المهاجرون السودانيون.. أحلام مُعلَّقةٌ على قوارب الموت
عاين-26 سبتمبر 2025
أرهقه طول الانتظار في منفاه الإجباري في دولة مصر التي وصلها لاجئاً مع أسرته؛ بسبب حرب السودان، بينما تغيب فرص العودة واستئناف حياته السابقة؛ لأن الصراع انتهى من كل شيء، فقرر خوض مغامرة السفر إلى أوروبا، فابتلعه البحر مع أحلامه، لتُكتب نهاية مسيرة الصبي محمد عمر علي، أحد ضحايا القارب الذي غرق في سواحل البحر الأبيض المتوسط في ليبيا.
خلال حادثتين منفصلتين الأسبوع قبل الماضي، مات 100 لاجئ سوداني على الأقل إثر غرق قاربين، كانتا تقلان مهاجرين من دولة ليبيا إلى أوروبا، في مغامرات الهجرة غير القانونية عبر مهربين، وفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومنظمة الهجرة الدولية، وهي فاجعة أثارت تعاطفاً واسعاً.
وخلف رحيل محمد الذي يبلغ من العمر 17 عاماً حالة من الصدمة وسط أسرته، التي طالما حدثها عن أحلامه في الوصول إلى أوروبا لتخفيف آلام اللجوء التي يعيشونها ومساعدتهم على النجاة كذلك، ولم تكن العائلة موافقة على خوضه لهذه المغامرة مليئة المخاطر، لكنها لم تستطع وقف رغبته الجامحة في السفر، وفق ما يرويه جده عن والده، علي العسيلات لـ(عاين).
كان حفيدي يشعر بأنه يشكل عبئاً علينا ونحن لاجئون في مصر، انقطعت دراسته ولم يجد عملاً، فغادرنا رغم رفضنا وهو مثقل بالأحلام
جد أحد ضحايا القارب المنكوب بليبيا
يقول الجد: “كان حفيدي يشعر بأنه يشكل عبئاً علينا في مصر لإحساسه العالي بالمسؤولية، ورغم أنه غير مطالب بتحمل أي تكاليف لأنه طفلنا، لكنه كان يخرج بشكل يومي للبحث عن عمل ولم يجد. أبلغني بقراره الخاص بالسفر، قال لي لا يوجد عمل ولا مدارس، ولا أمل في العودة إلى حياة أفضل في السودان، فغادرنا تحت إصراره وهو مثقل بالأحلام”.
أحلام غارقة
مات محمد عمر ضمن 50 شاباً على الأقل، نتيجة اشتعال النيران في قارب يقل 75 لاجئاً سودانياً قبالة سواحل ليبيا يوم الأحد 14 سبتمبر، وفق ما أعلنته المنظمة الدولية للهجرة. وقالت المنظمة إنها قدمت الدعم الطبي لعدد 24 شخصاً نجوا من الحادث.
وبحسب متابعات (عاين) تحرك هؤلاء الشباب من ساحل البحر الأبيض المتوسط في ليبيا على متن قارب، وكانوا ينون الوصول إلى اليونان في هجرة غير قانونية عبر مهربين، ووصلت أخبار وفاتهم بعد مرور 4 أيام من تحركهم. وعلى مدار الأسبوع الماضي تواصل فرق الإنقاذ الليبية انتشال جثامين الضحايا.
وفي حادثة منفصلة، أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في ليبيا يوم الأربعاء الماضي، عن حادث مأساوي وقع قبالة طبرق يوم السبت 13 سبتمبر الجاري، حيث انقلب قارباً على متنه 74 شخصاً، معظمهم لاجئون سودانيون، ونجا 13 شخصاً فقط والباقي في عداد المفقودين.
في أغسطس الماضي، كان سودانيين ضمن 35 مهاجرا غرق قاربهم في جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، بعدما تحركوا من مدينة الزاوية الليبية، بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة. وهي حوادث مأساوي تتكرر على الدوام، لكنها لا توقف أحلام الشباب السودانيين في الوصول إلى أوروبا.
