في السلطة والمال، مما يطيل أمد القتال.

وقبل الخوض في التداعيات والسيناريوهات المحتملة، تبدو الحاجة ملحة لمعرفة من هم قادة المليشيات التي صنعتها قوات الدعم السريع في إقليم كردفان، والمناطق التي يسيطرون عليها ويديرونها وطريقتهم في الحكم، وكيف استطاعوا تحقيق ثراء سريع وفاحش في مسرح بزنس الحرب؟

ضربة البداية

بدأ مشروع قوات الدعم السريع الخاص بصناعة الفصائل المسلحة من محلية أبوزبد الواقعة وسط ولاية غرب كردفان، إذ ظهرت مجموعة من أبناء المنطقة يقودها حسين برشم، واستطاعت السيطرة على مديني أبوزبد والسنوط دون معارك فعلية، نظرا لعدم وجود حاميات عسكرية للجيش في البلدتين، إذ كانت هناك مراكز للشرطة وجهاز الأمن وانسحب أفرادها، وكان ذلك بعد نحو شهر من اندلاع حرب 15 أبريل، وفق ما وثقه مراسل (عاين) بالتحدث مع عدد من الشهود في المنطقة.

برز حسين برشم كزعيم عسكري في المنطقة بالبزة العسكرية لقوات الدعم السريع وولاء كامل لها مسنوداً بأبناء عشيرته الذين انخرطوا في صفوف قواته بكثافة، وسريعا وسع عملياته الحربية، وقاد هجوم على قاعدة استراتيجية للجيش في منطقة طيبة وهي ملتقى طرق الأسفلت القادمة من كادوقلي وأبوزبد، وتتجه إلى الدبيبات ومن ثم الأبيض بولاية شمال كردفان، وتمكن من السيطرة عليها خلال معركة استمرت إلى ساعات معدودة، وفق مصدر عسكري.

وبحسب مصدر مقرب تحدث لـ(عاين) فإن حسين برشم كان مقاتلا في صفوف قوات الدفاع الشعبي في ولاية غرب كردفان، قبل أن ينضم إلى قوات الدعم السريع مع اندلاع الحرب، وتشكيل قوة ضاربة قوامها أبناء عشيرته تحديدا.

جعل برشم من مدينة أبو زبد منصة لانطلاق العمليات العسكرية، إذ استطاع السيطرة على حامية الجيش في حقل بليلة النفطي، ولاحقاً عاصمة ولاية غرب كردفان الفولة، ومدينة الميرم، كما تمتد تحركاته إلى الأبيض وحتى أم روابة في ولاية شمال كردفان، عن طريق هجمات مشتركة مع فصائل مسلحة تشكلت في المنطقة، وتعمل لصالح قوات الدعم السريع.

خلق حسين برشم لنفسه بيئة خصبة للكسب المالي من خلال فرض جبايات على المركبات السفرية في طريق الأسفلت الرابط بين مدن الفولة – أبوزبد وصولاً إلى ملتقى طيبة في ولاية جنوب كردفان، كما أسس محكمة في مدينة أبوزبد – وفق مصادر (عاين) تفرض رسوما وغرامات طائلة على المتهمين والشاكين على حد سواء.

وبحسب مصادر محلية، فإن جميع الإيرادات المالية تُسَلَّم لبرشم قبل أن يُنْقَل إلى قطاع الفولة، بما في ذلك المبالغ التي يجمعها من الطرق السفرية، وجبايات المحكمة وتلك التي تُفْرَض على أصحاب المحال التجارية، بالإضافة إلى عائدات محطات مياه الشرب “الدونكي” مما مكنه من تحقيق ثراء سريع بشراء عشرات العقارات والأراضي السكنية في أبوزبد.

مجموعة شريا

لم يمض وقت طويل منذ ظهور حسين برشم، إلا وبرز عبد المنعم شريا على رأس مجموعة مسلحة انتشرت على طول طريق الأسفلت من مدينة الدبيبات في ولاية جنوب كردفان وحتى تخوم الأبيض، وتمددت لاحقاً على طريق الأسفلت الأبيض – كوستي، إلى مدينة أم روابة، لتلتقي مع مليشيات محلية هناك.

أسس شريا وهو من أبناء محلية القوز في ولاية جنوب كردفان مجموعة مسلحة ضخمة قوامها شباب عشيرته، ومختلف المكونات الاجتماعية في المنطقة، واستولى على طريق الأسفلت بعد أن أقام ارتكازات عسكرية بعتاد وسلاح قوات الدعم السريع، وبدأ في جمع الثروة من خلال فرض جبايات طائلة على المركبات السفرية، والتي يستوجب على كل واحدة دفع مبلغ مالي لا يقل عن 5 آلاف جنيه، في نحو 70 نقطة تفتيش على الطريق من الدبيبات إلى الأبيض، بجانب الرسوم الأخرى على المحال التجارية.

