الحرب تلتهم النظام الصحي في السودان  

عاين- 31 أكتوبر 2024

قلصت الحرب الدائرة في السودان منذ 18 شهرا عدد المستشفيات العاملة في العاصمة الخرطوم من 127 مستشفى في القطاعين العام والخاص إلى أقل من سبعة مستشفيات أغلبها غير منتظمة في العمل بسبب انعدام الممرات الآمنة ونقص الأدوية والتمويل وطاقة التشغيل مثل الكهرباء والمياه، كما أدت إلى انهيار المنظومة الصحية في عدد من الولايات التي امتدت إليها الحرب.

يندب الطبيب الصيدلي “حسان” حظه جراء خسارته شحنة أدوية بقيمة 50 ألف دولار في قلب الخرطوم في شارع الحوادث وسط الخرطوم لم يتمكن من نقلها إلى مكان آمن لخطورة الوضع في ظل سيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة بما في ذلك 12 مستشفى يشمل الحكومي والخاص تقع في “شارع الحوادث” تحت سيطرة هذه القوات دمرت تماما.

يقول حسان لـ(عاين): إن “خسارته تعتبر الأقل ضمن أكثر من 45  شركة أدوية فقدت أصولها وشحناتها في المستودعات المنتشرة في العاصمة السودانية بالكامل أي أن الخسائر تقدر بـ 100 مليون دولار ما يعني أدوية تكفي السودان لعام كامل”.

خطط بديلة للأدوية

“الخطط البديلة”  لصرف الأدوية قد تكون حلًا اضطراريا أمام طبيبة مختبرات جنوب العاصمة السودانية، فيما لا يُستبعد اللجوء إلى الأعشاب المحلية إذا تعذر وصف أدوية بسبب انعدامها في الصيدليات خاصة لاسيما الخرطوم.

تضيف الطبيبة في مقابلة مع (عاين): “بعض المنظمات توفر الأدوية وبعض المبادرات توزع الأدوية في المدارس والمساجد ومع ذلك لا تكفي لأن الوضع العام هو شح الدواء، وبعض المراكز الصحية لا تتوفر بها حتى مسكنات الصداع”.

عندما يأتي مريض بحاجة إلى جرعة أوكسجين تجد الاسطوانات فارغة تماما وهذا وضع مأساوي

طبيبة

وتتابع بالقول: “عندما يأتي مريض بحاجة إلى جرعة أوكسجين تجد الاسطوانات فارغة تماما هذا الوضع مأساوي جدا ولا يمكنه وصفه بكلمات قليلة”.

حولت قوات الدعم السريع معمل استاك المركزي الذي يقع في شارع القصر الرئاسي والمواقع الطبية المحيطة به إلى منطقة عمليات حربية كونها قريبة من القيادة العامة للجيش السوداني والقصر الرئاسي وهذه العمليات تعكس مدى تراجع القطاع الصحي في السودان خلال الحرب التي تستمر منذ عام ونصف.

تقول عضو اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء أديبة إبراهيم لـ(عاين): إن “الخسائر الصحية كبيرة جدا ولم يتمكن القطاعين العام والخاص في هذا المجال من نقل الأصول والمختبرات والأجهزة إلى الولايات شبه الآمنة لانعدام الممرات الآمنة إلى جانب تحويل قوات الدعم السريع عدد من المستشفيات إلى مواقع قتالية فيما نفذ الجيش القصف الجوي والمدفعي على بعض هذه المقرات.

مستشفى في العاصمة السودانية الخرطوم- عاين

وانعكس خروج المعمل القومي للصحة “ستاك ” عن الخدمة لأكبر معمل مركزي في السودان وتحوله إلى منطقة عسكرية وسط العاصمة على أداء وزارة الصحة السودانية حول التقصي من الوبائيات التي ضربت غالبية أنحاء البلاد مثل الملاريا والحميات والكوليرا خلال الصراع المسلح ولا تزال السلطات الصحية تبحث عن بدائل للمعمل المركزي شرق البلاد إما في بورتسودان أو مدينة عطبرة.

وترى أديبة إبراهيم عضو اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء، أن الولايات غير مهيأة لاستقبال الكم الهائل من المرضى مع زيادة وتيرة حركة النزوح، وبالتالي يدفع السودان الآن الثمن في عدم النظر بعين الاعتبار لتأهيل البنية الصحية خارج الخرطوم.

