المنتج الرئيسي للذهب في السودان يصدّر مباشرة إلى “العدو”

تم إعداد هذا التقرير بالتعاون والدعم مع منظمة الأمن العالمية غير الربحية ومقرها واشنطن C4ADS.

عاين- 22 أغسطس 2024

لقد أصبح الذهب هو “العملة الأساسية” التي تموّل الحرب المدمّرة في السودان، فيما يبيع المنتج الرئيسي للذهب مباشرة إلى أعدائه المعلنين. شركتا Alliance Mining و Kush للتنقيب والإنتاج، الواقعتان في مناطق يسيطر عليها الجيش على الحدود بين ولايتي البحر الأحمر ونهر النيل، اعتُبرتا بشكل متكرر أكبر عمليات تعدين ذهب في البلاد.

الإمارات العربية المتحدة، التي يُتهمها الجيش بدعم خصومه، تمتلك الشركة التي تُدار من قبل الروس. ورغم وجود صلات بين الشركة والجيش السوداني، فإن معظم صادرات Alliance من الذهب تُرسل إلى الإمارات، نفس الدولة التي اتهمتها الحكومة السودانية بدعم مقاتليها – قوات الدعم السريع.

وفي مارس، رفعت الحكومة السودانية (الخاضعة لسيطرة الجيش) دعوى قضائية ضد الإمارات، متهمة إياها بارتكاب إبادة جماعية بسبب دعمها المزعوم لقوات الدعم السريع.

منذ 15 أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني حربًا مدمّرة ضد قوات الدعم السريع، وهي قوة شبه عسكرية كانت في السابق حليفًا للجيش ونُشرت للقتال في إقليم دارفور الشاسع غرب البلاد. لكن الخلاف على الموارد والنفوذ السياسي أدى إلى انقسام الجانبين، حيث يعتمد كل طرف على مناجم الذهب لتمويل عملياته الحربية.

إن التوسع المستمر في أنشطة Alliance Mining و Kush Exploration & Production Company يمثّل مثالًا صارخًا آخر على تعدد التأثيرات الأجنبية المعقدة التي تغذي الصراع وتفاقم الأزمة الإنسانية الكارثية في السودان.

يعاني الشعب السوداني مما تعتبره الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة على الأرض أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث تُقدَّر الوفيات بما لا يقل عن 150 ألف شخص، مع نزوح أكثر من 12 مليونًا بسبب النزاع، فيما يواجه نصف السكان انعدامًا في الأمن الغذائي. ورغم ضخامة الكارثة، إلا أن نداءات التمويل الدولية لم تتم تلبية سوى بنسبة 60% فقط، بينما تستمر الأطراف المتحاربة في عرقلة وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها.

في مطلع هذا العام، أبلغت العديد من مخيمات النازحين داخليًا عن معدلات وفيات بين الأطفال تصل إلى نحو 12 حالة يوميًا بسبب المجاعة.

تسببت الحرب في السودان في نزوح جماعي؛ عائلة خارج مدينة الفاشر، ولاية شمال دارفور

وفي الوقت الذي تُمنع فيه المساعدات الإنسانية من الوصول إلى وجهتها، يتدفق الذهب عبر البلاد بسهولة نسبية، حيث ينتهي المطاف بمعظم الصادرات – سواء عبر التهريب أو الشحن العلني – في الإمارات العربية المتحدة.

لقد مكّنت صادرات الذهب الطرفين المتحاربين من شراء أسلحة متطورة بشكل متزايد، إذ تعتمد قوات الدعم السريع (RSF) على الصين والإمارات، بينما يتلقى الجيش دعمًا من مصر وتركيا وإيران.

