“يتدهور كل ساعة”.. نظام الرعاية الصحية في قلب معارك حرب السودان
عاين- 11 يناير 2024
في السودان، “يموت العديد من المواطنين بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى المرافق الصحية، وهناك وفيات عديدة حدثت خارج المرافق الصحية ولم يتم حصرها”. يقول الطبيب المتطوع في منطقة الكلاكلة، عبد الرحيم محمد. ويضيف في مقابلة مع (عاين) معلقًا على تدمير حرب السودان نظام الرعاية الصحية: “مع استمرار تقلص فرص إمكانية الحصول على العلاج الطبي سيستمر هذا الوضع المزري في التفاقم”.
وبينما تُقدر الأمم المتحدة عدد القتلى بـ(12) ألف شخص حتى ديسمبر من العام الماضي، يشير الطبيب عبد الرحيم محمد، إلى أن معدل الوفيات المذكور أقل بكثير من الرقم الحقيقي، نظرًا لأن الكثير في عداد المفقودين و من يموتون في صمت بسبب نقص العلاج الطبي.
منذ منتصف أبريل، اندلعت حرب على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ويواصل الطرفان المتحاربان استهداف المرافق الطبية والعاملين بها والإمدادات الطبية إلى حد أن مساحات شاسعة من البلاد تفتقر حتى إلى أبسط الخدمات الصحية الأساسية.
“أستطيع أن أقول بصراحة ووضوح أن النظام الصحي انهار تماما. لقد تحطم بالكامل”. يقول عضو نقابة أطباء السودان، أحمد عباس لـ(عاين) ويضيف: “أنه يتدهور كل ساعة”.
في حين أنه من الصعب التأكد بالضبط من عدد المرافق الصحيّة التي ما تزال في الخدمة خلال، إلا أن عضو النقابة يقدّر أن حوالي ٨٠٪ من المستشفيات خارج الخدمة.
وفي ولاية وسط دارفور، قال مدير عام وزارة الصحة أحمد نصرالدين، إن “مستشفيات عاصمة الولاية زالنجي تعمل بأقل من ١٠٪ من طاقتها” ويتابع في مقابلة مع (عاين): أن “أربعة من أصل خمسة مستشفيات رئيسية في الولاية خرجت عن الخدمة بسبب أعمال النهب ورحيل الطواقم الطبية”.
وصول صعب للمستشفيات
إمكانية الوصول للمستشفيات التي لا تزال في الخدمة بالخرطوم، ليست أفضل حالاً. في التاسع من أكتوبر بالعام المنصرم طال القصف مستشفى النوّ؛ أحد المشافي القليلة التي لا تزال تعمل في العاصمة. ووفقاً لبيان صادر عن منظمة أطباء بلا حدود الخيرية، فإن قذيفة أصابت قسم الطوارئ بالمستشفى، مما أدى لمقتل اثنين من مقدمي الرعاية للمرضى، وإصابة خمسة أشخاص. كما انفجرت أربع قذائف أخرى خارج المستشفى مباشرة، مما أودى بحياة شخصين و خلف العديد من الجرحى.
حتى قبل الهجوم، كان المستشفى يعاني من الاكتظاظ ونقص الإمدادات، كما يقول سالم أمين، المتطوع في مستشفى النو. وكان المشفى أحد المرافق الصحية القليلة العاملة المتبقية في المدينة؛ حيث كانت قوات الدعم السريع تمنع الوصول إلى المرافق الأخرى. وقال سالم لـ(عاين): إن “مجرد الوصول إلى موقع المستشفى قد يكون صعباً بالنسبة للعديد من المرضى، مما يضطرهم إلى السفر عبر القتال و من خلال الجنود”.
ويتابع سالم: “الأدوية غير متوفرة على الإطلاق، ولا يوجد في المستشفى سوى صيدلية طوارئ وإمدادات محدودة مثل الشاش و(أدوية) التخدير”، وزاد”نحن نتواصل مع الجمهور عبر وسائل الإعلام ونحثهم على التبرع أو جمع الأموال لشراء هذه المواد الأساسية، حيث أن مخازن الأدوية التابعة لوزارة الصحة فارغة.”