وتعتقد إبراهيم، أن استعادة النظام الصحي بحاجة إلى وقف الحرب أولا ورفع قدرات التدريب في الولايات مع توفير المعدات والأجهزة في المستشفيات الحكومية بالطريقة التي تجعل المواطن قادرا على تلقي العلاج مجانا.

الوفيات بالآثار الناتجة عن الحرب لفقدان الرعاية الصحية والوبائيات تتجاوزت الـ 30 ألف شخص خلال عام ونصف

خبير سياسات صحية

بينما يقول الخبير في النظام الصحي بالدول النامية، أحمد الحاج، إن “الوفيات في السودان خلال الحرب تجاوزت الـ 30 ألف شخص بسبب الوبائيات التي تشمل الحميات والملاريا ومضاعفات الجوع والنساء الحوامل والدرن نتيجة نقص المناعة ما يعني أن الوضع وصلة مرحلة خطيرة جدا”.

واستدرك قائلا: “الحرب تقتل أغلب المدنيين بالآثار التي تنتجها وانعكاسها على انهيار الوضع الصحي وشح الأدوية وعزوف المرضى خاصة الفقراء من الذهاب إلى المستشفى لشعورهم باليأس من طول المسافة أو صعوبة الحصول على الرعاية الصحية في الوقت المناسب”.

ويرى الحاج، أن: “نصف مليون طفل مهددون بالموت بالأمراض الناتجة عن سوء التغذية بالتالي هناك ارتباط وثيق بين النظام الصحي والغذائي والاثنان في تراجع مستمر وكان بالإمكان تأهيل المستشفيات في الولايات لكن الحكومة المدعومة من الجيش لا تمول الأنشطة الصحية ولا تمول استيراد الأدوية”.

وأردف: “أنا على ثقة أن وزير الصحة هيثم محمد إبراهيم يقاتل كما لو أن يديه عاريتين من أي شيء لاقناع جنرالات مجلس السيادة بتمويل النظام الصحي بينما تُدفع الأموال بسخاء على العتاد العسكري بإنفاق 750 مليون دولار خلال العام 2024 على العمليات العسكرية”.

غرفة علاجية بمستشفى النو في ام درمان

وأضاف الحاج: “طلبت وزارة الصحة السودانية من دولة قطر اعادة إعمار القطاع الصحي خلال زيارة الوزير هيثم محمد ابراهيم الى الدوحة مطلع أكتوبر 2024 والتزمت الدوحة بتوفير 50 جهاز غسيل كلى وشحنة أدوية منقذة للحياة فيما لم تتحمس لضخ ملايين الدولارات لبناء القطاع الصحي بسبب استمرار الحرب وعدم وجود يقين من أنها لن تتوسع إلى مناطق أخرى”.

الأعشاب لعلاج الحميات

في مدينة كسلا شرق البلاد ومع تفشي الحميات انتشرت على الشبكات الاجتماعية نصائح ذات طابع شعبي بتناول فاكهة “القريب فروت” ومع عدم توفر البرامج الخاصة بتنفيذ البروتوكلات التي توصي بها الصحة العالمية لعلاج حمى الضنك وتخفيف آثارها لجأ غالبية المرضى إلى اتباع الإرشادات من العاملين في بيع الأدوية العشبية من الأسواق الشعبية.

تضيف الطبيبة سارة: “لا توجد بروتوكولات متبعة بنظام دقيق لعلاج الحميات سواء في كسلا رغم مجهودات وزارة الصحة إلا أن التمويل المالي هو الأهم في مثل هذه الظروف”.

في مدينة كسلا يتداولون على شبكات الاجتماعية نصائح بتناول “القرع” و”القريب” لعلاج حمى الضنك

تقول سارة الطبيبة العمومية بمركز صحي خاص بمدينة كسلا لـ(عاين): الناس هنا اعتمدوا على الأعشاب أو تناول القريب فروت و”القرع” ولا يذهبون للمستشفيات، أقصد الغالبية لأنهم يشعرون باليأس من عدم وجود رعاية صحية فعالة.