الذهب: محور اقتصاد السودان وعامل في إطالة أمد الحرب

بينما دمّر النزاع في السودان – الذي دخل عامه الثالث – معظم قطاعات الاقتصاد في البلاد، لا يزال قطاع تعدين الذهب مزدهرًا، بل ويتوسع في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش. ففي فبراير، أعلنت الحكومة التي يسيطر عليها الجيش في بورتسودان عن تسجيل إنتاج قياسي في عام 2024. وصرّحت الشركة السودانية للموارد المعدنية (SMRC) المملوكة للدولة أن إنتاج الذهب في المناطق التي يسيطر عليها الجيش بلغ 71 طنًا في 2024، ارتفاعًا من 46 طنًا قبل عامين. وتُظهر بيانات البنك المركزي السوداني أن الصادرات وفّرت العام الماضي 1.57 مليار دولار كإيرادات ضريبية كانت البلاد في أمسّ الحاجة إليها.

استنادًا إلى هذه الأرقام، يُعد إنتاج الذهب المصدر الأكثر أهمية للدخل بالنسبة للأطراف المتحاربة، إذ يدعم شبكة عابرة للحدود تشمل جماعات مسلحة أخرى وتجارًا، وربما الأهم من ذلك، حكومات خارجية.

خريطة عمليات التنقيب عن الذهب في المناطق التي يسيطر عليها الجيش في السودان (C4ADS)

ويقول الخبير الاقتصادي السوداني عبد العظيم العماوي إن السيطرة على احتياطيات السودان الضخمة من الذهب تُعد أحد العوامل المساهمة في الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع (RSF)، مضيفًا أنها “عامل رئيسي في إطالة أمد الحرب”.

فالدول الأجنبية لا تكتفي باستيراد وتجارة الذهب السوداني وتوفير الإيرادات التي تطيل أمد النزاع، بل تشارك أيضًا في عمليات التعدين داخل البلاد. وتُعد شركة Alliance Mining، المملوكة للإمارات والمدارة من قبل الروس، مثالًا محوريًا على كونها المنتج الأول للذهب في السودان.

شركة أليانس للتعدين

تعمل شركة أليانس للتعدين على الحدود بين ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر في السودان، في منطقة هيا، على بُعد نحو 100 كيلومتر من بورتسودان، عاصمة ولاية البحر الأحمر. وتُعرف الشركة، تاريخيًا وحتى اليوم، باعتبارها أكبر منتج للذهب في السودان، حيث حصلت في السابق على عدة جوائز من الشركة السودانية للموارد المعدنية (SMRC) ووزارة الطاقة والتعدين.

كما تُعد الشركة المنجم الرئيسي للذهب التابع لشركة إيميرال ريسورسز للتعدين ومقرها الإمارات. وتشير آخر بيانات الملكية المتاحة إلى أن إيميرال تمتلك 68% من أسهم أليانس، بينما تمتلك شركة سودامين السودانية لتوريد التعدين 25%، و7% تعود لشركة Exxon Advanced Projects Limited. وعلى موقعها الإلكتروني، تدرج شركة إيميرال شركة كوش ضمن ممتلكاتها، إلى جانب شركتها التابعة Alliance for Mining، التي تدّعي أنها “أكبر منتج صناعي للذهب في السودان”.

جزء من موقع Alliance Mining في نوفمبر 2023 (C4ADS)

كانت أليانس في الأصل جزءًا من شركة لتعدين وتجارة الذهب مرتبطة مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية سيئة السمعة، التي كان يقودها يفغيني بريغوجين. وبحلول أواخر 2024، كانت مجموعة فاغنر (التي باتت تُعرف اليوم باسم الفيلق الإفريقي) قد حققت أكثر من 2.5 مليار دولار من التعدين غير المشروع للذهب منذ غزو أوكرانيا، وفق تقرير صادر عن مجلس الذهب العالمي. وكان بريغوجين، تاجر الحروب المعروف، يمتلك شركة أليانس للتعدين إلى جانب شركة الصلاغ للتعدين في السودان. وقد بدأت كلتا الشركتين بأسماء مختلفة، حيث عُرفت الأولى بـ”كوش للتعدين” والثانية بـ”مروي غولد”.

