الخرطوم بحري.. مواطنون غرباء في مدينتهم

عام ونصف من بداية الحرب في السودان، كانت كفيلة بتحويل حياة ملايين المدنيين العالقين في مدن العاصمة الثلاثة، الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان إلى جحيم، وأحالت نيران المتحاربين بنى تحتية مهمة إلى رماد. وتركتها أثرا بعد عين.

عاين- 15 أكتوبر 2024

مدينة الخرطوم بحرى واحدة من المدن التي شهدت وما زالت أعنف المعارك، وتقع ثلثي أراضيها تحت سيطرة قوات الدعم السريع منذ 18 شهرًا. وتشتهر كونها مركز الثقل الصناعي في البلاد.

“ليس ما يحدث في بحري فريدًا من نوعه، لكنه الأعنف من بين مدن السودان الوالغة في الصراع المسلح كونها أحالت حياة 3 ملايين شخص من سكان المدينة إلى الجحيم فر معظمهم فيما يواجه قرابة مليون شخص صعوبة كبيرة في التعايش مع الحرب بمقاومة شح الطعام والعمل والمياه والاتصالات من خلال التضامن بين الأحياء وإنشاء المطابخ الجماعية والعيادات الصحية والبحث عن محلات الاتصال التي تعمل بخدمة (ستارلينك) والمراقبة بواسطة قوات الدعم السريع في ذات الوقت قادتها يعملون في بيع هذه الأجهزة بعد توقف الاتصالات منذ فبراير 2024 في العاصمة السودانية”. وفق ما تقول إسراء حماد لـ(عاين).

فيما يقول الباقر حسين وهو مهندس برمجيات “ارتفعت الآمال مؤخرًا بعودة المواطنين إلى منازلهم بالخرطوم بحري مع وصول الجيش إلى جسر الحلفايا والحي السكني، لكن التقدم الميداني عادة يستغرق وقتًا طويلًا كما درج الجيش على ذلك في الحرب وقد يمتد لنصف عام يعرض الطرفان خلالها في معارك صغيرة متقطعة، وتستمر معاناة المدنيين”.

ويشير الرجل الخمسيني في مقابلة مع (عاين) إلى أن طول أمد بقاء قوات الدعم السريع في بحري انعكس على البنية التحتية وصمود المواطنين، ولم تتمكن قوات حميدتي من إدارة المدينة، وغرقت بحري في مستنقع الوبائيات والجوع وعمليات نهب موسعة، وتعتبر أكثر مدن السودان التي تعرضت إلى النهب من المصانع والشركات والمنازل؛ لأنها اُستبحيت لشهور طويلة، ولا تزال مُستباحة.

كل شيء انقلب رأسًا على عقب في بحري كما يسمونها سكان المدينة يضيف الفاتح 47 عاما قائلًا “أهمية المدينة كونها تضم منطقة صناعية لم يتبق منها سوى المباني والركام في المواقع التي طالتها عمليات القصف الجوي والاشتباكات والمدافع الأرضية وأعمال العنف والنهب الذي تحول في الأسابيع في المنطقة الصناعية إلى درجة مشاهدة صفوف اللصوص، وهم ينهبون كل ما خف وزنه وغلا سعره”.

نهب المصانع والمنازل

أفادت إسلام أحمد المستثمرة في صناعة الحديد والصلب وتحويلها إلى أثاثات منزلية ومكتبية “نجونا بأنفسنا تركنا كل شيء وراءنا لقد دمرت الحرب الحياة بأكملها في بحري من المستحيل أن تحصي الخسائر بدقة، لكن في رأيي نحو 80 مصنعا دمر بالكامل”.

80 مصنعا في بحري دمر بالكامل، ونهبت محتوياته

مستثمرة

تتابع إسلام قائلة هذه السيدة “فُكِّكَت آلات عملاقة من غالبية المصانع بغرض النهب في حرب الخرطوم بحري فعلوا ما لم يفعله أحدًا من قبل لذلك هذه المدينة دفعت ثمنًا غاليا، ولن تعود كما كانت، ستكون مدينة من الماضي”.

يسود الصمت المدينة التي كانت يومًا ما تعج بالناس والحياة، بينما في منطقة شمبات والمحطة الوسطى للحافلات والشعبية والمزاد والحلفايا تنتشر قوات الدعم السريع ويلاحظ المارة الأثاثات المكتبية المنهوبة والمقاعد الوثيرة في منتصف الطرق يجلس عليها الجنود قرب الحواجز العسكرية. أما مستشفى البراحة الذي كان يقدم الخدمة الطبية لعشرات الآلاف من سكان بحري تحول إلى موقع قناصة قوات حميدتي ومركزا لإخلاء مصابي القتال وفق شهادة العاملة الإنسانية إسراء حماد لـ(عاين).

