كيف شكَّلت المعتقدات الهندية فضاءها الإجتماعي بالسودان؟

26 مايو 2022

“الهندوس في شرق أفريقيا قوم هادئون ويحبون العيش في عزلة بسبب عقائدهم الدينية” يصف أستاذ الدراسات الشرقية بكامبردج هولينغسورث الهندوس في كتابه الأشهر (آسيويو شرق أفريقيا) “ماكميلان، لندن، 1960”.  هذا التوصيف لا يغادر الدقة، لو تمت مقارنته مع الحالة الراهنة والوجود التاريخي للطوائف الهندية ضمن فضاء التعدد الديني والثقافي للجالية الهندية في السودان من المواليد والمقيمين والعابرين الذين شكَّلوا مجتمع السودانيين ذوي الأصول والمعتقدات من جذور هندية بالعاصمة السودانية، بتقاليدهم وعاداتهم التي حافظوا عليها عبر القرون.

ويقول عميد الجالية الهندية بالسودان بروفيسور أنيل كومار، وهو طبيب إستشاري جراحة، أن تاريخ الوجود الهندي بالسودان يرجع إلى ما قبل العام 1500م، من خلال تاريخ الحركة التجارية بين شواطئ شبه القارة الهندية وسواحل أفريقيا، وشهدت مدن السودان المختلفة طوال سنوات القرن العشرين توالى الهجرات الهندية، مضيفاً بأنهم يتحدرون من ولايات وديانات مختلفة، كـ(كيرالا) التي بها عدد مقدر من المسلمين والمسيحيين، وإشتهرت بأنها مهد الفنيين في الحوسبة والطب والحرفيين المهرة، و(كجرات) التي إشتهرت بالتجارة والديانة الغالبة وسط مهاجريها الهندوسية والسيخية، (البنجاب) الذين يطلقون اللحى ويمتازون بالبنية الجسمانية القوية ويعمل أغلبهم داخل الهند في الجيش والأعمال الشاقة وأغلبهم يعتنقون الإسلام والهندوسية، و(السندَ) التي تتميز بتجارة وفنون المتاحف، ومن من مختلف الولايات الهندية والمعتقدات.

ويشير كومار،  إلى إنعدام تأثير الخلافات الدينية والمذهبية العنيفة التي شهدتها الهند، على التعايش فيما بينهم هنا –في السودان- ويقول لـ(عاين): “خارج الهند جذورنا الهندية هي ما يجمعنا وليس الدين وحتى خلال الأزمات إستمرت علاقات العمل التجاري والعلاقات الإجتماعية بين مختلف أبناء الطوائف الهندية بالسودان”.

كيف شكَّلت المعتقدات الهندية فضاءها الإجتماعي بالسودان؟
النادي الهندي بأمدرمان

تنوع

وتتوزع داخل الديانات الهندية مجموعة من الطوائف والمذاهب، كالهندوسية وهي ديانة قديمة تتمحور حول عبادة “البراهما” ومبينة على نظام طبقي صارم، معتنقيها نباتيون لا يتناولون اللحوم مطلقاً. والديانة السيخية، التي ترجع لجذور صوفية وهي طائفة مسلحة نظامية، والديانة الاسلامية التي يتوزع معتنقوها على مذاهب أهل السنة، الشيعية، الحنفية، الشافعية، والأحمدية والقاديانية لا سيما بولاية (البنجاب). ويتبع كثير من الهنود المسيحيون كنيسة الكاثوليك الرومان وأغلبهم تعود جذوره إلى ولاية (غوا).

ويذخر النسيج الهندي بالسودان، بمجموعة من المناسبات الدينية المتنوعة، كأعياد الفطر والأضحى للمسلمين والميلاد للطوائف المسيحية، نجد إضافة لذلك؛ أعياد “النيروز” و”غدير خم” لدى الهنود الشيعة، وأعياد “ديوالي” و”رام تومي” وعيد الرباط المقدس “رجها بندهن” لدى الهنود الهندوس. كما تتشارك أغلب المجموعات ذات الطقوس في الزواج كطواف العروسين حول النار المقدسة أو عادة وقوف العروس على حجر.

