السودان..طريق شائك لتحقيق العدالة الانتقالية
عاين – 9 سبتمبر 2020
تصاحب مطالبات تحقيق العدالة الانتقالية في السودان مخاوف في طريق الوصول إلى اجهزة حكومية قادرة على تحقيق العدالة عبر نظام قضائي مستقل وغيره من آليات تنفيذ القانون. والانتقال الذي يمر به السودان من حالة الحرب إلى السلام ومن الحكم الشمولي إلى رحاب الديمقراطية، يتطلب تحقيق العدالة التي تعترف بالجرائم التي ارتكبت ضد ضحايا الحروب والمظالم التي وقعت عليهم. وفي البال العديد من الدول الافريقية التي قدمت نموذج عن مفهوم العدالة الانتقالية في بلدانها، مثل دولة جنوب أفريقيا بعد زوال الفصل العنصري، وكذلك الابادة الجماعية في دولة رواندا.
بعض تعاريف العدالة الانتقالية تشير إلى مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر واشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات. بحسب بعض الدراسات، تختلف أهداف العدالة الانتقالية، باختلاف السياق، الا أنه توجد سمات ثابتة، وهي الاعتراف بكرامة الافراد، الانصاف، والاعتراف بالانتهاكات، والعمل على منع تكرارها مرة اخرى. بجانب إنشاء مؤسسات خاضعة للمساءلة واستعادة الثقة في تلك المؤسسات، وجعل الوصول إلى العدالة ممكنا للفئات الأكثر ضعفا في المجتمع أعقاب الانتهاكات.
تحديات
ويجمل القانوني السوداني، عبد الباسط الحاج تحديات تحقيق العدالة الانتقالية بالبلاد في اعادة تأهيل الاجهزة العدلية للدولة وتعديل القوانين والدساتير كي تكون متماشية مع مسار التحول الديمقراطي في السودان، لان الهندسة التشريعية في السودان كانت قائمة على مزاج الدولة الاستبدادية القمعية. ويقول لـ(عاين)، “لا مناص من معالجة هذا الإرث بكل الاجراءات اللازمة لبناء الثقة في نفوس الضحايا”.
ومن بين ما يراه الحاج تحديا أيضا، هو ذو علاقة بطبيعة الدولة، وآخر مجتمعي. مشددا على ضرورة اتساق النظرية مع الارادة السياسية العامة للسلطة الانتقالية لمواجهة التحديات والعقبات، بجانب إفلات الجناة من العقاب، وتمتعهم بالقوة التي تمكنهم من حماية أنفسهم من العقاب والحيلولة دون تنفيذ العدالة، يذكر عقبة أخرى تتعلق باعادة تفكيك المؤسسات الأمنية المتورطة بشكل رسمي في الانتهاكات التي وقعت على الضحايا، باعتبار أن العنف كان يحمل صفة الدولة الرسمية، لأنه عنف هيكلي وتأهيلها حتى لا تتكرر مثل هذه الممارسات في المستقبل.
ويشير عبد الباسط، إلى أن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم على محاولة نقل مجتمع الصراع من حالة الحرب إلى حالة السلام والاستقرار، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، وحكم القانون، وكذلك تحقيق العدالة للضحايا، ثم استرداد حقوقهم بمحاسبة الجناة، عبر وسائل مختلفة منها قضائية وغير قضائية، ولابد لذلك ان يقوم على أربعة أركان هي الحقيقة والعدالة وجبر الضرر والمصالحة، هي تسير وفق الترتيب العملي للعدالة الانتقالية بشكل مترابط,
ولان تطبيق العدالة في السودان يتحقق عبر المسار القضائي، يطالب عبد الباسط بتحسين كفاءة القضاة فنيا، وموضوعيا حيث يكون الجهاز القضائي محل ثقة لدى الضحايا، أما الشق غير القضائي يتخذ مسارات عديدة، تهدف إلى تحقيق العدالة للضحايا، منها جبر الضرر والتعويضات الفردية والجماعية، واسترداد الحقوق العينية المنهوبة، الأراضي المستولى عليها، وايضا تأهيل الضحايا اجتماعيا ونفسيا وتخليد ذكرى المجازر واعادة تسمية الاماكن العامة واقامة المتاحف.