في حديقة عبود الوطنية أسفل جسر النيل الأزرق، والتي طالما شكلت وجهة للترفيه يقول شهود إن قوات الدعم السريع حولت محيطها إلى مركز عسكري مع وضع المدافع صوب القيادة العامة للقوات السودانية الواقعة على الضفة الأخرى من النيل جهة الخرطوم، ومن المتوقع حسب إعلان قائد عسكري رفيع في الجيش اندلاع معارك عنيفة في هذه المنطقة خلال الشهرين القادمين كما حشدت قوات الدعم السريع مقاتليها بمحاذاة شارع الإنقاذ ومحطة القطارات مع وضع المدافع الثقيلة والقطع الحربية على أهبة الاستعداد، وخلت الأحياء السكنية من غالبية المواطنين عدا قلة يعتمدون على مؤن شحيحة.

نزح محمد عمر مع عائلته من حي كافوري في الخرطوم بحري، بعد أن حولته قوات الدعم السريع إلى منطقة عسكرية بامتياز وأغلب المنازل خالية من السكان تتخذ هذه القوات عشرات المنازل للسكن والاستخدامات العسكرية والإمداد والطهي يقول لـ(عاين) مع مغادرة مئات المركبات التابعة للدعم السريع في النصف الأول من العام الماضي وهي محملة بـ الأثاثات والأجهزة والمعدات والأموال.

حرق الأسواق الرئيسية

وكأن الفعل جاء متعمدًا تحول سوق سعد قشرة الشهير ببيع الملبوسات والذهب والحلي وسط المدينة إلى كتلة من الرماد لم يتبق من المركز التجاري الأبرز سوى أعمدة خشبية تلاحظ عليها آثار النيران وبقايا السلع المعروضة، وشهد هذا السوق أعنف اشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع لدرجة أنه تحول إلى منطقة تماس في بعض الأحيان قبل أن يتراجع الجيش إلى سلاح الإشارة والكدرو.

ما لبث سكان الخرطوم بحري يحلمون بانتهاء الحرب حتى وصل القتال مرة أخرى إلى عمق المدينة عندما توغل الجيش اعتبارًا من 29 سبتمبر 2024 إلى حي الحلفايا واضعًا ظهره على الجسر الرئيسي الرابط بين المدينة وأم درمان مع انتشار في بعض الشوارع في بحري.

الخرطوم بحري بعد 18 شهرًا من الحرب يمكن القول إنها مدينة الموتى

عاملة إنسانية

تقول العاملة الإنسانية إسراء حماد “الخرطوم بحري بعد 18 شهرًا من الحرب يمكن القول إنها مدينة الموتى ستشاهد قبور الضحايا في المنازل خاصة في كافوري والصافية ما لا تعرفه عن المدينة سيكون صادمًا إذا عاد الناس إليها عندما يتوقف القتال عندما تخرج رفات إحدى الضحايا من فناء منزلك إلى المقبرة”.

الملاريا والحميات لا ترحم الناس أغلبهم هزلت أجسادهم بسبب نقص الطعام.

حسب إسراء توفي ما لا يقل عن 200 شخص بسبب الجوع والحميات والملاريا خلال هذا العام في الخرطوم بحري.

مغادرة مدينة محطمة

لخمس مرات على التوالي لم تفلح مساعي عائلة آلاء في مغادرة المنزل وسط بحري للوصول إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل شمال البلاد في المرة السادسة غادرت، لكنها دفعت نحو 1.5 مليون في حاجز عسكري يتبع لقوات الدعم السريع.

شاهدت آلاء الخريجة الجامعية المتاجر المنهوبة وهي مشرعة الأبواب في مناطق مثل الصافية والشعبية والحلفايا كما رأت تلاشي معالم المدينة التي صنفها سكانها على أنها الأرقى بين مدن العاصمة السودانية ودرج الناس على البقاء حتى الساعات الأولى من الصباح خلال نهاية الأسبوع والعطلات خارج المنزل في المطاعم. أما خلال الحرب تبدلت المظاهر التي كست المدينة لسنوات طويلة، واختفى الناس من الشوارع، ومن بين بقي في هذه المناطق الساخنة يفضل البقاء داخل المنزل مع ظلام يعم الأرجاء وأصوات المركبات العسكرية والرصاص الحي.

قوات الدعم السريع نصبت نحو 1700 مدفع في الخرطوم بحري مع نشر 22 ألف جندي في الأسابيع الأولى للقتال

باحث

يقول الباحث محمد عباس لـ(عاين) إن قوات الدعم السريع نصبت نحو 1700 مدفع في الخرطوم بحري مع نشر 22 ألف جندي في الأسابيع الأولى للقتال فيما انخفض العدد لاحقا إلى النصف مع الضربات الجوية، ونقل البعض إلى مدن مجاورة خاصة الخرطوم.