وبحسب مصدر في هذه القوات تحدث لـ(عاين) فإن شريا جند أبناء عشيرته ضمن مليشيا لمساندة قوات الدعم السريع، والتي زودتهم بالسلاح والعتاد الحربي، دون الالتزام بدفع رواتب مالية شهرية للمقاتلين الجدد، وتركتهم للتكسب من الجبايات، والسلب والنهب، مما أدى إلى تفرغ فصائل من هذه المجموعات المسلحة إلى أعمال النهب مثل مجموعة سليمان صليب الديك التي تروع السكان في كردفان منذ أشهر.

قُتل عبد المنعم شريا في معارك بين الجيش وقوات الدعم السريع بمحيط مدينة الأبيض في شهر مايو الماضي، وترك خلفه مجموعة مسلحة متمركزة على نطاق واسع في ولايتي جنوب وشمال كردفان، وتمضي في نفس نهج التكسب المالي من الجبايات وأعمال النهب، ويشرف عليها مؤقتاً ماكن الصادق الذي أسندت له مهمة قيادة قوات الدعم السريع قطاع أبوزبد عقب نقل حسين برشم إلى الفولة.

ماكن الصادق، اسم برز مع حسين برشم، وهما ينحدران منطقة واحدة بغرب كردفان، ويعد السيطرة على مثلث طيبة في ولاية جنوب كردفان انتقل إلى العمل هناك إلى جوار عبد المنعم شريا، قبل أن يعود قائدا لقوات الدعم السريع قطاع أبوزبد.

بدأ ماكن الصادق هو الآخر في جمع الثروة عبر الجبايات مع توسيع نطاق انتشار قواته، في شهر سبتمبر 2024م تمدد نحو المناطق شمال أبوزبد (شمال خطة السكة حديد) لأول مرة منذ اندلاع الحرب، ونشر ارتكازات عسكرية في مدينة أبو قلب التي تضم سوق تجارياً كبيراً “سوق أم دورور” وفرض جبايات طائلة على أصحاب المحال التجارية وبائعات الشاي والأطعمة والرعاة، وفق ما نقله شهود من البلدة لـ(عاين).

مليشيا غبيش

وبأسلوب مستنسخ سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة غبيش في ولاية غرب كردفان عبر مليشيا محلية يقودها حامد عبد الغني، وهو من أبناء المنطقة شكل فصيلا مسلحا قوامه شباب عشيرته.

ووفق معلومات حصلت عليها (عاين) فإن حامد عبد الغني ظهر بعد سقوط نظام عمر البشير قائدا لمجموعة مسلحة في قرى محيطة بغبيش، وقال إنه يتبع للحركات المسلحة، ولكنه لم يخض أي نشاط معاد ضد الأجهزة النظامية، والتي بدورها لم تتعرض له، باعتباره أحد أبناء المنطقة المعروفين.

مليشيا

وقبل اندلاع الحرب الحالية بشهري طلب أمير دار حمر عبد القادر منعم منصور من قائد حركة تحرير السودان مني أركو مناوي بأن يضم مجموعة حامد عبد الغني إلى قواته، وسيكونون أفياء له، وسيساعدونه على تأمين وصول الشاحنات الغذائية إلى دارفور، وبحسب المصادر فإن مناوي ساعد هذه المجموعة بالسلاح وبعض العتاد استجابة إلى الأمير.

توقف عبد الغني عن مرافقة حركة مناوي بعد اندلاع الحرب، وظل متمركزا بقوته في محيط غبيش، وفي شهر ديسمبر من العام 2023م، هاجم غبيش وتمكن من السيطرة عليها فلم يكن بها حامية للجيش، فقط مركزا للشرطة وجهاز الأمن، وبعدها تواصل مع قوات الدعم السريع، وأبلغها انحيازه وولاؤه لها، فأرسلت له وفدا من الضعين، زوده بعتاد عسكري إضافي، ونصبه قائدا على المدينة، ليبدأ مشوار الكسب المالي ومن ثم الثراء.

لم تتوقف الحركة عند غبيش، بل توسعت إلى مناطق أخرى، وأبرزت قادة جدد بطموحات مماثلة، ففي منتصف سبتمبر من العام الجاري هاجمت قوة مسلحة منها يقودها عابد أحمد دفع الله منطقة صقع الجمل في ولاية غرب كردفان، وتمكنت من السيطرة عليها مسنودة ببعض أبناء البلدة، واعتلى عرشها ليكون قائدا فرعيا عليها.

عابد أحمد دفع الله هو من أبناء غبيش، شقيق عز الدين أحمد دفع الله أحد شباب حزب الأمة القومي تُعُيِّن مؤخرا رئيسا للمجلس التشريعي لولاية غرب كردفان ضمن الإدارة المدنية التي شكلتها قوات الدعم السريع في الفولة.

