الخرطوم في قبضة عصابات النهب المسلح
بات اقتحام المنازل وسرقتها ونهب المواطنين في الطرقات مشهد متكرر في مختلف أنحاء العاصمة الخرطوم، وكثيراً ما تلاحق الاتهامات قوات الدعم السريع في التورط في بعض من هذه الأعمال الاجرامية بحق المدنيين، لكنها ظلت تنفي باستمرار صلتها بهذه الممارسات وأن عصابات ترتدي زيها تقوم بنهب المواطنين والمحال التجارية
مع مغيب شمس أحد أيام الحرب الساخنة بالعاصمة السودانية الخرطوم، اقتحم مسلحون منزل “سعيد بلال” في ضاحية امبدة غربي أمدرمان وأخذوا منه سيارته ومقتنيات أخرى تحت تهديد السلاح، بعدها لم يجد سبيلاً غير اصطحاب عائلته والتوجه الى احدى دول الجوار بحثاً عن الأمن.
وإن تمكن “بلال” من المغادرة الى وجهة آمنة، ما يزال ملايين الأشخاص تتقطع بهم السبل داخل الخرطوم، وباتت حياتهم مهددة إثر انتشار عصابات النهب والسلب بصورة كثيفة جعلها تستبيح العاصمة السودانية بشكل كامل وفاقمت محنة المدنيين مع حرب الجيش وقوات الدعم السريع التي دخلت شهرها الثاني.
وفي ظل غياب قوات الشرطة والأجهزة الأمنية المختلفة بدأ مواطنون في الخرطوم التفكير في امتلاك السلاح الناري بالتزامن مع دعوات وصفت بالمفخخة أطلقها الجيش السوداني للتسليح، في منحى خطير وضع المدنيين في مواجهة مباشرة مع الجماعات المسلحة. ففي ضاحية الصافية المجاورة لسوق ليبيا غربي أمدرمان قتل شابين هذا الأسبوع بعد أن تبادلا إطلاق الرصاص الحي مع عصابات نهب، وفق ما نقلته مصادر من المنطقة لـ(عاين).
في منطقة عد بابكر شرقي الخرطوم واحياء شمالي بحري ومدينة الريحان غرب أمدرمان، تبادل مواطنون النار مع مجموعات مسلحة حاولت اقتحام الاحياء السكنية لنهبها، بينما لجأ سكان في مختلف انحاء العاصمة السودانية الى اغلاق الطرق الداخلية بالحجارة “متاريس” وتشكيل مجموعات من الشباب لحراسة المساكن خلال فترة الليل لتأمين حياتهم وممتلكاتهم، لكن دائما ما يقعون في مواجهة مع العصابات المسلحة.
مشهد مألوف
وبات اقتحام المنازل وسرقتها ونهب المواطنين في الطرقات، مشهد متكرر في مختلف أنحاء العاصمة الخرطوم، وكثيراً ما تلاحق الاتهامات قوات الدعم السريع في التورط في بعض من هذه الأعمال الاجرامية بحق المدنيين، لكنها ظلت تنفي باستمرار صلتها بهذه الممارسات وأن عصابات ترتدي زيها تقوم بنهب المواطنين والمحال التجارية.
ويشير عبد الله، وهو شاب في العقد الثالث ويسكن أمدرمان أن ثلاثة افراد مسلحين يمتطون دراجة نارية “موتر” أوقفوه بجوار منزلهم في ضاحية الثورة شمالي العاصمة واخذوا هاتفه الجوال وبعض النقود التي كان يحملها بغرض شراء بعض المواد الغذائية لعائلته من المتاجر المجاورة.
ويقول لـ(عاين) “كانوا يحملون أسلحة نارية كلاشنكوف وملثمي الأوجه، أمروني بتسليمهم الهواتف ونقود. كان أحدهم يوجه سلاحه نحوي وهو مهيأ لفتح الرصاص على جسدي، فلم يكن أمامي خيار غير تسليمهم كل ما عندي والا سوف تكون حياتي ثمن أي مقاومة تبدر مني”.
وأصبحت العصابات تشكل هاجساً يؤرق سكان العاصمة الخرطوم أكثر من الحرب نفسها، فهي ليست ذات المجموعات الاجرامية التي كانت تطاردهم في الوقت السابق للصراع والتي كان تسليحها في حدود الاسلحة البيضاء” السواطير والسكاكين”، بل باتت تملك سلاح ناري ومركبات، حسبما ذهب إليه محمد رشيد، وهو شاب يسكن منطقة امبدة غربي أمدرمان.
