“إفلات وانتقام”.. الإسلاميون يحكمون قبضتهم على القطاع العدلي بالسودان
عاين-10 سبتمبر 2025
تعينات تلو الأخرى يجريها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في أجهزة الدولة تحت ظلام الحرب، تحمل باستمرار عناصر تنتمي للتيار الإسلامي، إلى مفاصل السلطة مجدداً، وتجلت ملامح ذلك في القطاع العدلي والقضائي الذي أصبح بالكامل في قبضة تنظيم الحركة الإسلامية؛ نظرا لخلفيات الشخيصات التي أسندت لها المناصب العدلية.
عملية إعادة تمكين الحركة الإسلامية في القطاع العدلي والقضائي، بدأت مع انقلاب البرهان على الحكومة الانتقالية قبل نحو 4 سنوات، بإعادة جميع المفصولين بقرارات لجنة إزالة التمكين، إلى السلطة القضائية والنيابة العامة، بجانب اعتماد نائب رئيس القضاء في عهد الرئيس المخلوع، عبد العزيز فتح الرحمن، رئيسا للقضاء، تلك الحلقات اكتملت مؤخرا بتعيين وزير للعدل ونائب عام ورئيس للمحكمة الدستورية، متهمين بالانتماء لحزب المؤتمر الوطني.

وأثار تعيين انتصار عبد العال في منصب النائب العام، جدل واسع في أوساط القانونيين والحقوقيين في السودان، فهي كانت ضمن المفصولين بقرارات من لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة التمكين التي نشأت بموجب قانون في فترة الحكومة الانتقالية، وذلك بعد ثبوت عملها في النيابة العام بموجب الولاء السياسي للحركة الإسلامية، وفق ما نقله مصدر في اللجنة السابقة لـ(عاين)، وأُعِيدَت مع آخرين بعد انقلاب البرهان.
أصبح القطاع العدلي والقضائي في قبضة المؤتمر الوطني، ضمن مخطط يهدف إلى إفلات قادته المجرمين من العقاب، والانتقام من الفاعلين المدنيين
خبير قانوني
ولم يتوقف الجدل عند عبد العال، بل امتد إلى الدكتور وهبي محمد مختار الذي جرى تعيينه رئيسا للمحكمة الدستورية، وهو نفسه الذي عينه الرئيس المخلوع عمر البشير في المنصب عام 2014، مما عزز صلته القوية بالنظام البائد، وهو جاء ليواصل نفس دوره السابق في تسخير المحكمة لخدمة نظام المؤتمر الوطني، وفق ما يقوله الخبير القانوني معز حضرة لـ(عاين).
ويشير إلى أن المحكمة الدستورية منذ تأسيسها في 1998 وحتى عهد وهبي السابق تتمتع بسمعة سيئة، ولم تصدر أي قرار لدعم الحريات، بل كانت تؤيد الأحكام والممارسات البشعة لنظام المؤتمر الوطني، بما في ذلك التعذيب الذي أفتت في السابق بمشروعيته، وأن له ركنا في الإسلام، ولا يتوقع منها بخلاف ذلك.
تعيين باطل
تعيين المحكمة الدستورية نفسه غير قانوني بحسب حضرة، فهي يفترض أن تُشكل بواسطة مجلس القضاء العالي الذي لم ينتخب أصلاً، واستند البرهان في قراره على مفوضية الخدمة القضائية، وهي جسم غير قانوني، ويمثل أحد واجهات النظام البائد، كما أن البلاد ليست بها دستور لحمايته، مما يجعل الحاجة للمحكمة الدستورية منتفية.

وقبل ذلك، عين رئيس الوزراء كامل إدريس، عبد الله محمد درف، وزيرا للعدل، وهو قيادي بارز في حزب المؤتمر الوطني، ووزير صحة في ولاية كسلا عام 2012، وكان عضواً في اللجنة العليا لإعادة ترشيح عمر البشير لدورة رئاسية ثالثة خلال انتخابات كان مقرراً إجراؤها في العام 2020 قبل أن يسقط بثورة شعبية.
وبحسب حضرة، تأتي السيطرة على القطاع العدلي من قبل الحركة الإسلامية ضمن مخطط للانتقام من القوى المدنية والثورية الفاعلة، وتمكنين منسوبيهم من الإفلات من العقاب، وقد تم بالفعل إطلاق سراح جميع عناصر النظام البائد بما فيهم الرئيس المخلوع عمر البشير وبكري حسن صالح وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون، و28 من أفراد جهاز الأمن مدانين بمقتل المعلم أحمد الخير تحت التعذيب، لكنه يرى أن الجرائم التي ارتكبوها، هي جرائم ضد الإنسانية، ولا تسقط بالتقادم، وسيطالهم العقاب مستقبلاً.
