“استباحة الأرواح والممتلكات”.. كردفان على طريق الفوضى الشاملة
عاين- 25 نوفمبر 2023
عندما كان “محمود أحمد” وهو شاب في العقد الثاني من العمر يهم بحصاد المحصول من مزرعة عائلته في ولاية غرب كردفان، لم يكن يدري أن أيادي الغدر تخطط لحصد روحه، وفي لحظة استراحة تسلل إليه أفراد عصابة مسلحين، فتحوا النار عليه ليتركوه يسبح في دمائه بعدما أخذوا مقتنياته.
لم يكن أمام عائلته خيار غير تتبع أثر عصابة النهب في ظل غياب تام لأجهزة الدولة بالمنطقة، وهو ما عمّق حالة الحزن التي تعيشها ومخاوفها من عدم تحقق العدالة لروح ابنها.
و”محمود” أحد عشرات المدنيين الذين سقطوا برصاص عصابات النهب المسلح في ولايات كردفان الثلاث خلال الفترة القليلة الماضية، وفي أغلب الحالات لم يتسن الوصول إلى الجناة حيث تغيب الشرطة والأجهزة العدلية كافة.
خلال شهر نوفمبر الجاري، اغتال مسلحون مجهولون مواطن داخل مزرعته شرق مدينة أبو قلب بولاية غرب كردفان وإصابة اثنين من أبنائه في أرجلهم بالرصاص الحي، وذلك بعد أن حضروا إليهم في المزرعة، وطلبوا منهم تسليمهم جولات من الفول السوداني حُصِد مؤخراً، لكن أصحاب الزرع قاوموهم بشدة، وفق ما أفاد به سكان من المنطقة (عاين).
في مدينة ابوزبد شرقي ولاية غرب كردفان، قُتل اثنان من المواطنين على يد مسلحين في حادثتين منفصلتين خلال هذا الشهر، وكان الدافع على الأرجح نهب الممتلكات. كما اُغْتِيل مواطن آخر يدعى “رضوان” بالقرب من منطقة أبي قلب على يد عصابة مسلحة، ونهب دراجته “توكتوك” وبعض البضائع كانت على متنه.
الأكثر تأثراً
ورغم ضيق نطاق العمليات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع فيها، إلا أن ولاية غرب كردفان تعتبر الأكثر تأثراً بأعمال النهب المسلح، والتي تصاعدت وتيرتها مع بدء عمليات الحصاد للموسم الزراعي الصيفي، إذ تهاجم العصابات المواطنين في مزارعهم بغرض نهب المحاصيل خاصة الفول السوداني والممتلكات المختلفة.
ويحتدم القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في المناطق الجنوبية الغربية من ولاية غرب كردفان خاصة حول حقول النفط، بينما بات الجزء الشمالي الشرقي من هذه الولاية مستباح تماماً عن طريق عصابات النهب بعد أن كثفت نشاطها بين القرى والفرقان، والتي كانت تتمتع بالأمن، ولم تشهد حوادث كهذه قبل اندلاع الحرب الحالية، وفق سكان بالمنطقة.
تحولت الأسواق المحلية الشهيرة بـ “أم دورور” التي تميز الإقليم إلى أوكار لبيع وشراء الأسلحة والذخائر.
وتتزامن أعمال النهب مع انتشار واسع للسلاح الناري في أيدي المواطنين في كردفان، وتحولت الأسواق المحلية الشهيرة بأسواق “أم دورور” التي تميز الإقليم عن غيره، إلى أوكار لبيع وشراء البنادق والذخائر بعد أن كانت ملاذاً آمناً لتبادل المنافع عبر الأنشطة التجارية التقليدية المختلفة.
ويشير شهود إلى أنه لن يمر يوماً دون تسجيل حادثة اعتداء من عصابات النهب المسلح على المواطنين في المزارع ومناطق رعاة الماشية، لا سيما في الجزء الشمالي الشرقي من ولاية غرب كردفان، بعضهم يفقدون أرواحهم وآخرين يكتب لهم النجاة.
يروي محمد يعقوب، وهو شاب في العقد الثالث لـ(عاين)، قصة نجاته من موت محقق بعد أن هاجمه مسلحون في مزرعته، وفتحوا عليه الرصاص الحي بغرض نهبه، لكنه قاومهم بضراوة، و تمكن من صدهم.