ويقول رشيد في مقابلة مع (عاين) “صارت تحركاتنا محدودة وفي نطاق ضيق داخل الحي السكني، فقد أصبح المدنيين هدفاً لمجموعات ترتدي أزياء عسكرية وآخرين بلباس مدني مدججين بالأسلحة، يوقفون المارة ويخضعونهم لعمليات تفتيش دقيقة لنهب هواتفهم والمبالغ النقدية التي بحوزتهم”.
نشاط منظم
ولا يبدو نشاط هذه العصابات عشوائياً، بل هو عمل ممنهج ومنظم يهدف الى احداث مزيد من السيولة الأمنية في البلاد وزيادة حالة الفوضى التي خلفتها الحرب، وذلك حسب ما ذهب اليه الصحفي السوداني عمار حسن في حديثه لـ(عاين)، إذ يعتقد أن أحد طرفي الصراع او طرف ثالث يقوم بتغذية هذه الاعمال الاجرامية، فحرق المساكن والمحال التجارية بعد نبها يؤكد أن الدافع ليست السرقة وحدها”- حسب وصفه.
ويروي شاهد لـ(عاين) أن عصابات النهب تمارس نشاطها بشكل جماعي وفق خطة أمنية محكمة، يقول “رأيتهم في سوق ليبيا لحظة نهب أحد المتاجر، انهم يقومون بتمشيط المنطقة المحيطة ومن ثم ضرب الرصاص بشكل مكثف في الهواء لإرهاب الأشخاص ومن ثم يوزعون المهام بينهم، إذ يتولى البعض مهمة التأمين من على ظهر سيارة او دراجة نارية، والأخرين يقومون باقتحام المتجر واخذ ما بداخله من أموال وبضائع”.
بدوره، يتفق عمار حسن مع رشيد، حول التحول الكبير في نشاط العصابات مع اندلاع الحرب واستوحى ذلك من خلال تجربته السابقة مع الجماعات الاجرامية المعروفة بـ9 طويلة التي نهبت دراجته النارية خلال وقت سابق لنشوب الصراع المسلح، حيث كانت تعتمد على الأسلحة التقليدية وتعمل في مناطق محددة في العاصمة الخرطوم، لكن الآن صارت مدججة بالسلاح الناري واتسع نطاق شاطها ليشمل كل العاصمة السودانية.
مؤشر خطير
ويرجح حسن “ضلوع عناصر النظام السابق في تغذية عصابات النهب فهي المستفيد الأول من اغراق البلاد في السيولة الأمنية ومن ثم جر السودان الى الفوضى في مخطط واضح المعالم ويمضي قدما مع حملة لتسليح المواطنين تحت ذريعة حماية أنفسهم، وهذا أمر خطير يجب الانتباه له”.
وفي ذات المنحى يذهب الخبير العسكري د. محمد خليل الصائم الذي يعتقد كذلك أن عمليات النهب الواسعة في العاصمة الخرطوم لم تكن محض صدفة، وإنما هي عمل ممنهج تم التخطيط له بعناية بواسطة قوات الدعم السريع التي يتولى بعض منسوبوها عمليات كسر المنازل والمتاجر وتركها مشرعة الأبواب لآخرين يتولون عملية نهبها. لكن قوات الدعم السريع ظلت تنفي باستمرار تورطها في اعمال النهب، وأن مجرمين ينتحلون زيها وصفتها يقومون بذلك.
ويقول الصائم في مقابلة مع (عاين) إن “أسوا ما في عمليات النهب والسلب في الخرطوم أنها أظهرت غبن مجتمعي. وقد أصبح المواطنين في حالة عدم يقين مستمرة تجاه الوضع الأمني الذي ساهم إطلاق سراح السجناء في تفاقم تدهوره”.
لكن الصحفي السوداني المقيم في أمدرمان حالياً عمار حسين ينبه إلى إنه تجول في مدن العاصمة السودانية الثلاث (بحري، أمدرمان، الخرطوم) ولم يلاحظ أي عمليات انتقاء للضحايا، فجميع المدنيين يعتبرون أهداف للعصابات التي تختصر حديثها مع الضحية في جملة واحدة “اخرج ما في جيبك” مع توجيه السلاح.