ولم تكن تلك المخاطر خافية على محمد عمر علي الذي مات في حادث القارب الأخير في ليبيا، وعائلته، لكنه اختار طريق المغامرة منتصرا لرغبته القوية في الوصول إلى أرض الأحلام، بعدما ضاقت به بلاده الملتهبة بنيران الحرب، وملجأه القسري في مصر، وتلاشت آمال العودة إلى الديار واستئناف الحياة، فقد تدمر كل شيء تم بناؤه.

يقول جده علي العسيلات لـ(عاين): “لجانا من منطقتنا العسيلات إلى مصر، كان حفيدي محمد يشعر باستياء شديد، فقد انقطعت دراسته، ولم يكن يرى أي مستقبل أمامه غير المغامرة.. مات هو و9 شباب آخرين من بلدتنا، منهم 5 شباب كلاهم وحيد عند والديه، وهناك مفقودون لا نعرف مصيرهم، إنها فاجعة ومصيبة حلت بنا”.
وأكثر ما يؤلم علي، هو ما وصفه بالغموض الذي صاحب الحادثة حيث تردد استهدافها وهو ما يخالف حق الإنسان في الحياة، مما يتطلب على الحكومة السودانية التواصل مع الجانب الليبي واليوناني، لمعرفة الحقيقة، وذلك من شأنه تخفيف الصدمة والحزن.
مغامرات مستمرة
ودفعت الحرب المستمرة لأكثر من عامين بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان 210 الف شخص للفرار من البلاد إلى دولة ليبيا، وفق حصيلة أصدرتها مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في يناير الماضي، وكانت ليبيا تستضيف آلاف المهجرين السودانيين حتى قبل اندلاع القتال الحالية، وجميعهم يشتكون من أوضاع إنسانية سيئة في ظل شح المساعدات وقلة فرص العمل.
وفي ضواحي العاصمة الليبية طرابلس، استقبل حمد آدم – اسم مستعار لشاب سوداني- أنباء وفاة عشرات السودانيين في حادثة غرق قارب في البحر المتوسط، وعلى الرغم من مأساويتها، إلا أنها لم تؤثر في القرار الذي اتخذه مسبقاً بالسفر إلى أوروبا عن طريق التهريب، فهو خيار وحيد في حياته، ولا يملك غيره.
هناك شباب ماتوا، لكن آخرين وصلوا بسلام وهم دافعي لركوب البحر إلى أوروبا، فلا خيار أمامي غير ذلك، ليبيا سيئة والسودان أسوأ
شباب سوداني بليبيا
ويقول لـ(عاين): “هناك شباب ماتوا في البحر، لكن آخرين وصلوا بسلام وهم دافعي للاستمرار في خطتي للسفر، لن نتراجع مهما كان، لأنه لا يوجد أمل للبقاء في ليبيا، فالوضع سيئ للغاية، نعمل أكثر من 16 ساعة يومياً، وعلى مدار الأسبوع بشكل مستمر أو عطلات، حتى العبادة لا يسمحون لنا بأدائها، ولا تراعي أدنى حقوق الإنسان والعمال، ونتعرض لشتى أنواع الإذلال والإهانة من المخدمين الليبيين، ومع ذلك المقابل المالي قليل، ولا يغطي الاحتياجات، كما توجد مضايقات وابتزاز واسع وغرامات مالية”.
ووصل حمد إلى ليبيا لاستخدامها كمعبر إلى أوروبا، ولم يكن يخطط للاستقرار والعمل فيها لعلمه المسبق بالأوضاع المتردية بها، فهو الآن يكافح بشدة من أجل الحصول على مبلغ 6 آلاف دينار ليبياً، قيمة تذكرة التهريب، لكنه يحتاج عاماً كاملاً حتى يتمكن من توفير هذه المبالغ، حسب وصفه.
وتابع “سجل العديد من السودانيين بما في ذلك الأسر لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في ليبيا على أمل مساعدتهم وإعادة توطينهم، لكن الإجراءات بطيئة للغاية، لذلك لم نجد خيار غير المغامرة بالسفر عن طريق التهريب، الكل هنا بما في ذلك العائلات والأطفال يخططون للوصول إلى أوروبا عبر البحر”.