وتقول عضو المكتب التنفيذي لمحامي الطوارئ في السودان، رحاب مبارك إن عودة نظام المؤتمر الوطني، بدأت بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على حكومة الثورة في 25 أكتوبر 2021، ووقتها أعاد رئيس دائرة الاستئناف في المحكمة العليا محمد علي أبو سبيحة، جميع القضاة المفصولين بقرارات لجنة إزالة التمكين بعد ثبوت تعيينهم بالولاء السياسي لنظام الكيزان.
واستمرت عملية إعادة تمكين نظام المؤتمر الوطني في القطاع القضائي والعدلي خلال فترة الحرب، ليُعَيَّن انتصار عبد العال، نائب عام في السودان بعدما تم فصلها في وقت سابق بقرار من لجنة إزالة التمكين، وعودة وهبي محمد مختار إلى منصب رئيس المحكمة الدستورية الذي كان يشغله في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، دون سن قانون لها، والإبقاء على عبد العزيز فتح الرحمن رئيساً للقضاء، وهو يواصل دوره في تمكين السلطة القضائية لصالح المؤتمر الوطني، وفق رحاب.
سودان بلا عدالة
خطورة سيطرة المؤتمر الوطني المحلول على القضاء في جعل السودان بلا نظام عدلي، وإفلات المجرمين من العقاب مع استمرار المظالم
عضو بمحامي الطوارئ
وتشير رحاب مبارك إلى أن تمكين حزب المؤتمر الوطني، تكمن خطورته في أنه يجعل البلاد بلا نظام عدلي وقضائي، مما يتيح لكافة المتهمين بارتكاب جرائم في حق الشعب السوداني، في دارفور ووسط السودان خلال 30 عاماً من حكمهم، الإفلات من العقاب، وقد خرجوا جميعا من السجون، كما لن يتم تسليم المطلوبين إلى محكمة الجنايات الدولية في ظل النظام القائم.
وتضيف لـ(عاين): “كل المعادين إلى الخدمة في الأجهزة العدلية، أسندت لهم مهمتين، هما: دعم استمرار الحرب، والانتقام من الفاعلين في المجتمع المدني والخصوم السياسيين بفتح بلاغات جنائية كيدية بتهم التعاون مع قوات الدعم السريع وغيرها، وإصدار أحكام مشددة عليهم وصلت الإعدام والسجن المؤبد، بغرض إخراس الأصوات المنادية بوقف القتال وعودة الحكم المدني الديمقراطي”.
وبرزت ملامح التمكين الجديد للحركة الإسلامية في القطاع العدلي، في الممارسة العدلية والقضائية الحالية، إذ تشكلت أجهزة عسكرية مثل الخلية الأمنية بسلطات مطلقة في الاعتقال والاحتجاز والتفتيش، بجانب صدور مئات الأحكام بالإعدام والسجن المؤبد في مناطق سيطرة الجيش، يعتقد قانونين أنها تفتقد للأساس القانوني.
وتقول مبارك: “هذه أحكام جائرة وظالمة، لأنها تمسك بالضعيف وتترك القوي، فالمحاكم تشاهد أبو عاقلة كيكل وإبراهيم بقال وغيرهم، لكنها تحاكم أشخاص بسطاء، فالقرار ليس في يد القضاء، وإنما بيد السلطة التنفيذية للعسكر وكتائب البراء بن مالك، فقائدها المصباح أبو زيد طلحة هو الذي يقرر من يُعفى، ومن هو مجرم، فهناك آلاف المدنيين يقبعون في السجون بمدني وبورتسودان، والمناقل، بدافع الانتقام”.
عدالة انتقائية
من جهته، يشير الخبير القانوني معز حضرة، إلى أن الخلية الأمنية جسم غير قانوني، ويضم مجموعة من الإسلاميين يمارسون الانتقام من الفاعلين في الحراك الثوري، وللمفارقة الشرطة أصبحت تقبض الأشخاص، وتسلمهم إلى الخلية الأمنية، أما الأحكام فيهي باطلة، وتجسد واقع العدالة الانتقائية الذي تعيشه البلاد، نتيجة سيطرة النظام البائد على القطاع القضائي والعدلي.
وقال لـ(عاين): إن “الجبهة الإسلامية منذ استيلائها على السلطة بانقلاب عسكري في يونيو 1989 عملت على إحلال عناصرها في الأجهزة العدلية، نيابة عامة وقضاء ووزارة عدل، فكان الأشخاص والقوانين رهن إشارتها، تُصدر قرارات قضائية عبر الهاتف، حيث فُصل خيرة أبناء السودان من هذه الأجهزة، فتم هدم النظام العدلي في السودان بصورة لم تحدث في تاريخه حتى في عهد الدكتاتوريات التي سبقته”.

