“مطرودون من كسلا” .. الحكومة تمنع دخول نازحين جُدد

عاين- 6 أبريل 2024

عندما وصل “عادل حسن” وعائلته إلى مدخل مدينة كسلا  شرقي السودان، بعد رحلة نزوح شاقة هرباً من القتال في مدينة ود مدني، لم يكن يدر انه على موعد مع حرب من نوع آخر في اعقاب قرار حكومي يقضي بمنع دخول نازحين جدد إلى المدينة ليواجه مصير الإبعاد القسري إلى محلية خشم القربة، وإيداعه مخيم إيواء تنعدم فيه أبسط مقومات الحياة.

كان حسن الذي تحدث إلى (عاين) ينوي الإقامة في مراكز الإيواء داخل مدينة كسلا، حتى يكون قريباً من المستشفيات والمراكز الطبية الكبرى، ليكون مطمئنا على أفراد عائلته الكبيرة والصغيرة، والذين من بينهم كبار في السن، إلى جانب بقية الخدمات، لكن وجد نفسه مجبراً على التنازل عن حق مواطنة أصيل والتوجه حيث ترغب السلطات الحكومية.

ليس عادل وحده، بينما وجدت مئات العائلات التي هجّرتها قوات الدعم السريع قسرياً من قرأها في ولاية الجزيرة خلال الأسبوعين الماضيين، المصير نفسه، وأُبْعِدُوا بمجرد وصولهم إلى محطة المواصلات في السوق الشعبي عند مدخل مدينة كسلا من الناحية الغربية، إلى محليتي خشم القربة وحلفا الجديدة، بحجة أن مراكز الإيواء في كسلا لم تتبق بها مساحة لاستيعاب نازحين جدد.

ويستمر تدفق النازحين إلى كسلا منذ سقوط مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة أواسط السودان في يد قوات الدعم السريع في ديسمبر الماضي، فكانت الوجه المفضلة للفارين بوصفها أكثر أمناً حيث صارت القضارف التي تقع قبلها في خط النار ومتاخمة لمناطق العمليات العسكرية، وما تزال عمليات النزوح إلى تلك المدينة مستمرة مع تصعيد قوات الدعم السريع انتهاكاتها بحق المدنيين في قرى الجزيرة.

وبحسب منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية في تقرير حديث لها اطلعت عليه (عاين) فإنه “حتى شهر فبراير يوجَد نحو 190 ألف نازح في ولاية كسلا وحدها، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى مساعدات إنسانية شاملة. ومن بين هؤلاء فر نحو 40 ألف شخص خلال أعمال العنف الأخيرة في ولاية الجزيرة”.

مغامرة النزوح

يروي عادل حسن، قصة نزوحه من مدينة ود مدني الشهر الماضي بعد أن سلك الطريق المتجه غرباً إلى المدينة عرب ثم جبل موية على الطريق القومي الذي يربط بين مدينتي ربك وسنار، في مغامرة كانت مليئة بالمخاطر؛ إذ ينتشر مسلحو قوات الدعم السريع وعصابات النهب، ليمكث بضعة أيام في القرى المتاخمة لولاية سنار، لكن اشتدت العمليات العسكرية في المنطقة؛ مما دفعه لمغادرتها نحو كسلا شرقي البلاد.

وصل عادل إلى مدخل كسلا، وساعتها كان قد أنفق كل ما يملكه من مبالغ في تكاليف السفر مع عائلته، وفي السوق الشعبي وفق ما ذكر لـ(عاين) أبلغه متطوعي الهلال الأحمر السوداني بأن حكومة ولاية كسلا قررت منع دخول نازحين جدد إلى المدنية؛ لأنه لا يوجد مكان شاغر في مراكز الإيواء، والذين يرغبون في السكن بالمدينة يتوجب عليهم استئجار منازل من مالهم الخاص.