ويطالب عبدالباسط كذلك يان تقوم العدالة الانتقالية في السودان على هدف جوهري هو اعادة صياغة القواعد الاجتماعية والسياسية، وايضا تعريف العلاقة بين المجتمع والدولة، حيث يكون أساسها التعايش السلمي بين المجتمعات المتعددة من جانب، وأن تلتزم الدولة بواجبها الدستوري والقانوني من جانب آخر يقود الى بناء الثقة بين المجتمع والدولة.
مخاطبة المظالم والمحاسبة
الباحث في السلام الاجتماعي عبدالله حلة، ان يكون هناك إطار قانوني ودستوري حتى تسير عملية تحقيق العدالة بصورة سلسة، بعد أي اتفاق السلام، وكذلك اتفاقية السلام الحالية لا تريد الخوض في قضايا السودان المعقدة، وينصح الحكومة أن تهيء الإطار القانوني الذي يساعد في الدخول الى هذه العملية، ويقول عبدالله لـ(عاين)، “يجب ان يحدث ترميم حقيقي للاجهزة العدلية في البلاد حتي تستطيع القيام بواجبها”، يعطي مثالا لذلك، “حتى لجنة فض الاعتصام تقاعست بالخروج بنتائج حقيقية للرأي العام، وتقديم من ارتكبوا الجريمة للمحاكمة”.
ويوضح عبدالله، أن قضية السلام وتحقيق العدالة تسيران في اتجاهين معاكسين، باعتبار أن العدالة لها صلة وثيقة بمخاطبة المظالم ومحاسبة مرتكبي الجرائم، ربما في حالة الإصرار على تقديم مرتكبي الجرائم إلى المحاكمات، سوف يقوض عملية السلام التي تريدها الاطراف ان تتحقق، ان تحقيق العدالة الانتقالية يتطلب أولا الاعتراف والاعتذار للمظالم التي وقعت على الضحايا في مناطق الحروب والنزاعات، ثم القيام بالتعويض، كذلك معرفة الأسباب التي قادت الى هذه الجرائم.
يشير عبدالله الى خطوة مهمة قامت بها حكومة الفترة الانتقالية حيث اعترفت بمجزرة ضباط رمضان التي حدثت في عهد النظام السابق، ويضيف ما حدث في دارفور من تهجير قسري، وصراع قبائل في ما بينها، يوضح مثل هذه الأوضاع تحتاج إجراءات قانونية مع استصحاب العرف التقليدي في هذه المناطق، أن تشارك كل المجتمعات في عملية انجاز وتحقيق العدالة، ويكرر يجب الاعتراف بالذي حدث، ولماذا تصرفت الأطراف التي ساندت الحكومة على ذلك النحو؟، ويجب ان يكون هناك اعتذار، ثم الدولة تقدم الجهة التي ارتكبت الجرائم.
إجراء محاكمات عادلة
الكاتب المتخصص في الشؤون الافريقية، رمضان احمد بريمة، يقول، أن “العدالة الانتقالية هي حزمة من الترتيبات تشمل الشق القانوني، الاجتماعي، النفسي والمالي، وايضا تحديد الظلم كممارسة وليس كأفراد أو جماعات، ويقصد بترتيبات العدالة الانتقالية امتصاص الغضب الناجم عن الظلم الذي ربما لو سمح له بالتعبير عن نفسه قد يسبب اضرارا بالغة من ناحية، وايضا العمل على تهيئة النفوس والارتقاء بها نحو الوضع النموذجي الذي يتطلع إليه المجتمع بكل شرائحه، وان الشق القانوني في العدالة الانتقالية ينطوي على اجراء محاكمات عادلة لكل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان، وفي السطو على المال العام أو ارتكب جريمة من أي نوع”.
وفي ظل ذلك، يطالب رمضان، بمحاكمة المتورطين في جرائم انتهاكات حقوق الإنسان علانية وبشفافية، وأن تتوفر فيها الشروط الضرورية وفق ما نصت عليه المعاهدات الدولية. ويقول رمضان لـ(عاين)، “بدون محاكمات سوف يلجأ الأفراد إلى أخذ حقوقهم بأنفسهم بالطرق الخاصة، ويكون ضحاياها أبرياء آخرون”. ويعطي رمضان، نموذجا لتحقيق العدالة الانتقالية، أن دولة جنوب افريقيا جرت محاكمات علنية لانهاء الفصل العنصري، وشكلت محكمة خاصة للنظر في التظلمات بحيث كل من صودرت ممتلكاته ويملك مستندات تفيد ملكيته اعيدت اليه، وكذلك شكلت لجنة الحقيقة والمصالحة، تهدف إلى إجراء مصالحة مجتمعية لازالة الغبن، اما دولة رواندا أنشأت محكمة دولية للبت في جرائم الابادة الجماعية وكان مقرها اروشا بدولة تنزانيا.
