الغلاء يُحاصر السودانيين
23 مارس 2022
“لم تعد الحياة في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية المنهارة ممكنة”. يقول أحمد الفاضل 45 عاماً وهو عامل بإحدى المؤسسات الحكومية وأب لأربعة أطفال لـ(عاين) ويضيف:”راتبي يكاد لا يكفي لأسبوع.. أتقاضى مرتباً زهيداً، واقطن في منزل مستأجر لا احتمل دفع تكلفته الشهرية”.
يمضي الشهر ثقيلاً على هذه الأسرة التي تُعاني لتوفير وجبة واحدة في اليوم، أما إذا مرض أحد أعضاء الأسرة الصغيرة، يقول الفاضل: “ليس لنا إلا الاستدانة للحصول على تكلفة العلاج باهظة الثمن، مشيراً إلى إرتفاع تكلفة مقابلة الطبيب وإرتفاع أسعار الأدوية بشكل غير مسبوق. ويتساءل الفاضل: كيف تريد منا الحكومة الاستمرار في الحياة والراتب الضئيل يتآكل بسبب التضخم الذي تشهده البلاد.
يشهد السودان ضائقة إقتصادية غير مسبوقة، وزادت الحكومة الانقلابية سعر الوقود بشكل متكرر منذ بداية العام الحالي وارتفعت أسعار المواصلات وسط زيادة كبيرة في أسعار المواد الاستهلاكية الضرورية، مع إستمرار إرتفاع أسعار الأدوية والأدوية المنقذة للحياة مع انعدامها في كثير من الأحيان، إضافة إلى زيادة متواترة في أسعار الكهرباء.
في منتصف الشهر الحالي إعترف عضو مجلس السيادة الانقلابي الهادي إدريس بأن البلاد تمر بأزمة سياسية كبيرة أفرزت تداعيات سالبة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
أمام ذلك تبدو الحكومة الانقلابية عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطن، كما تبدو عاجزة عن لجم سباق الأسعار للسلع بما في ذلك الوقود.
بحسب إحصاءات حكومية، سجل معدل التضخم في السودان 258.40% لشهر فبراير الماضي مقارنة بمعدل 259.79 لشهر يناير. وسجل معدل التضخم لشهر يناير لمجموعة الأغذية والمشروبات 143.08% لشهر فبراير مقارنة بمعدل 163.67% لشهر يناير.وبلغ معدل التضخم للمناطق الحضرية 238.32% لشهر فبراير مقارنة بمعدل 244.15 لشهر يناير.
فيما سجل معدل التضخم للمناطق الريفية لشهر فبراير 274.00 مقارنة بمعدل 271.16 لشهر يناير.
انهيار الجنيه.. زيادات الأسعار
مطلع الاسبوع الماضي رفعت حكومة الانقلاب أسعار الوقود للمرة الرابعة في أقل من شهرين حيث تغيرت تسعيرة الوقود بالطلمبات ويباع لتر البنزين بمبلغ 672 جنيها 1.06 دولار تقريباً بدلاً عن 542 جنيه ولتر الجازولين 640 جنيه “نحو دولار واحد”.
كما ارتفع سعر قطعة الخبز بمقدار 10 جنيهات في بعض المخابز وفي الأخرى بمقدار 15 جنيهاً، فيما توقفت المخابز عن بيع الخبز المدعوم قبل فترة طويلة. في وقت بررت المخابز الزيادة الجديدة بإرتفاع تكلفة الانتاج مع شح الغاز.
ظل الجنيه السوداني يتراجع أمام العملات الأجنبية، الأمر الذي خلق إرتباكاً غير مسبوق، وبلغ سعر الدولار في السوق الموازي ما بين 700 -720 جنيهاً .
وإزاء ذلك دخلت الأسواق السودانية في حالة ارتباك كبيرة. ويقول صاحب متجر في شارع الحرية وسط الخرطوم لـ(عاين) أنهم أوقفوا حركة البيع في الأجهزة الإلكترونية بسبب صعوبة التنبؤ بسعر الجنيه مقابل الدولار.
وفي الثامن من مارس الحالي نفذت المصارف التجارية قرار البنك المركزي الذي سمح لها بتحديد أسعار الصرف اليومية الأمر الذي أدى لسرعة إنهيار الجنيه أمام العملات الأجنبية، كما أدى لزيادة معدلات التضخم بشكل أكبر.