ويقول: “في إحدى ليالي الشهر الماضي تفاجأت بمسلحين اثنين يقتحمان مكان نومي الذي يجاور مزرعتي ومشروع لمياه الشرب دونكي نتولى الإشراف عليه، وضربوا علينا الرصاص، وكان معي أحد أصدقائي، ولحسن حظنا لم تصبنا هذه النيران، وكان بحوزته سلاح،ح وتبادلنا النار معهم مما دفعهم للفرار”.
“تمكنا من التعرف عليهما وهما من سكان منطقتنا نفسها، وبعد ذلك بأيام حضر إلينا أقاربهم، واعتذروا لنا عن ما بدر من أقاربهم، ولم يكن أمامنا خيار غير قبول الاعتذار، فليس هناك مركز شرطة أو أي نيابة وجهاز قضائي، حتى نرفع دعوى جنائية”. يضيف يعقوب.
واقعة أخرى مماثلة حدثت مع أحد أصحاب الماشية ويدعى، حبيب الله محمد علي، حيث هاجمه 7 أشخاص مدججين بالسلاح الناري في مناطق الرعي خارج قرية “الشنابلة” شرق ولاية غرب كردفان في محاولة لنهب “الضأن”، لكنه تمكن من صدهم، وحدثت إصابات متفاوتة وسط الرعاة الذين يعملون معه، وذلك حسبما نقله أحد أقاربه لـ(عاين).
كلفة عالية
بين قتيل وجريح وفقد الممتلكات، كلفة عالية يدفعها السكان في إقليم كردفان الذي تستبيحه عصابات النهب المسلح بشكل صارخ، بينما لا يجد المدنيون من يشكون إليه في ظل إغلاق مراكز الشرطة والمرافق العدلية.
أُغلقت مراكز الشرطة والنيابات العامة والمحاكم في كافة مدن ولاية غرب كردفان، باستثناء مدينة النهود التي ما يزال الجيش يحكم سيطرته عليها.
يقول أحمد محمود الذي قتل نجله “محمود” مؤخراً لـ(عاين): إنه “يشعر بحزن شديد لما أصابه، نظرا للطريقة الوحشية التي قتل بها ابنه الذي لم يبلغ العشرين عاماً بعد، وهي فاجعة ستظل باقية في نفسه مدى الحياة”.
ويضيف “تمكنا من الوصول إلى متهمين بارتكاب الجريمة، وقُبِض على أحدهم، وإيداعه السجن في مدينة النهود، والتي ما تزال تحتفظ بمراكزها الشرطية والنيابة العامة، ويجري العمل على توقيف المتهمين الآخرين على أمل وصول العقاب إلى المتورطين في مقتل ابني لتخفيف جزء من أحزاني وألمي”.
وجرى إغلاق مراكز الشرطة والنيابات العامة والمحاكم في كافة مدن ولاية غرب كردفان، باستثناء مدينة النهود التي ما يزال الجيش يحكم سيطرته عليها، وتستمر أجهزة الدولة بما في ذلك المؤسسات العدلية في ممارسة مهامها، وصارت وجهة لكل المواطنين المتضررين يقصدونها بحثا عن العدالة”.
ويشير حسين الرشيد، وهو ناشط مدني في إقليم كردفان، إلى أن عصابات النهب المسلح التي تنشط في الإقليم أفرادها معروفين وهم من أبناء المنطقة نفسها كانوا يمارسون السرقة في السابق، وبعد الفراغ الأمني والدستوري الذي أحدثته الحرب تحولوا إلى نهابة.
ويرى الرشيد، الذي تحدث إلى (عاين)، أن الوضع الحالي يتطلب وحدة وتكاتفاً من المجتمع المحلي بمختلف أطيافه مع عزل أي شخص يتورط في الاعتداء على المواطنين وممتلكاتهم وعدم منحه أي حماية قبلية أو عرقية.
ويضيف أن توفير الحماية للمجرمين من عشائرهم وقبائلهم سوف يقود إلى فتنة قبلية واسعة في إقليم كردفان وحرب أهلية شاملة ستعصف بالمدنيين في ظل غياب الأجهزة الأمنية الرسمية.