وبالرغم من معاناتهم من قلة الإمكانيات الازمة لعلاج المرضى، يقول المتطوع في مستشفى النو، إنه لا يزال هناك المزيد من المرضى الذين يأتون إلى المستشفى – والعديد منهم مصابون بجروح خطيرة بسبب الاشتباكات والقذائف. كان طاقم المستشفى يحاول تقديم الرعاية لكل مريض، ولكن بدون الإمدادات، لم ينج الكثير منهم.
“كل يوم نقوم بدفن أكثر من عشرة أشخاص بسبب عدم قدرتنا على تقديم المساعدة الطبية”.
هجوم وإستهداف المنشآت الصحية
كان القطاع الصحي في السودان من أوائل ضحايا الحرب، وفقاً لعمر النجيب، وزير الصحة السوداني السابق. والذي قال في مقابلة مع راديو دبنقا: “الجميع يتذكر كيف كانت المرافق الطبية من بين المواقع الأولى التي تم تدميرها، حيث داهمت قوات الدعم السريع المستشفيات والعيادات بينما قصفت القوات الجوية هذه المباني بشكل عشوائي”.
ويتهم الوزير السابق الطرفين المتحاربين باستهداف المستشفيات والمرافق الصحية الأخرى في البلاد عمداً؛ “على سبيل المثال، أدت معركة الجزيرة، وخاصة بالعاصمة ود مدني، إلى الإغلاق القسري لجميع مستشفيات الولاية”.
بعد الانهيار شبه الكامل للقطاع الصحي في الخرطوم، كانت مدينة ود مدني بوسط البلاد الوجهة الوحيدة للمرضى من شتى أنحاء البلاد لتلقي العلاجات المتخصصة مثل جراحة القلب والمخ والأعصاب. على سبيل المثال، قام مرضى السرطان – مثل حسن إبراهيم – برحلة محفوفة بالمخاطر إلى ود مدني لتلقي العلاج قبل ثلاثة أشهر، الا أن الصراع اجتاح المدينة، مما أجبره وشقيقه يوسف على العودة إلى دارفور دون استكمال علاجه.
خلال الأشهر الثمانية الأولى منذ بدء الحرب، هاجمت الأطراف المتحاربة ٦٠ منشأة، مما أسفر عن مقتل ٣٤ من العاملين في المجال الطبي وإصابة ٣٨ آخرين، وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية. وفي ١٩حالة، تظهر البيانات حدوث عملية اختطاف أو اعتقال أو اعتداء أو تفتيش عنيف للعاملين بمجال الرعاية الصحية، وغالبًا ما يكون ذلك مصاحبا لحوادث الاستيلاء على مستشفى أو إزالة الأصول الطبية .
في حالات أخرى، أدى النهب الجماعي للمرافق الصحيّة إلى ترك المرافق الطبية عديمة الفائدة؛ في الفترة من منتصف أبريل إلى أكتوبر من العام الماضي، قدرت منظمة “Insecurity Insight ” الإنسانية المستندة إلى البيانات، وقوع ٥٤ حالة نهب للإمدادات الطبية في جميع أنحاء البلاد. كما أن ثاني أكبر مستودع للإمدادات الطبية في البلاد، ومقره في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، كان قد تعرض للنهب بشهر أبريل، مما أثر بشكل مباشر على مخزون الأدوية في جميع ولايات دارفور الخمس.
ويقول مدير إدارة الأدوية بولاية جنوب دارفور الدكتور محمد محمود، إن الحرب دمرت كميات كبيرة من المخزون الطبي لهيئة الإمدادات الطبي، بالإضافة إلى المخزون الدوائي لمنظمة الصحة العالمية. كما أوضح – في مقابلة مع عاين – إن ندرة الأدوية المتاحة أدت إلى إغلاق المرافق الطبية، وفتحت المجال “لدجاليّ الطب” إلى دخول السوق.
“لقد أصبحت الأدوية تُنقل بطرق عشوائية ويتم تداولها كأي سلعة غذائية أخرى؛ المواطنون وجدوا أنفسهم مجبرين على استخدام أدوية غير خاضعة للمواصفات وتفتقر إلى الحد الأدنى من إجراءات السلامة الطبية.”