قادت السلطة الانتقالية محاولات جادة للإصلاح، بإصدار قوانين جديدة وإلغاء قوانين سابقة، لكن الفترة الانتقالية كانت قصيرة عاماً و8 أشهر، ظل العسكريون وعبد الفتاح البرهان تحديداً يعرقل قيام تشريعات جديدة تنظم الأجهزة العدلية والشرطية، إلى حين الانقلاب الذي بعده عاد كل عناصر النظام السابق إلى السلطة القضائية والنيابة والشرطة إلى عملهم، وسيطروا عليها تماماً، وفق حضرة.
وأضاف:”تلك الوضعية جعلت البرهان مسيطراً على كل السلطات التنفيذية والقضائية والتشريع وغيره، وهي سلطات لم تتوفر إلى الرئيس المخلوع عمر البشير، وفاق حتى فرعون، وكل ذلك بأمر المؤتمر الوطني، فقد أصبح يعين رئيس القضاء والنائب العام، وهو لا يملك هذا الحق وفق الوثيقة الدستورية، ويعين وزير العدل”.
وتابع “كل الذين عادوا وعُيِّنُوا في مناصب عدلية بعد انقلاب البرهان، هم مؤتمر وطني، والغرض من ذلك هو الانتقام من رموز الثورة ببلاغات كيدية، وتمكين عناصر النظام السابق من الإفلات من العقاب، حيث تم إطلاق سراح جميع المسجونين بما في ذلك الرئيس المخلوع عمر البشير وبكري حسن صالح وعبد الرحيم محمد حسين وغيرهم، لكن سيكون إفلات مؤقتاً؛ لأن الجرائم التي ارتكبوها هي جرائم ضد الإنسانية ولا تسقط بالتقادم، وسيحاكمون متى ما جاءت دولة سيادة حكم القانون”.
أحلام مؤجلة
سنشهد واقعاً أكثر ظلاماً في ملف العدالة، وسترتفع المظالم بعد إعادة الإسلاميين السيطرة على الأجهزة العدلية والقضائية
حقوقي
وبدت المخاوف أكبر عند ريس المجموعة السودانية لأنهاء الإفلات من العقاب، عثمان علي جامع، من واقع أكثر ظلاماً في ملف العدالة للضحايا في السودان، بل ستزداد المظالم، قد برز مؤشرات ذلك مع عودة رموز النظام السابق للسيطرة على القطاع القضائي والعدلي.
ويقول جامع في مقابلة مع (عاين): “النظام السابق كان مُمكنا بشكل كامل في الأجهزة العدلية، سلمنا مذكرة قانونية خلال الفترة الانتقالية للمحكمة الدستورية التي كانت مشكلة وقتها، تدعو إلى إلزام حكومة السودان بتسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية، لكن جميع قضاتها وهم كيزان، أبدوا رفضاً مبدئياً للمذكرة، وقبل الفصل النهائي فيها تقدموا باستقالات جماعية، وأخلوا مبنى المحكمة الدستورية”.
ويضيف “في الدول المتقدمة، حتى لو كان الشخص في الأجهزة العدلية له انتماء حزبي، يكون ملتزماً بمهنيته، فعناصر حزب المؤتمر الوطني كانوا موجودين في قطاع العدالة، لكنهم عادوا الآن بشكل علني وصارخ وجديد”.
وتابع: “ما يحدث الآن من ممارسة قضائية، سواء كان أحكام أو اعتقال، هي مجرد بلطجة ليست لها صلة بالقانون الذي في الأساس لا يطبق بانتقائية، فقد صُنِّف المواطنون على أساس اللون والمكان الجغرافي والتمييز مثلما حدث مع سكان الكنابي وغيرهم، وهذا يعكس عدم وجود دولة، فجميع السلطات تأتمر بأمر الجيش، قادة الجيش نفسهم والفصائل المتحالفة معهم، يقودون الدولة بشكل انتقامي”.
عودة نظام الحركة الإسلامية للسيطرة على القطاع العدلي والقضائي، بعد سنوات قليلة من إزالتهم من الحكم بثورة شعبية، يؤجل أحلام ملايين الضحايا في العدالة، في وقت تتواصل المظالم بحق المدنيين، بعضها ترتكبه المحاكم نفسها التي يفترض أن تكون ساحاتها بقاعاً آمنة لرد الحقوق، وهو ما تعززه مئات الأحكام بالإعدام والسجن المؤبد بحق مواطنين، أجمع قانيون على فقدانها للأساس القانوني والعدلي السليم، وهي مؤشرات تقود إلى عقود الظلام في البلاد، تحت رصاص الحرب.