وبضم “النادي الهندي” بأم درمان انشطة الجالية -بحسب كومار- وهو مفتوح لجميع الهنود لإقامة مناسباتهم الدينية والإجتماعية، بحرية تامة وبدون تدخل من أي جهة، وأضاف بأن النادي الهندي قد مُنح كهدية من السودان للجالية الهندية على شرف زيارة نائب الرئيس الهندي ذاكر حسين في العام 1963، وتم تخصيص قطعة أرض للنادي في أم درمان لكثافة الوجود الهندي بها بالقرب من مبنى الإذاعة والتلفزيون شيد عليها مبنى النادي، وعقب الانقلاب العسكري في يونيو 1989 تم نزع مبنى النادي لأسباب أمنية، وتم منح الجالية قطعة أرض بديلة أقيم عليها النادي بموقعه الحالي بأم درمان.

وقد أثرت ظروف السودان الاقتصادية والسياسية خلال العقود الأخيرة، في تناقص تعداد الجالية الهندية حيث صارت لا تتجاوز حاجز (1400) نسمة، كما يقول أنيل كومار، متابعاً بأن أغلب الشباب صاروا يفضلون الهجرة من السودان، فيما تتمسك الأجيال الأكبر سناً بالبقاء بالسودان، وأشار  إلى أن مجموعة من الهنود المقيمين بالسودان صارت تلجأ نظراً لقلة أعداد الفتيات الهنديات إلى استجلاب زوجات من الهند، فيما تذخر العلاقات الهندية السودانية، بالهند وبالسودان، بأعداد مقدرة من الزيجات المختلطة، وتكوين عدد من الأسر المشتركة نتجت عنها أجيال يافعة من البنون والبنات الهنود-سودانيين، بإختلاف المرجعيات العقدية.

 كما لفت كومار ، إلى أن الديانات الهندوسية تحرِّم زواج الأقارب من أبناء العمومة والخؤولة وحتى الأقارب من الدرجة الثالثة، بجانب ما أثبته الطب الحديث عن أثر زواج الأقارب في الأمراض المتوارثة، وهو ما يراه من أكبر دوافع وأسباب اللجوء للزواج من الهند، وأشار إلى الهنود المسلمين أيضاً يبتعدون عن زواج الأقارب لقوة التأثير الثقافي والإجتماعي للديانات القديمة والتي أصبحت في حكم العرف الثقافي المهيمن. مضيفاً بأن جميع مراسم وطقوس الزيجات الهندية على تباين المعتقدات تُقام بالنادي الهندي بأم درمان، بحرية تامة ودون تمييز.

ومثلما عطَّل إنقلاب 25 نوفمبر الكثير من مشاريع الفترة الإنتقالية، إلى أجل آخر، قال أنيل كومار أن الجالية عكفت على تطوير مشروع فتح مدرسة الجالية الهندية (المدرسة الهندية بأم درمان) لتكون مدرسة هندية- سودانية، تقدم خدمات التعليم للأطفال والتلاميذ الهنود والسودانيين باللغات الهندية والعربية والإنجليزية. وأضاف بأن الملف مطروح على وزارة التربية والتعليم بغرض التنفيذ.

وأشار كومار إلى أن المحرقة الهندية الكائنة بغرب أم درمان، محرقة تعد من المحارق التقليدية التي تستخدم فيها الأخشاب، وتتكون مبانيها من فناء كبير بداخله غرفة الحرق الجنائزية، وهي مصادق عليها من كافة الوزارات والإدارات الرسمية المختصة، وقد أدى تطور المدينة العمراني إلى إحاطة المحرقة بتواجد سكاني، يقول عنه أنيل كومار أنه مجتمع متفهم ويحترم معتقدات الآخرين وقداسة الموت.