فيما يقول المتحدث باسم لجنة أطباء السودان حسام الأمين، إن “وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم عمل بشكل جيد مقارنة مع الظروف الراهنة خاصة في أزمة الوبائيات”.

وتابع: “المشكلة التي تواجه المدنيين في العاصمة السودانية خاصة المرضى أن وزارة الصحة بولاية الخرطوم تعمل في نطاق ضيق بمدينة أم درمان ويسيطر عليها الاسلاميين لذلك فإن الأداء يشوبه الطابع السياسي أكثر من الخدمي”.

ويوضح حسام الأمين في مقابلة مع (عاين) بأن الوضع الراهن يتزامن مع حميات ووبائيات تفتك بالسودانيين بلا هوادة لدرجة أن ثلاثة أطباء على الأقل فارقوا الحياة في مدينة كسلا وهم يقاتلون لمكافحة الوباء.

ويقول الأمين إن ولايات كسلا وغرب دارفور والنيل الأزرق والنيل الأبيض من أكثر الولايات التي تتعرض إلى الوبائيات لضعف البنية الصحية ومع ضغوط النازحين على الخدمات الشحيحة تخرج الأمور عن السيطرة.

ويضيف: “هناك عدد كبير من الوفيات بسبب الحميات في كسلا والتي أصابت 10% من سكان المدينة وهي نسبة كبيرة والصرف الحكومي شحيح جدا على مكافحة الوباء”.

جنرالان لا يكترثان

لم يتمالك مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم الذي زار مدينة بورتسودان العاصمة البديلة للخرطوم خلال الحرب للحكومة المدعومة من الجيش لم يتمالك نفسه وهو يتحدث عن الوضع الصحي في السودان وذرف الدموع فيما وصفه الأطباء والعاملون في المجال الصحي بأن الأمور بالنسبة إليه خرجت عن السيطرة.

جانب من مستشفى منطقة طويلة بدارفور الخاضعة لسيطرة حركة جيش تحرير السودان قيادة عبد الواحد نور – يوليو 2024

وتستبعد عضو اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء أديبة إبراهيم، تأهيل ولو جزء يسير من النظام الصحي بواسطة المنظمات الدولية في ظل انعدام الممرات الآمنة وعدم القدرة على إيصال الأدوية واستغراق جل الوقت في تبادل الاتهامات بين الطرفين المتحاربين واستمرار المعارك الحربية.

وتابعت: “يحتاج مريض الكوليرا من 40 إلى 50 جرعة محاليل في اليوم أغلب من فارقوا الحياة لم تتوفر لديهم المحاليل ويحدث الجفاف في الجسم بالتالي يموت الشخص المصاب”.

الوبائيات والحميات ستفتك بعشرات الآلاف وتعرض نصف مليون طفل لفقدان الحياة وتشمل المخاطر 250 ألف من النساء الحوامل والمصابين بالأمراض المزمنة

خبير سياسات صحية

مع استمرار الصراع وتزايد الصرف على العمليات العسكرية خاصة من الحكومة المدعومة من الجيش والتي تضم المؤسسات الحكومية بما في ذلك وزارة الصحة الاتحادية فإن النظام الصحي يتلقى ضربات موجعة -وفق أحمد الحاج الخبير في تنمية السياسات الصحية بالدول النامية- والذي يرى أن الوضع الإنساني يتدهور بسبب تراجع التمويل الحكومي على صحة البيئة وترك استيراد الأدوية للقطاع الخاص ليفعل ما يشاء إلى جانب عدم وجود إرادة لدى مجلس السيادة “أعلى هيئة حكومية” على محاربة الوبائيات بتمويل برامج المكافحة.

ويقول الحاج إن :الأمور في القطاع الصحي خرجت عن السيطرة”.

ويردف بالقول: “إذا لم تتوقف الحرب لا يمكن تأهيل القطاع الصحي لإعادته على الأقل إلى ما كان عليه قبل عام ونصف بالتالي وفق الإحصائيات والمقارنات فإن الوبائيات والحميات ستفتك بعشرات الآلاف ويعرض نصف مليون طفل لفقدان الحياة وتشمل المخاطر 250 ألف من النساء الحوامل والمصابين بالأمراض المزمنة هؤلاء الفئات الأكثر عرضة للخطر في أوقات الوباء”.