مافيا الأدوية
صيدليات بيع الأدوية في العاصمة الخرطوم والولايات تشهد هي الأخرى إرتفاعاً في أسعار الأدوية بما في ذلك الأدوية المنقذة للحياة. ونهاية فبراير الماضي أعلنت الأمانة العامة للمجلس القومي للأدوية والسموم عن زيادة في أسعار تسجيل الأدوية بنسبة 5%، وتم إصدار أمر يطلب من شركات الأدوية الموافقة على ذلك.
في الوقت الذي اعتبرت فيه جمعية حماية المستهلك أن الأمانة العامة للأدوية دورها تخفيض الرسوم وليس زيادتها، يرى رئيسها ياسر ميرغني، أن هناك تحالف خفي بين مافيا الأدوية وبين الانقلابيين، مشيراً إلى أنه لا توجد دولة في الدنيا تعمل على زيادة أسعار تسجيل الدواء بدلاً من المطالبة بتخفيضها، لافتاً إلى أن هذه ظاهرة تعد الأولى من نوعها في العالم.
وبالنسبة لإنعدام بعض الأدوية في الخرطوم العاصمة والولايات، يشير ميرغني في مقابلة مع (عاين)، إلى أن بعض الصيدليات تبيع أدوية مكتوبة بلغة غير الانجليزية _ امتنع عن تسميتها_ في إشارة منه إلى أن بعض الأدوية قد لا تكون مطابقة للمواصفات، مع إحتمال قدم القدرة على قراءتها .
وأشار إلى أن بعض الصيادلة رفضوا إصدار فاتورة لأدوية تم شراؤها منهم، الأمر الذي يعني أنها أدوية غير مسجلة أو مغشوشة أو مهربة، حسب قوله، لافتاً إلى أن من حق المستهلك المطالبة بفاتورة حتى يستطيع تقديم شكوى قانونية إذا أراد والمطالبة بتعويض.
وعاد ميرغني وأشار لوجود تحالف خفي بين ما أسماه بالراسمالية المتوحشة وبين الانقلابيين في كل السلع الأخرى، لافتاً إلى أن ذلك يعزز من فكرة أن إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر تم تنفيذه لدعم الفساد والفاسدين.
غلاء في كل شيء
ونتيجة لارتفاع سعر الوقود زادت تعرفة المواصلات مرة أخرى في كل من الخرطوم العاصمة والولايات بما في ذلك أسعار الرحلات السفرية.
وعلى سبيل المثال بلغت تكلفة الوصول من ضاحية الكلاكلة اللفة جنوبي الخرطوم لمحطة جاكسون وسط الخرطوم 400 جنيها وتكلفة الوصول من منطقة الجرافة بأمدرمان إلى السوق العربي 600 جنيه، وارتفعت تكلفة الوصول للعربي من الصحافة شرق إلى 150 جنيه بدلاً عن مائة جنيه.
وزاد سعر جوال السكر من 18.200 الف الى 25 الف، وزاد سعر زيت الفول(4 أرطال ونصف) من 14 الف إلى 24 الف، وكيلو الفراخ من 1300 إلى 1500، فيما شملت الزيادات بقية السلع الأساسية، ويتوقع تجار تحدثوا لـ(عاين) أن تستمر الزيادة إذا إستمر الطلب على السلع، خاصة مع إقتراب شهر رمضان الكريم.
وبالإضافة لذلك كله ومنذ بداية العام الحالي، ظلت الحكومة السودانية تطبق زيادات جديدة غير معلنة وبشكل متكرر في أسعار الكهرباء للقطاعين التجاري والسكني، الأمر الذي أضاف عبئاً جديداً على المواطنين.
افقار الشعب
وإعتبر المحلل الاقتصادي محمد الناير، أن سوء الأوضاع الاقتصادية في السودان نتيجة لعملية تراكمية، بدأت منذ العهد السابق، مشيراً إلى أن الوضع السئ للاقتصاد استمر في ظل حكومة الفترة الانتقالية في نسختيها الأولى والثانية، لافتاً لاستمرار تراجع الاقتصاد بعد إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي.
ولفت الناير في حديث لـ(عاين) إلى عدم وجود معالجة إقتصادية جذرية في الحقب المشار إليها، موضحاً أن حكومة الفترة الانتقالية إنتهجت سياسة رفع الدعم، مشيراً إلى أن بداية تطبيق سياسة تحرير الأسعار بدأت في العام 1992، موضحاً أنها طُبقت منذ ذلك الوقت بشكلٍ خاطئٍ.