ويقول حسن “ثمة اختلاف شايع بين عصابات النهب الحالية عن السابقة، فمجموعات 9 طويلة يمكن مساومتها وارجاع المنهوبات الكبيرة مثل السيارات والدراجات النارية ولدينا نماذج سابقة بهذا الخصوص، وأيضاً يمكن مقاومتها والافلات منها، لكن في الوقت الراهن لا تعود الأشياء المنهوبة وستكلفك أي مقاومة حياتك”.
أسباب مجتمعية
يرى الخبير الأمني خالد عبيد الله، أن عمليات النهب بدأت بأسباب مجتمعية بحتة بعد أن فر مواطني العاصمة الخرطوم من منازلهم بسبب الحرب وتداعياتها من انقطاع في خدمات المياه والكهرباء، الأمر الذي أغرى ضعاف النفوس لاقتحامها وسرقتها، كما ساهم إطلاق سراح السجناء في اتساعها.
وتتحرك عصابات النهب نحو ضحاياها وفق معلومات مسبقة يمدهم بعا لصوص متعاونون داخل الأحياء السكنية، وهو اكتشفه سعيد بلال من خلال واقعة النهب التي تعرضها لها، وقال “حضر مسلحون الى منزلي وسألوا عني بالاسم، وعندما سلمتهم مفاتيح السيارة واثناء مغادرتهم حدثني أحدهم بلغة يتخللها تأنيب ضمير : يا حاج نحن لا نعرفك ولكن شخص ما دلنا عليك”.
ويقول سائق “توكتوك” في سوق ليبيا غربي أمدرمان لـ(عاين) إن مسلحين أوقفوه وعرضوا عليه ما ان كان يعرف دكانا او مصرفاً في المنطقة مليء بالنقود يدلهم عليه لكسره على أن يعطونه جزءاً من المنهوبات، لكنه اعتذر لهم مدعيا عدم معرفته بالمنطقة وانه جاء اليها خلال وقت قريب، بعدها تم السماح له بالعبور”.
ويضيف “شاهدت أشخاصا بلباس مدني وسط المسلحين يقومون بإرشادهم على المحال التجارية والمصارف التي يتوقع ان تكون غنية بالنقود. رأيتهم أيضاً يتقاسمون المسروقات من مبالغ نقدية ومقتنيات أخرى داخل سيارات مسلحة ومركبات صغيرة. تمتد عمليات الارشاد حتى الى الاحياء السكنية على منازل التجار والاثرياء”.
سيناريو مرعب
يطرح استمرار الحرب في العاصمة الخرطوم سيناريوهات مرعبة بشأن مزيد من التوسع في عمليات النهب مع احتمالية دخول عصابات من خارج الحدود، وهو ما حذر منه الخبير الأمني خالد عبيد الله في مقابلته مع (عاين).
يقول خالد “حتى اللحظة جميع العصابات المنتشرة في العاصمة محلية وهي امتداد لمجموعات النيقرز و9 طويلة، وتضاف لهم حالات نهب موثقة تقوم بها قوات الدعم السريع، ولكن إذا تطاول أمد الحرب يغري العصابات في الدول المجاورة التحرك نحو الخرطوم بغرض النهب والتملش وهو سيناريو مرعب يجب تفاديه بوضع حد لهذا الصراع”.
وما يزيد الأوضاع سوءا أيضاً انتشار السلاح بشكل مكثف وسهولة الحصول عليه، وقال مصدر شرطي لـ(عاين) إن تجار السلاح الذين كانوا معتقلين في سجن الهدى وآخرين عادوا بكثافة وباتوا يعملون في وضح النهار في مناطق غربي أمدرمان، ففي ظل عدم وجود ضبط أمنى سيتمكن أي شخص من امتلاك سلاح ناري وذخائر الشيء الذي يمثل نواة خصبة لحرب أهلية شاملة.
ويقول شاهد لـ(عاين) إن السلاح يباع في العلن وبمقابل مادي زهيد مقارنة بالفترة السابقة لاندلاع الحرب، مضيفا “رأيتهم في سوق القش غربي أمدرمان يعرضون المسدسات بـ50 الف جنيه، والكلاشنكوف يصل سعره حتى 300 الف واقل من ذلك. ويقوم بعرض هذه الأسلحة اشخاص مدنيين وآخرين بلباس عسكري يخص قوات الدعم السريع.