ويقول:”اضطررت للمغادرة إلى مدينة خشم القربة، وتم إيواؤنا في إحدى المدارس، حيث يتم تسكين 3 أسر في حجرة دراسية واحدة ضيقة تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة بما في ذلك مياه الشرب، ولم تصلنا أي مساعدات أو جهة تقدم لنا العون، فقط نعتمد على الأطعمة التي يأتينا بها سكان المنطقة وبعض الشباب المتطوعين”.

“إذا وجدنا مبررنا لحكومة كسلا في قرار منعنا من الإقامة داخل المدينة بسبب اكتظاظها، فما الذي يمنعها من التدخل وإعانتنا في خشم القربة؟، كان ينبغي عليها توفير نفس الخدمات المعيشية والصحية التي تقدم في مراكز الإيواء في عاصمة الولاية إلينا، وتوجيه المنظمات وكل الجهات التطوعية لإغاثتنا، فنحن متعففون ونشعر بحرج وحياء في أن يعولنا مواطنون مثلنا هم أنفسهم يعانون ضيق اليد ورداءة الوضع الاقتصادي”- يضيف عادل حسن.

هذه المعاناة تتشاركها مئات العائلات وصلت التي نزحت بسبب تصاعد وتيرة العنف ضد المدنيين في ولاية الجزيرة، وتم إيواؤها في مخيمات متواضعة في محلية خشم بعد حرمانهم من دخول مدينة كسلا، فهم يواجهون خطر الموت جوعاً عقب نجاتهم من رصاص الحرب.

يقدم طاقم منظمة أطباء بلا حدود الاستشارات الطبية في أحد مواقع التجمع في كسلا في السودان، والذي استقبل عددًا كبيرًا من الأشخاص ذوي الإعاقة. السودان، في مارس 2023.

ووفقا لعضوة في غرفة طوارئ خشم القربة تحدثت لـ(عاين)، فإن المدينة تأوي نازحين فروا من أعمال القتال في ولاية الجزيرة، لكن الأعداد في تزايد حيث تصل مزيد من العائلات هذه الأيام، في حين لا توجد أي تدخلات من حكومة ولاية كسلا أو المنظمات التطوعية، فهناك نقص حاد في الغذاء والعلاج وحتى مياه الشرب غير متوفرة.

غرفة طوارئ كسلا: 256 مركز إيواء بالولاية وتضم 263 ألف أسرة.

وتقول: إن “غرفة الطوارئ في خشم القربة تقوم بمجهودات في حدود استطاعتها وتوفر من خلالها وجبتي الفطور الرمضاني والعشاء للنازحين في مراكز الإيواء الخمسة، لكن تظل الحاجة كبيرة، وتستلزم تدخلات عاجلة من سلطات العون الإنساني والمنظمات الطوعية لتوفير الخدمات الحياتية اللازمة للفارين الذين يعيشون معاناة بالغة”.

صيام قسري للأطفال

ذروة المأساة بحسب عضوة غرفة طوارئ خشم القربة، تتمثل في أن الأطفال في مراكز الإيواء يضطرون إلى صيام قسري مع الكبار لعدم وجود طعام يقدم لهم خلال الفترة النهارية وعليهم انتظار وجبتي الفطور الرمضاني والعشاء التي توفرها الغرفة. وهناك مساعي لعمل وجبات لهم في النهار، ولكن الإمكانيات محدودة والموارد شحيحة، الأمر الذي يتطلب تدخلاً عاجلاً.

وأفاد منسق الإعلام في غرفة طوارئ بمدينة كسلا عبد الرؤوف محمد، أن النازحين الذين وصلوا مدينة كسلا مؤخرا عاشوا أوضاع قاسية، فلم يتم إيواؤهم، وظلوا ينامون على الأرض وفي العراء، ولاحقاً أمرت السلطات الحكومية في الولاية، الهلال الأحمر والجهات ذات الصلة الأخرى بأن لا تسمح للنازحين الجدد بدخول المدينة وإعادتهم من السوق الشعبي إلى خشم القربة ومحلية حلفا الجديدة وغيرها من المناطق.