وأضاف أن الحكومة الانتقالية منذ البداية قامت بإنتهاج سياسة رفع الدعم تطبيقاً لسياسة البنك الدولي، الأمر الذي إستمر حتى اليوم. وأشار الناير إلى أن الدولة تمضي في تطبيق هذه السياسات في الوقت الذي لم تستفد فيه من البنك الدولي حتى الآن.
ويرى الناير أن إستمرار تطبيق سياسة البنك الدولي ستؤدي إلى إفقار الشعب السوداني ورفع معدلات الفقر في البلاد، كما سترفع معدلات التضخم على نحوٍ أكبر.
ولفت الناير إلى أن الحكومة زادت أسعار المحروقات بمعدل أربعة مرات في أقل من شهرين ونصف،الأمر الذي يؤثر في عمليات نقل الأفراد والبضائع، كما أن هذه الزيادة ستؤثرعلى مجمل الأوضاع الاقتصادية بصورة كبيرة.
وأكد على أن إرتفاع أسعار السلع في السودان يعود لعدة أسباب من بينها: “التطبيق الخاطئ” لسياسة التحرير الاقتصادي التي تم تطبيقه بصورة مشوهة، إضافة إلى وجود فئة “الوسطاء” الأمر الذي يُلقي عبئاً كبيراً على المنتج والمستهلك. كما أن الدولة عجزت على القضاء عليهم، كما عجزت عن ضبط الأسواق، بالاضافة لعوامل أخرى من بينها تدهور قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
كما أشار لوجود عوامل دولية تتسبب في إرتفاع أسعار السلع مثل الحرب الروسية الأوكرانية التي ستلقي بظلالها على كل دول العالم في ما يتصل بالغذاء والمحروقات.
من جانبه يقول عضو اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير شوقي عزمي، متفقاً مع الناير: إن التراجع الاقتصادي الحالي ليس وليد اللحظة، مشيراً إلى أنه يعود للسياسات الاقتصادية التي تمت منذ النظام السابق، لافتاً إلى أن بعضها يرتبط بالسياسات النقدية المتمثلة في طباعة النقود من أجل محاولة اللحاق بسعر صرف العملات الحرة في السوق الموازي.
يعزي عزمي الأزمة الاقتصادية الحالية بسبب الاستدانة من الجهاز المصرفي والاعتماد في ايرادات الدولة على الضرائب والجمارك دون الإلتفات لموارد البلاد الحقيقية المتمثلة في تحسين بيئة الصادر وتنظيم تجارة الذهب بصورة تمكن من عكس كافة حصائله الي داخل الجهاز المصرفي.
وحقق السودان إكتفاءً ذاتياً بنسبة 50% عندما قام بزراعة جزء يسير من أراضيه الزراعية، أثناء الفترة الانتقالية.ويدعو عزمي إلى توسيع الرقعة الزراعية، مشيراً إلى إمكانية توسعتها بجهد قليل لمضاعفتها وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
“لجأت الدولة في إطار حل المشاكل المترتبة على رفع الدعم وتحرير سعر الصرف الي زيادة مرتبات العاملين في الدولة” يقول عزمي في حديث لـ(عاين).
يعتبر عزمي أنه وعلى الرغم من أن العاملين في الدولة، يمثلون النسبة الأقل بالمقارنة مع بقية العاملين في القطاعات الاقتصادية غير الحكومية نجد انهم يثقلون على ميزانية الدولة.
وفي مايو 2020 أعلنت الحكومة الانتقالية السابقة، عبر وزير ماليتها إبراهيم البدوي عن زيادة كبيرة في في أجور العاملين بالدولة بلغت 569%.
إيرادات الذهب:
وردا على سؤال حول ما المطلوب من أجل السيطرة على الوضع الاقتصادي المنهار يقول عزمي: “إن الحلول موجودة لكنها تتطلب عزماً وارادة من قبل أطراف عديدة في الحكومة”. مشيراً إلى أن الذهب وحده يمكن ان يحقق إيرادات تقدر بمبلغ ستة مليار دولار في السنة.
ويضيف:”كما أن الدولة بإمكانها إنتاج المحاصيل الزراعية بما يفوق الاحتياج الحقيقي للسودان خلال العام، الأمر الذي يُتيح للبنك المركزي بناء إحتياطات تمكنه من التحكم في سعر العملات الحرة، مشيراً إلى أنه “كلما قل الإنتاج ارتفع سعر الصرف وإنعكس ذلك سلباً على أسعار السلع”.