السودان: أزمة قضائية.. العدالة على المحك
3 يوليو 2021
مع إستمرار غياب المجلس الأعلى للقضاء في السودان، يزداد الشعور العام بضرورة إكمال هياكل الحكومة الانتقالية التي من أهمها تكوين المجلس الأعلى للقضاء الذي من مهامه إدارة السلطة القضائية وتعيين رئيس القضاء ونوابه وأعضاء المحكمة العليا، كما يجب عليه تعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية.
ونصت الوثيقة الدستورية الحكمة للفترة الانتقالية والتي تم التوقيع عليها في السابع عشر من أغسطس 2019، بين المدنيين والعسكريين على تعيين كل من رئيس القضاء والنائب العام عن طريق المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الاعلى للنيابة على الترتيب.
لكن جرى تعديل الوثيقة الدستورية للسماح لمجلس السيادة الإنتقالي بتعيين كل من رئيس القضاء والنائب العام لحين تشكيل مجلس القضاء العالي، الأمر الذي لم يحدث حتى الآن. وفي العاشر من أكتوبر 2019، اعتمد مجلس السيادة الإنتقالي تسمية نعمات عبد الله رئيسة للقضاء، بعد توافقه مع قوى الحرية والتغيير- التحالف الحاكم.
شرعية ونقيضها
ويقول رئيس اللجنة القانونية لقوى الحرية والتغيير، نبيل أديب لـ (عاين) “أن تعيين رئيسة القضاء بالطريقة التي تم بها في ذلك الوقت لا يُعد خرقاً للوثيقة الدستورية. ويرى أديب، أن إعتماد تعيين رئيس القضاء “الأول” عقب التوقيع على الوثيقة الدستورية تم بواسطة مجلس السيادة الانتقالي بإختيار قوى الحرية والتغيير لعدم وجود مجلس القضاء الأعلي. وبحسب أديب، فأن مُشرعي الوثيقة الدستورية كانوا على علم بأن الحاجة لتعيين رئيس القضاء لا تُمكن من الإنتظار لحين صدور قانون لمجلس القضاء الأعلى، لذا فإن الوثيقة وضعت حُكماً “خاصاً” يقضى بتعيين رئيس القضاء من قبل مجلس السيادة الإنتقالي.
وينتقد عضو اللجنة القانونية للحرية والتغيير، تأخر إصدار قانون مجلس القضاء الأعلى حتى الآن، مُعتبراً أن التأخير في إنشاؤه يُعدُّ فشلاً غير مبرراً، كما يؤثر سَلباً على نجاح السلطة الانتقالية. ويُبين نبيل، بخصوص إقالة رئيسة القضاء السابقة نعمات عبد الله أن مجلس السيادة الانتقالي لا يمتلك السلطة للقيام بذلك، معتبراً أن إقالة رئيسة القضاء على النحو الذي تم أمراً مُخالفاً للدستور و ويعد خرقاً يُهدد استقلالية القضاء.
ويضيف أديب، أن الوثيقة الدستورية لم تحدد آلية لإقالة رئيس القضاء، الأمر الذي يستوجب، في حالة وجود، إخضاعه للمحاسبة أولاً، الأمر الذي لم يحدث في حالة رئيسة القضاء السابقة. وأشار رئيس اللجنة القانونية للحرية والتغيير أن فراغ منصب رئيس القضاء، لا يعتبر فراغاً دستورياً لجهة أن نائب الرئيس يقوم بتصريف أعماله إلى حين تعيين رئيس القضاء الجديد.
وأكد أن الأتجاه السائد لتعيين رئيس القضاء، هو إتباع الطريقة الأولى التي تم بها تعيين رئيس القضاء السابق، لأن طريقة الإقالة غير الدستورية قادت لهذا الوضع غير الدستوري، حسب وصفه. وأوضح أن تعيين رئيس القضاء الجديد سيتم وفقاً لنص غير موجود في الوثيقة الدستورية، بإعتبار أن التعيين كان يجب أن يتم بواسطة المجلس الأعلى للقضاء ليتم اعتماده بواسطة مجلس السيادة الإنتقالي.