مسارات التهريب
ويجتهد هؤلاء الشباب في جمع هذه المبالغ بعد العمل عدة شهور تحت ظروف غير إنسانية في ليبيا، ودفعها للمهربين، لكن لا توجد أي ضمانات للوصول، فربما يواجهون الغرق نتيجة ركوب قارب متهالك أو تحميله أكثر من طاقته، أو الوقوع في يد خفر السواحل والإعادة من عرض البحر، ومع ذلك تتكرر المحاولات.
سعد أحمد – اسم مستعار، أحد الشباب السودانيين، خاض مغامرة السفر إلى أوروبا مطلع سبتمبر الجاري، لكن خفر السواحل أعاده إلى ليبيا بعدما قطع قاربه مسافة 16 ساعة، وتبقى له ساعتان فقط –أي نحو 50 كيلومتراً- لدخول المياه الدولية والوصول، وذلك بعدما مكث في ليبيا عاماً و7 أشهر قضاها في عمل متواصل لجمع مبالغ تذكرة رحلة التهريب.
يقول سعد لـ(عاين) بعدما طلب تغيير اسمه الحقيقي لدواعي أمنية “بت على وشك الوصول، والعديد من مرافقي في الرحلة ألقوا بجوازات سفرهم أوراقهم الثبوتية في البحر بعدما ضمنوا الوصول، لكن خفر السواحل لحقت بنا وتمت أعادتنا. كانت لحظات محبطة، لقد عدت إلى الصفر، لكني سأعمل مجدداً، وسأجمع المبالغ المطلوبة، وأحاول مرة أخرى، هناك من يحاولون للمرة السابعة، لا مستقبل في ليبيا، ولا أمل في السودان”.
وبحسب مصدر ذي صلة بشبكات التهريب تحدث لـ(عاين)، فإن عمليات التهريب من ليبيا تتم من خلال 3 مسارات، الأول من منطقة طبرق الساحلية، وتتوجه القوارب منها إلى اليونان، وهو مسار أفضل من غيره؛ لأن به درجة أعلى من الضمان، ولا يتسلم المهرب المبلغ إلا بعد وصول الراكب، حيث يتم تسليم الأموال جميعهم عند شخص داخل مدينة طبرق يسمى “الضامن” يردها إلى صاحبتها حال أُعِيد، لكن قيمة التذكرة مضاعفة في هذا المسار عن المسارات الأخرى، وتصل إلى 13 – أربعة عشر ألف دينار ليبي، (نحو 2590 دولاراً أمريكياً).
المسار الثاني وفق المصدر، من العاصمة طرابلس إلى إيطاليا، وهو مسار أقل كلفة مالية، إذ تتراوح قيمة التذكرة للشخص الواحد من خمسة آلاف دينار ليبي – 6 آلاف دينار ليبي، (نحو 1110 دولارات أمريكياً)، لكن المخاطر فيه عالية ونسبة الاحتيال كبيرة، حيث يتعاون المهربون مع خفر السواحل للقبض على المهاجرين غير القانونيين بعد لحظات قليلة من تحركهم، والهدف هو كسب أكبر قدر من الأموال من المنظمات والدول المعنية التي تدفع في كل ضبطية.
أما المسار الثالث، فهو خروج المهاجرين من ليبيا إلى المغرب، ومنها عبور الأسلاك الحدودية إلى إسبانيا، وهو أقل تكلفة حيث يدفع المهاجر مبالغاً إلى مهربين لتوصيله إلى الغابة المجاورة للحدود أو منطقة العبور، لكن المخاطر عالية كذلك، وعند القبص ربما يلقى بالمهاجر في صحراء نائية، قد لا يتمكن من النجاة.
شبكات التهريب
يروي الشاب سعد الذي أعيد من البحر، أن المهربين يتواصلون مع الشباب الراغبين في الهجرة عبر مناديين من نفس جنسياتهم – أي السودانيين يرسل لهم سوداني، والمصريين مصري – بغرض استقطابهم، على أن يتقاضى المندوب مبلغ خمسمئة دينار مقابل كل شخص يستقطبه للهجرة غير الشرعية، وينتشر المناديب في الأسواق والتجمعات عارضين هذه الخدمات في سرية تامة.