“الخرطوم الشمالية” أو بحري في نظر محمد عباس الأكثر تضررًا من الحرب بفقدان البنية التحتية الصناعية بنسبة 70% بشكل كلي و30% جزئيًا إلى جانب توقف 28 مستشفى حكومياً وخاصاً ونهب جميع المعدات والأجهزة الدقيقة والأثاثات ما يعني أن عودتها حتى وإن توقف الحرب تستغرق وقتا طويلا.

قطرة المياه تقدر بثمن

بالنسبة لمحطة المياه الرئيسية توقفت منذ اليوم الأول للحرب منتصف أبريل 2023 ارتفعت المطالب في ذلك الوقت من الفاعلين في لجان الطوارئ ومنظمات المجتمع المدني بضرورة تشغيلها والسماح للعمال بالوصول عبر تنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى المحطة لغرض الصيانة لم ينصع الجيش والدعم السريع إلى المناشدات ومع مرور الوقت دب اليأس في نفوس السكان، ولجأوا إلى الحلول الفردية والجماعية مثل جلب المياه بالدلو من الآبار القديمة وإعادة صيانتها بالطرق البدائية.

تقول العاملة الإنسانية إسراء حماد “عندما توقفت محطة مياه بحري قرر عشرات الآلاف من المواطنين النزوح خوفا من فقدان مصادر المياه بشكل كلي مع استمرار الاشتباكات بالفعل نزح قرابة 150 ألف شخص في الأسبوع الأول من بحري”.

وماذا عن مصير من لم يتمكن من النزوح؟ تقول حماد “الآبار شكلت حلًا اضطراريًا لتوفير المياه يجلس المتطوعون لساعات طويلة لسحب المياه من الأسفل، وتوزع على المواطنين الذين يضعون الدلو والأواني في صفوف طويلة”.

مهنة بيع المياه أصبحت جاذبة لمئات الأطفال الذين ينتشرون في شوارع المدينة الشمالية في العاصمة السودانية يأتون من الضواحي الفقيرة لا يكترث جنود الجنرال حميدتي للعربات البدائية التي تقطرها الدواب أو أطفال يحملون الدلو الكبير على الأكتاف.

النهب.. ضربة موجعة للاقتصاد

مع عودة الخرطوم بحري إلى واجهة العمليات العسكرية منذ نهاية سبتمبر 2024 ظلت المنطقة الواقعة بين مصفاة النفط شمالًا حتى أقصى قرى الزاكياب والجيلي، مرورا بقرى حدود ولاية نهر النيل وبالعودة جنوبًا إلى ضفاف النيل الأزرق منطقة عمليات عسكرية نشطة منذ ثلاثة أسابيع وخلال الشهرين القادمين قبل نهاية العام ينوي الجيش الاستحواذ على مناطق شمال المدينة الممتدة من الكدرو حتى مصفاة النفط الرئيسية.

يرى الباقر حسين وهو مهندس برمجيات كان يدير متجرًا في محطة المؤسسة وسط الخرطوم بحري أن المنازل تضررت بالنهب أكثر من أي شيء وهناك القليل منها تعرضت إلى القصف المدفعي والجوي، لكنها لا تشكل تأثيرًا على الإطار العام للخرطوم بحري.

ويضيف قائلًا” يمكن تقدير الخسائر في بحري بـخمسة وسبعين مليار دولار للأصول والممتلكات الصناعية والمنزلية والتجارية والمستشفيات والمدارس والمرافق العامة والسيارات”.

يتذكر الفاتح عندما بدلت الحرب حياته من إدارة مشروع صغير إلى شخص عاطل عن العمل بوتيرة متشابهة مست الحرب عشرات الآلاف من العمال في المصانع التي دمرت والواقعة شرق مدينة بحري وتعدد المعاناة أمام المدنيين من انتشار المخلفات الحربية إلى توقف المرافق الصحية، مرورًا بتوقف محطات الكهرباء.

أما في قطاع الطاقة تعرضت محطة الأسلاك الرئيسية وشبكة التوصيلات في محطة كهرباء بحري إلى احتراق كامل الشهرين الماضيين في وقت تسيطر قوات الدعم السريع فيه أيضا ضمن بنية الطاقة في محيط مصفاة الجيلي على محطة قري الحرارية والاثنتين تنتجان قرابة 700 ميغاواط توقفتا عن إمداد الشبكة العامة للكهرباء منذ مايو 2023.

البنية التحتية لشبكة الكهرباء مثل أعمدة الإنارة والمحولات الموزعة على الأحياء والمصانع والأسواق هي الأخرى دمرت وقُطعت الأسلاك في معظم الأطوال الممتدة على مسافة تقدر بـ 90 كيلومترًا لم تتمكن جهود تطوعية في تشغيل الكهرباء بالأحياء الواقعة وسط المدينة مع تشديد إجراءات الدعم السريع بحق عمال الصيانة ونقص المعدات.