مأزق الفراغ
وحول كيفية إختيار رئيس القضاء الجديد يقول أديب: سيتم إختيار رئيس القضاء الجديد بواسطة ترشيحات قوى الحرية والتغيير،كما حدث في السابق، الأمر الذي ينطوي على مخالفة دستورية أيضاً. وفي السابع عشر من مايو الماضي، انعقد الاجتماع الدوري لمجلس السيادة الإنتقالي الذي ترأسه الفريق أول محمد حمدان دقلو نسبة لغياب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي عبد الفتاح البرهان والذي تم بموجبه إعفاء نعمات عبد الله من منصبها كرئيسة للقضاء.
وأوضح الناطق الرسمي بإسم المجلس، محمد الفكي سليمان أن الإعفاء تم بموجب الفصل الرابع من الوثيقة الدستورية والذي يتيح تعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من قبل مجلس القضاء العالي. وبعد مرور ما يُقارب العامين على تكوين الحكومة الانتقالية، لم يُشرع في تكوين مجلس القضاء الاعلى حتى الآن.
وعزا أديب التأخير في تكوين المجلس لعدم أجازة قانونية من قبل “المجلس التشريعي المؤقت” الذي يمثله الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء الانتقاليين، مع إستمرار غياب المجلس التشريعي. وإتهم نبيل السلطات الإنتقالية بعدم قيامها بواجبها في إجازة العديد من القوانين بما في ذلك قانون مجلس القضاء الأعلى، بالرغم من الحاجة الماسة إليه خاصة مع تعطيل إنشاء المجلس التشريعي. ودعا مجلسي السيادة والوزراء لإجازة قانون المجلس حتى يتم تفعيله وتعيين رئيس القضاء بموجبه.
ومنحت الوثيقة الدستورية التي تحكم فترة الإنتقال سلطات المجلس التشريعي إلى الإجتماع المشترك بين مجلس والوزراء إلى حين إنشاء المجلس التشريعي. ويعول السودانيين عقب الإطاحة بنظام البشير على إنشاء نظام عدلي حر ونزيه، يبدأ بإصلاح القضاء وإكمال هياكل السلطة الإنتقالية. فيما يبدي القاضي والمستشار القانوني محمد الحافظ، استغرابه من عدم تكوين المجلس الأعلى للقضاء حتى الآن. وأشار الحافظ إلى وجود الكفاءات القضائية اللازمة لتكوين المجلس داخل السلطة القضائية وخارجها.
أوضاع استثنائية
ومن جهته دعا الأمين العام السابق لهيئة محامي دارفور، الصادق علي حسن، لضرورة الإسراع في إجازة قانون مجلس القضاء الأعلى وتكوينه من أجل إنهاء الأوضاع الاستثنائية في القضاء وكل أجهزة هياكل الدولة. وقال حسن في حديث لــ (عاين):”أن عدم تشكيل مجلس القضاء الأعلى يترتب عليه أوضاعاً إستثنائية، بيها الفراغ الدستوري لعدم تشكيل المحكمة الدستورية الأمر الذي يقود لتعطل التقرير في “الدَعاوَى” الدستورية.
وحذر الصادق من تغول المكون العسكري بالمجلس السيادي الإنتقالي على السلطتين التنفيذية والتشريعية مع غياب إمكانية الطعن في ممارساته الغير قانونية أو الدستورية، مع عدم وجود محكمة دستورية للطعن فيها. وتنص الوثيقة الدستورية التي وضعت جداول زمنية لإكمال هياكل السلطة الانتقالية على تكوين المجلس التشريعي خلال فترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر. وأوضح حسن، أن الوثيقة الدستورية نصت على ممارسة مجلسى السيادة والوزراء للتشريع لمدة 90 يوماً لحين تكوين المجلس التشريعي.
وإعتبر الأمين العام السابق إلى أن الفترة المقررة لممارسة المجلسين التشريع إنتهت لذا فإن إستمرار آلية التشريع من خلال انعقاد المجلسين باطلة. ويرى حسن أن هناك إنحرافاً واضحاً في العملية الإنتقالية الكلية، الأمر الذي يظهره الصراع المحموم بين شركاء الحكم من العسكريين والمدنيين مؤكداً عدم وجود خطط واضحة من قبل أجهزة الحكم الإنتقالية لإكمال هياكل السلطة.