ويقول سعد لـ(عاين): “مع قرب موعد الرحلة نُقِلْنَا عبر سيارات صغيرة ليلاً إلى منطقة التركية قرب الشاطئ، ومكثنا هناك ثلاثة أيام دون طعام كاف، مع انعدام مياه الشرب الصالحة. اختاروا أحد منا لديه خبرة لقيادة المركب وآخر دربوه سريعاً على استخدام البوصلة، وفي منتصف الليل، حملنا القارب وانزلناه المياه، وتحركنا على أمل الوصول، لكن أُعِدْنَا، وسنحاول مرة أخرى”.
هشاشة الوضع الأمني في ليبيا وراء تزايد أنشطة الهجرة غير القانونية، والتي يقودها مهربون عاديون بضوء أخضر من بعض التنفيذيين
خبير في الشأن الليبي
ويقول الكاتب المتخصص في الشأن الليبي عبد الستار حتيتة، لـ(عاين): “الوضع الأمني في ليبيا هش للغاية؛ مما ساعد على ارتفاع أنشطة التهريب. عصابات الهجرة غير الشرعية يشترك فيها مهربون عاديون بضوء أخضر من بعض التنفيذيين”.

ويضيف: “السلطات الليبية منقسمة على نفسها. هذا أمر خطير. من الصعب تصور أي جهود لوضع حد للهجرة غير الشرعية في وجود سلطات متعددة ببلد واحد. في ليبيا يتعرض المهاجر غير الشرعي للعسف معه وللعصف به. يبدو في بعض الأحيان – في أعين بعض القائمين على الهجرة غير القانونية – أنه دون البشر، بالتالي تدهور أحواله المعيشية، ويسعى للخلاص بأي شكل، حتى لو اضطر للاستجابة بحشر نفسه في مركب متهالك لعبور البحر المتوسط إلى أوروبا”.
دوافع الهجرة
من جانبها، تقول الخبيرة في شؤون الهجرة د. أميرة أحمد، لـ(عاين): “تستمر مغامرات المهاجرين رغم تكرار حوادث غرق القوارب؛ لأن حاجاتهم إلى الهجرة ما تزال قائمة، فبعد عسكرة الحدود، لجأوا إلى طرق وخيارات بديلة، فما تركوه خلفهم في بلدانهم لا يقل خطورة عن تلك المغامرة مع احتمال الأمل في الضفة الأخرى”.
وتضيف: “الدوافع كبيرة للهجرة بعضها خاص وآخر عام، فالحرب في السودان سبب كاف؛ لأن الناس لا يرون أملاً في العودة. تغامر الأسر والأطفال كذلك. هناك ضعف في كوتة إعادة التوطين حيث يعاد توطين 1% فقط من مجموع اللاجئين في العالم، كذلك حدث تغيير في بعض سياسيات الدول خاصة أمريكا التي كان لديها أكبر حصة لإعادة التوطين، وتقلصت حصص السفر إلى الدراسة وغيرها من البرامج”.
محدودية المسارات الرسمية للهجرة، تدفع اللاجئين إلى خيارات أخرى فيها مخاطر كبيرة تضعهم في مواجهة مع سلطات الحدود
خبيرة في شئون الهجرة
وتابعت أميرة: “محدودية المسارات الرسمية للهجرة، تدفع اللاجئين إلى خيارات أخرى فيها مخاطر كبيرة تضعهم في مواجهة مع سلطات الحدود. بالنسبة للأزمة السودانية كان إعادة التوطين أقل من الأزمات المماثلة السابقة، لأن الحرب اندلعت في الوقت الذي بدأ فيه العالم يتبنى سياسات مضادة للهجرة، وخطاب متطرف كاره للهجرة”.
وترى أن العالم يتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه ما يجري في السودان، نتيجة محاربة الهجرة دون مراعاة لوضعه والدول الأخرى التي تعيش أوضاع مشابه، وتعتمد على الهجرة كمصدر كسب رئيسي، كما لم تعطي الاهتمام الكافي للأزمة الإنسانية في البلاد.