ولم يكن لعابد أي تاريخ عسكري، بل كان عضوا فاعلا في قطاع طلاب الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني في الجامعات، وكان فاعلا في ما يعرف باعتصام الموز أمام القصر الرئاسي ضد الحكومة الانتقالية، وذلك وفق ما نقلته مصادر مقربة منه لـ(عاين).

تهديد السلام

وينظر الخبير العسكري عمر أرباب، بريبة كبيرة لظاهرة المليشيات والمجموعات المسلحة التي صنعتها قوات الدعم السريع في إقليمي كردفان ودارفور، فهي تشكل تهديداً واسعاً للاستقرار حتى إذا توصل طرفا الحرب لاتفاق سلام، يظل الأمن القومي مهدداً؛ لأن مسألة جمع السلاح والترتيبات الأمنية ستكون معقدة، فضلاً عن استمرار أعمال النهب والسلب.

الخطر الأكبر يكمن في احتمالية تبني هذه الفصائل المسلحة مشاريع سياسية ورؤى خاصة بها ومنفصلة عن قوات الدعم السريع

خبير عسكري

ويقول أرباب في مقابلة مع (عاين) إن الخطر الأكبر يكمن في احتمالية تبني هذه الفصائل المسلحة مشاريع سياسية ورؤى خاصة بها ومنفصلة عن قوات الدعم السريع، وتزيد إمكانياتها مع تطاول أمد الحرب مما يشكل عائقا أمام السلام، وتعيد التجارب نفسها، فالدعم السريع تشكل كقوة مساندة للجيش، لكنه تطور وتبني مشروع سياسي منفصل، فاصطدم مع القوات المسلحة.

قادة المليشيات يستمتعون بسلطات مطلقة في إدارة شأن المناطق التي يسيطرون عليها ويعملون بشكل مستقل عن الدعم السريع

ناشط سياسي

ولم يكن أمر الصدام بين الدعم السريع والمليشيات التي صنعها مستبعداً بالنسبة إلى الناشط السياسي في ولاية غرب كردفان صلاح حسن جمعة، الذي يرى أن قادة هذه الفصائل لن يتنازلوا عن الامتيازات التي حققوها، فهم يستمتعون بسلطات مطلقة في إدارة شأن المناطق التي يسيطرون عليها ويبدون وكأنهم يعملون بشكل مستقل عن قوات الدعم السريع.

ويقول جمعة في مقابلة مع (عاين) إن مجموعة حامد عبد الغني تتحكم بشكل كامل في محلية غبيش، وتستحوذ على الموارد كلها بعيدا عن الدعم السريع، وتعمل بمفردها ولا تنصاع لتعليماته، وربما تكون مستعدة لقتاله، مما يعطي مؤشراً خطيراً.

مقاومة واشتباك

وعلمت (عاين) من مصدر عسكري أن حامد عبد الغني رفض تعليمات قوات الدعم السريع بنقله إلى منطقة أخرى بعد تزايد الشكاوى من السكان المحليين بشأن الجبايات وتدخله في أموال الزكاة، مما دفع استخبارات الدعم السريع للتوصية بتجاهله تجنباً لخسارته خاصة وأنها لا تملك سنداً اجتماعياً في المنطقة.

ربما تكون المعركة مع حامد عبد الغني مؤجلة، لكن قوات الدعم السريع اشتبكت بالفعل مع أحد حلفائها في مدينة أم روابة بولاية شمال كردفان، يدعى بشير بلنجة وهو من أبناء المنطقة كون مليشيا منذ وقت مبكر من اندلاع الحرب وساند الدعم السريع في السيطرة على المنطقة، لكنه تفرغ لاحقا لأعمال النهب؛ مما تسبب لهم في حرج.

وفي مطلع سبتمبر تمكنت قوات الدعم السريع من قتل بشير بلنجة خلال معركة بينهما، لكن فصيله المسلح الذي يضم أبناء عمومته بدأ في مهاجمة مسلحي الدعم السريع بدافع الانتقام، مما قاد إلى تدهور مريع في الأوضاع الأمنية وتصاعد أعمال النهب في مدينة أم روابة.

هذه المجموعات تربطها مصالح مؤقتة، وربما لا تتبنى قوات الدعم السريع أي التزامات تجاهها

خبير عسكري

ويشير الخبير العسكري الأمين مجذوب في حديثه لـ(عاين) إلى أن هذه المجموعات تربطها مصالح مؤقتة، وربما لا تتبنى قوات الدعم السريع أي التزامات تجاهها، ومن المحتمل أن يواجهوا مصير أمثالهم في الصومال وأفغانستان وسوريا وليبيا، والذي صُفُّوا من المجتمع انتقاما لما ارتكبوه من جرائم بحقهم.