وحذر الأمين العام السابق لهيئة محامي دارفور من التآمر على الثورة وشعاراتها المتصلة بالحرية والسلام والعدالة، مشيراً إلى وجود جهات تعمل إبقاء الحال على ما كان عليه في ظل النظام البائد. كما أكد على أن الأوضاع الحالية قادت لانزلاق القضاء وانحداره الأمر الذي يؤكد إجراء قوى إعلان الحرية والتغيير لترشيح أربعة قضاة محكمة عليا لشغل منصب رئيس القضاء في مهزلة لم يشهدها القضاء السوداني من قبل، حسب وصفه.
وتؤكد الوثيقة الدستورية على أن ولاية القضاء في جمهورية السودان تُسند للسلطة القضائية التي يجب أن تكون مستقلة عن مجلسي السيادة والوزراء والمجلس التشريعي الانتقالي. كما أكدت الوثيقة الدستورية استقلالية مجلس القضاء العالي مالياً وإدارياً وينعقد للسلطة القضائية الاختصاص القضائي عند الفصل في الخصومات وإصدار الأحكام وفقاً للقانون.
التفاف على شعارات الثورة
من جهته يقول عضو التحالف الديمقراطي للمحامين نصر الدين يوسف دفع الله لـ(عاين): “على الرغم من عيوب الوثيقة الدستورية، إلا أنها تضمنت إصلاح وإنشاء الأجهزة العدلية الحقوقية، الأمر الذي يشمل قيام المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية ومجلس القضاء العالي الأمر الذي لم يحدث حتى الآن”. ويرى يوسف أن التغييب المتعمد لكل هذه الأجهزة القصد منه تطبيق الهبوط الناعم على حد تعبيره.
ولفت إلى أن المكون المدني في الحكومة الانتقالية يتحمل المسؤولية جنباً إلى جنب مع المكون العسكري في إرجاء إنشاء مؤسسات مهمة مثل المجلس التشريعي ومجلس القضاء الأعلى والمحكمة الدستورية والعديد من أجهزة الدولة الأخرى. ورأى يوسف، أن الخروج من هذه الأزمة يتمثل في تطبيق الأهداف التي اندلعت من أجلها ثورة ديسمبر المجيدة عن طريق البدء في إصلاح الأجهزة العدلية والحقوقية وإصلاح الكادر المعني وإزالة تمكين النظام القديم من مؤسسات الدولة بما في ذلك الأجهزة ذات الصلة بتحقق العدالة.
ويرى المحامي والناشط الحقوقي معتصم الحاج، في حديث لـ(عاين) أن أحد أسباب عدم إنشاء مجلس القضاء الأعلى المحاصصات بين مكونيّ الحكومة الانتقالية المؤلفة من المدنيين والعسكريين. ورهن الحاج قيام مجلس القضاء العالي بضرورة إصلاح القضاء وكل المنظومة العدلية عن طريق البدء في إقالة منسوبي النظام البائد.
وأكد المحامي والناشط الحقوقي بقوله:” في ظل سيطرة فلول النظام المباد على الأجهزة العدلية لا يمكن الوصول إلى إصلاح هياكل السلطة الإنتقالية. ويرجع العديد من المراقبين السياسيين تغييب أجهزة مهمة مثل المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى، لعدم جدية الحكومة لإكمال هياكل السلطة الإنتقالية.
غياب الإرادة السياسية
ويرى بروفيسور العلوم السياسية بالجامعات السودانية، صلاح الدومة أن غياب الإرادة السياسية هو السبب الرئيسي وراء تغييب وإرجاء إكمال هياكل السلطة الإنتقالية، بما فيها المجلس التشريعي،والمحكمة الدستورية، ومجلس القضاء الأعلى. وفي حديث لـ(عاين) يشير الدومة إلى أن الدولة العميقة ممثلة في بقايا النظام البائد تعمل بجهد للحيلولة دون تحقق الانتقال الديمقراطي.
وأشار الدومة لوجود صراعات نشبت مؤخراً بين طرفي المكون العسكري في مجلس السيادة الإنتقالي. وبحسب الدومة فأن قرار إقالة رئيسة القضاء نعمات عبد الله وقبول استقالة النائب العام تاج السر الحبر جاء نتيجة لهذا الصراع المشار إليه. وأوضح المحلل السياسي أن أحد أطراف المكون العسكري عمل على استغلال غياب رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان واتخذت قرار قبول الاستقالة والإقالة، مما قاد لمزيد من الخلافات بينهما.