عرقلة وصول الخدمات الطبية
حتى عندما تتمكن المستشفيات من الاستمرار في العمل، لا يتمكن العديد من الأشخاص من الوصول إلى المرافق الصحيّة؛ أخبر خالد عثمان* عاين أن والدته المصابة بالسكري كانت بحاجة إلى العلاج في أواخر أبريل، وكانت حالتها الصحية تتأرجح، وظلت تدخل وتخرج من الغيبوبة. حاول عثمان نقلها إلى مستشفى شرق النيل حتى يتمكن من إجراء فحص دم لها والحصول على الأدوية اللازمة لاستقرار حالتها. لكن عند أبواب المستشفى، قام جنود الدعم السريع بسد الطريق.
“قال لي: اذهب، هذا المستشفى لنا. وقال أنه لا يُسمح للمواطنين. حاولت التحدث معه؛ أخبرته أنه لا يوجد مستشفى قريب وأن الطرق مغلقة، وأني لا أستطيع أخذها إلى أي مكان آخر.”، قال خالد، مضيفا أن الجندي طلب منه المغادرة فحسب. “إنهم يمنعون المواطنين بشكل مطلق من دخول المستشفى”.
ومع عدم توفر خيارات طبية أخرى، قال خالد إن والدته توفيت في وقت لاحق من ذلك اليوم. “حاولت إنقاذها لكننا لم نتمكن من ذلك لأن جميع المستشفيات لم يكن من الممكن الوصول إليها.”
في منتصف مايو من العام المنصرم، قصفت القوات الجوية السودانية مستشفى شرق النيل، مما أدى إلى تدمير الأجزاء الداخلية منها بالكامل. وتزامن ذلك مع إغلاق جناح في مستشفى الخرطوم التعليمي و مستشفى الشعب التعليمي بعد تعرضهما لأضرار جراء القصف.
في بعض الحالات، فرضت السلطات التابعة للقوات المسلحة السودانية قيوداً وعراقيل إدارية وبيروقراطية تمنع منظمات الإغاثة الدولية من توسيع عملياتها الحالية أو إطلاق عمليات جديدة. ووفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود، حُظر طاقم الطوارئ الطبي ذو الخبرة من السفر من بورتسودان إلى المناطق ذات الاحتياجات الطبية الأكبر في يونيو. وذكرت منظمة أطباء بلا حدود أن الأطباء في الفريق لم يتمكنوا من علاج أي مرضى.
وصرحت منظمة أطباء بلا حدود أن قوات الدعم السريع فرضت حظراً على نقل الإمدادات الجراحية في المناطق التي تسيطر عليها في العاصمة في سبتمبر الماضي. وتدّعي المنظمة أن الحظر يهدف إلى منع علاج الجرحى من جنود الجيش.
تقول كلير نيكوليت، رئيسة قسم الطوارئ في منظمة أطباء بلا حدود في السودان: “إن الحظر هو تكتيك وحشي من شأنه أن يتسبب على الأرجح في وفاة مئات الأشخاص في الخرطوم خلال الأسابيع المقبلة”.
وفي جميع أنحاء البلاد، تقول المنظمات الإنسانية إن العوائق التي تمنع الوصول للعديد من المناطق تجعل من المستحيل علاج ملايين النازحين المقيمين في المخيمات أو أماكن الإقامة المؤقتة – وغالبًا ما يكون لدى هؤلاء الأشخاص احتياجات عاجلة بعد سفرهم إلى بر الأمان من المناطق المتضررة من النزاع.
وفي ولاية النيل الأبيض، فإن نقص الأدوية الأساسية والموظفين والإمدادات يعيق بشدة الخدمات الصحية في جميع مخيمات اللاجئين العشرة، حيث وصل أكثر من ١٤٤,٠٠٠ لاجئ نازح جديد من الخرطوم منذ بدء النزاع، حسبما أفادت الأمم المتحدة.
يقول جان نيكولاس أرمسترونج دانجيلسر، منسق الطوارئ لمنظمة أطباء بلا حدود في السودان: “يموت الناس بينما ينهار النظام الصحي في البلاد تحت وطأة الاحتياجات المُلّحة الهائلة”.
“من خلال تعريض الناس لمستويات مروّعة من العنف، أو من خلال منع المنظمات الطبية من مساعدتهم، تُظهر الأطراف المتحاربة في السودان تجاهلاً تاماً لحياة المدنيين”.