وقال عبد الرؤوف في مقابلة مع (عاين): “هذا القرار كان قاسياً جداً على النازحين خاصة وأنهم لا يملكون الأموال الكافية للتنقل، كما أن من بينهم مرضى يستلزم وجودهم داخل مدينة كسلا لتلقي الرعاية الطبية اللازمة، فرغم تزايد عدد الفارين، إلا أن المنع الذي قامت به السلطات الحكومية غير مبرر، فكان بالإمكان مع قليل جهد إيجاد مراكز إيواء في مدينة كسلا تستوعب الجميع، فهناك منازل تتبع للإسكان الشعبي كان يمكن تخصيصها لإيواء النازحين”.

عضو غرفة طوارئ: الوضع الإنساني سيئ للغاية في كل مراكز الإيواء بولاية كسلا والبالغ عددها 418 مركزاً

ويضيف: “الوضع الإنساني سيئ للغاية في كل مراكز الإيواء بولاية كسلا والبالغ عددها 418 مركزاً، ولم تحدث التدخلات المطلوبة، فهناك نقص في المياه والأكل حيث يمنحون وجبات محدودة خلال اليوم، بينما تشهد المساعدات الشحيحة التي تصل اختلالاً في التوزيع، وكان ديوان الزكاة يقوم بمجهودات كبيرة في تغطية العجز، ولكن أقالت الحكومة الأمين العام للديوان بتهمة الانتماء إلى قوى الحرية والتغيير، ومن ساعتها توقفت مساهمات الزكاة في عون نازحي الحرب”.

مركز إيواء نازحين- مدينة القضارف

ونبه عبد الرؤوف إلى أن “غرفة الطوارئ تتعامل على نحو مباشر مع منظمة أطباء بلا حدود، والتي تغطي الاحتياجات الدوائية، لكن يظل النقص في الجانب المتعلق بالغذاء وهو احتياج مستمر طوال اليوم. أيضاً إغلاق كسلا في وجه النازحين فاقم الأزمة، فهناك فارون يعانون الأمراض المزمنة وآخرين كبار في سن يحتاجون إلى رعاية طبية محددة لا تتوفر في المناطق الأخرى”.

قرار مجحف

من جهتها، ذكرت منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية في تقرير حديث لها، أن محنة النازحين في كسلا هي مثال معبر عن الأزمة الإنسانية الأوسع نطاقاً في السودان الناتجة عن النزاع الوحشي المستمر، إذ يعاني الناس خسائر بشرية كبيرة وفقدان سبل العيش وانعدام الأمن الغذائي. وكانت المنظمة خططت لبرنامج مدته 10 أسابيع لتقديم مساعدات طبية وإنسانية لحالة الطوارئ الحادة، لكنه انتهى منذ 10 مارس الماضي.

وتقول عضوة محامو الطوارئ، رحاب مبارك: إن “حكومة ولاية كسلا لا تملك أي حق في منع النازحين من دخول المدينة خاصة وأنهم قادمون من مناطق بها نزاع مسلح، كما لا تملك الحق في توزيع الفارين من القتال حسب رغبتها وفهما، فالنازحون يأتون للمناطق التي بها أمن وخدمات، بالإضافة إلى أن غالبيتهم يأتون إلى أقاربهم ومعارفهم في كسلا”.

وتشير مبارك في مقابلة مع (عاين) إلى أن خشم القربة وحلفا الجديد وغيرها من المناطق لم تكن أماكن مناسبة للنازحين الذين يحتاج معظمهم إلى المشافي والأدوية وغيرها من الخدمات.

وبحسب رحاب، فإن ما تم يأتي في سياق الحملة التي يشنها ولاة الولايات الآمنة على المواطنين، إذ فرضت حالة الطوارئ، وتم تضييق على المدنيين، ومنعهم من التحدث في الشأن العام.