كيف شكَّلت المعتقدات الهندية فضاءها الإجتماعي بالسودان؟
تكريم الرئيس الهندي رام نات كويند رئيس الجالية الهندية بالسودان د انيل كومار

عزلة

وفيما ينفي عميد الجالية الهندية بالسودان د. أنيل كومار صفتي الإنعزالية والإنغلاق عن المجتمع الهندي بالسودان؛ قاطعاً بمواطنيتهم وسودانيتهم بالميلاد، بيد أنَّه يُقرُّ بميل أغلب أفراد الجالية إلى الإبتعاد عن عالم السياسة، وقال: “أغلبهم تجار ورجال أعمال ومستثمرون وفي العالم كله لا يدخل هؤلاء الى عوالم السياسة إلا في حالات نادرة”، ويؤكد بأن هذا الـ”حذر” لم يمنع الهنود مطلقاً من الإنفتاح على الآخرين في المجتمع بالسودان.

 فيما يذهب خبير التراث باليونسكو د. إسماعيل الفحيل، إلى أن الهنود بالسودان يعيشون في عزلة إلى حد كبير، رغم تواجدهم الكبير بمدينة كأم درمان التي تتعايش فيها مجموعة من الأديان كالإسلام والمسيحية وقديماً اليهودية، لفترات تاريخية طويلة، الأمر الذي جعل من الجالية الهندية (والمواطنين السودانيين ذوي الجذور الهندية) جزء أصيل من الثقافة السودانية، رغم العزلة النسبية.

ويدعو  الفحيل الدولة لبذل المزيد من الجهد نحو صيانة التراث غير المادي لا سيما المتعلق بالمعتقدات والطقوس والتقاليد وكافة أشكال التعبير الديني-الفني للمعتقدات الهندية، وأشار إلى إمكانية قدوم المبادرة من الجالية الهندية نفسها بترشيح عناصر للتسجيل بقائمة الحصر الوطنية السودانية (قائمة جرد التراث الوطنية).

بدورها، تشير الباحثة الإنثروبولوجية والنسوية مي عزام، إلى أن الإنغلاق يحرم الآخرين من التعرف على الثقافة ويحد من الإنصهار والتبادل الثقافي، وترى بأن الجالية الهندية منغلقة في مستويات التقارب بين المجموعات ومنفتحة على مستوى مفردات الثقافة الشعبية، في آن واحد.

وترى عزام بأن الهنود بمعتقداتهم المختلفة لا يمثلون تهديداً لأي لمجموعة أخرى –إذا أخذنا مدينة أم درمان، العاصمة الوطنية كمثال- فهي مجتمع مغلق ليس من السهل أن يقبل بالـ”الآخرين” إذا كانوا يمثلون تهديداً للتجانس المتوهَّم، ثقافياً أو دينياً أو عرقياً، وكذلك في حال القبول بالآخرين فإنه يكون مُتحكَّماً به ضمن نسق إجتماعي أخلاقي مُتخيَّل ومسيَّج بعلاقات ومصالح.

 وتشير عزام، إلى شرط مفتاحي لهذه المعادلة يتمثل في حقيقة أن المجموعات الهندية التي وفدت للسودان لم تك تضع “التبشير” على لائحة أولوياتها، بل عكفت على تأمين مقام العيش والتجارة، غير أنَّها شددت على واجب الدولة الأساسي في توفير الإطار القانوني لكل الأفراد، أحراراً ومتساويين على أراضيها للتعبير عن هوياتهم وممارسة شعائر معتقداتهم وأماكن العبادة، والحق في التعليم وفق ثقافتهم.

وهو ما يتطابق مع تأكيد خبير اليونسكو د. الفحيل، على أن السودان ملزم بموجب إتفاقية التراث الثقافي غير المادي 2003، بصون كافة أشكال التراث الثقافي الموجود على أراضيه، موضحاً أن العناصر والممارسات والطقوس وكل ما يدخل تحت تعريف التراث غير المادي بالسودان، كالتراث الهندي شأنه والتراث السوداني الذي قدم من غرب أفريقيا، أثيوبيا، جنوب السودان، مصر، وعناصر التراث الديني والمعتقدات جزء أصيل من هذا التراث الحي، الواجب الحصر والتوثيق والحماية، إبتدءاً.

تم إنتاج هذه القصة بدعم من المركز الدولي للصحفيين ICFJ و Code of Africa