يتطرق رمضان، في ذات الوقت إلى الشق الاجتماعي في العدالة الانتقالية، يسميه’’ التمييز الإيجابي‘‘ يقصد به ردم الفجوة التي حدثت نتيجة سياسات النظام السابق، يعطي مثالا التوظيف في عقودات العمل، ان تكون الاولوية للمجتمعات التي وقع عليها الظلم، يعرف رمضان ذلك بالتهميش بحيث مناطق بعينها لا يحس سكانها بأنهم جزء من الدولة، لأنهم لا يرون أنفسهم في واجهاتها، اضف الى ذلك التهميش في الوظائف الحكومية، يشعر ذوي البشرة الافريقية الداكنة أنهم محرومون حتى من الظهور في التلفزيون الرسمي كمذيعين أو مقدمي برامج، يؤكد ان التمييز الايجابي يعالج هذه المشكلة، يطالب بتطبيق سياسة سكانية تشترط إظهار كل السحنات التي تمثل شرائح المجتمع في واجهة يظهر فيها أكثر من وجه. يشير إلى السياسة السكانية التي طبقتها جنوب افريقيا في هذا الشأن تفرض توازنا في إبراز الوجوه التي تشكل جنوب أفريقيا هي السود والبيض والملونين، أما دولة رواندا حرمت السؤال عن القبيلة في سياق العمل الرسمي أو بما يوحي يوحي بالتمييز، ويعتبر ذلك جريمة.
حوار مجتمعي شفاف
في هذا السياق يحذر الصحفي والمدافع عن حقوق الإنسان فيصل الباقر، من اتجاه وصفه بـ”الخطير” برزت مؤشراته في الأفق السياسي بوضوح، ويهدف إلى فرض شكل أو نموذج محدد من أشكال ونماذج العدالة الانتقالية في السودان. ويقول الباقر لـ(عاين)، ان “هذا الاتجاه ضار بالمفهوم والنتائج التي سوف تتعرض لها قيم العدالة الانتقالية في السودان، لأنه يريد فرض رؤية مدرسة واحدة من مدارس العدالة الانتقالية المتعددة”.
ويشير إلى أن فرض نموذج محدد للعدالة، فيه ظلم للشعب، ومن حق الشعب أن يرسم طريقه، لتحقيق العدالة الانتقالية ذات الطعم السوداني، ان يطالب ان تكون بنكهة سودانية خالصة، دون وصاية من احد، او جهة بعينها، يرفض الانتماء او الوقوع في فخاخ وتصورات مدرسة حقوقية محددة للعدالة الانتقالية.
ويطالب الباقرـ بفتح حوار مجتمعي حقيقي وشفاف، وأن يكون الحوار والنقاش في الهواء الطلق، ويرفض أن يدور الحوار في دوائر النخب السياسية، من ورش عمل وسمنارات محدودة، التي يغلب عليها الطابع الأكاديمي البحت، يضيف أن العدالة الانتقالية ليست مجرد عملية اكاديمية فقط، بل هي عملية مجتمعية شاملة، ومعقدة. وينصح الباقر ان يشارك فيها الشعب بأكمله، بخاصة الضحايا والناجين والناجيات من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
يوضح الباقر، ان ما يدور في الفترة الانتقالية ’’ ما يحدث – حتّى الآن- لا يُبشّر بخيرٍ كثير، ما لم يتضمّن حزمة من الاجراءات والترتيبات تشمل النظر بعمق فى الجوانب القانونية والاجتماعية والنفسية والمالية، والغور بعمق فى المشكلة، لتحديد المظالم والظلم كـ(ممارسة)، واقامة أساس موضوعى لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الصراع والتهميش، وردم الهوّة السحيقة التي يتوجّب لتحقيقها، وضع “التمييز الايجابى” فى الحسبان، وليس الاكتفاء – فقط – بتسمية الأفراد والجماعات “منتهكين وضحايا”، أو الاكتفاء بعمليات فوقية سطحية، تعمل على وضع بعض المساحيق فوق الجروح، التي تحتاج لتحقيق التعافي، والإبراء جراح الماضى بصورة حقيقية، للوصول للأهداف والغايات المرجوّة‘‘.