لكن في عام 2022، اشترت الإمارات العربية المتحدة شركة التعدين هذه، والتي واصلت العمل تحت مظلة إيميرال ريسورسز، بحسب وثائق شركات بحوزة شبكة عاين. وقامت الإمارات بشراء ديون خمس سنوات من شركة Alliance Ltd، وساعدت الشركة على التحايل على العقوبات الأمريكية المفروضة في مارس 2021 ضد الشركات الروسية العاملة في السودان. وقد أسس شركة إيميرال ريسورسز، ومقرها الإمارات، الدبلوماسي الروسي السابق بوريس إيفانوف، وهو مدير تنفيذي سابق في شركة غازبروم PJSC الروسية المملوكة للدولة. كما ارتبطت بالشركة استثمارات إماراتية رفيعة المستوى، من بينها الشيخ طحنون بن زايد، مستشار الأمن القومي الإماراتي. أما علي الراشدي، الرئيس التنفيذي لشركة International Resource Holding لاستخراج المعادن ومقرها دبي، فيشغل حاليًا منصب رئيس مجلس إدارة شركة إيميرال ريسورسز.

أما بالنسبة للسودانيين العاملين في أليانس، فإن هذه الشركة الكبرى تُعرف ببساطة باسم “الشركة الروسية”، بحسب ما قاله مهندس إنتاج يعمل فيها (رفض الكشف عن هويته). وأضاف المصدر لشبكة عاين: “الاسم جاء من كونها الشركة الوحيدة في المنطقة التي يعمل فيها روس، ولا يُسمح للسودانيين حتى بالدخول إلى الغرفة التي يُستخرج فيها الذهب.” واعتبارًا من عام 2022، أظهرت وثائق الشركة التي بحوزة شبكة عاين أن المدير وجميع رؤساء الأقسام الفنية فيها من أصل روسي.

شركة أليانس للتعدين: حفر قصير الأمد

اعتمدت شركة أليانس، مثل معظم عمليات التعدين في السودان، على المنقبين التقليديين المحليين للقيام بالأعمال الشاقة والخطيرة، وذلك وفقًا لموظفين محليين تحدثوا لشبكة عاين بشرط عدم الكشف عن هويتهم. بدأت أليانس، إلى جانب شركتها التابعة كوش للتنقيب والإنتاج، أنشطتها في التعدين عام 2015. ورغم تسجيلها كشركة تعدين صناعي، فإن تركيزها كان دائمًا منصبًا على معالجة “مخلّفات التعدين” أو “الكرتة” بدلًا من الحفر الصناعي العميق.

تُعطي ممارسة العمل في “الكرتة” الأولوية للتكاليف المنخفضة والأرباح العالية، مع ضعف تطبيق القوانين التنظيمية، على حساب الاستثمار طويل الأجل في التعدين الصناعي. قد يفسر هذا التباين سبب إعلان الشركة السودانية للموارد المعدنية (SMRC) عام 2024 أن المنقبين التقليديين المحليين شكلوا 83% من إجمالي إنتاج الذهب في المناطق التي يسيطر عليها الجيش. ففي عام 2024، من أصل إنتاج معلن بلغ 64 طنًا من الذهب، أنتج المنقبون المحليون 53 طنًا. ووفقًا لمنظمة سويس إيد، يهيمن التعدين التقليدي على قطاع الذهب السوداني، حيث يمثل 91.5% من إجمالي الإنتاج المعلن.

يعتمد المنقبون التقليديون على طرق بدائية غير فعّالة لاستخراج ما يصل إلى 30% فقط من الذهب من الصخور الخام، مما يترك نسبة كبيرة من جزيئات الذهب في المخلفات المعروفة باسم الكرتة في السودان. ويُتعاقد مع المنقبين المحليين بشكل مباشر للعمل داخل مربعات التعدين الخاصة بشركة أليانس، كما هو الحال في عمليات التعدين الروسية الأخرى، مثل شركة الصلاغ للتعدين (مروي غولد) التابعة لمجموعة فاغنر.

هذا الاعتماد على المنقبين المحليين يضمن لشركة إيميرال ريسورسز قوة عاملة غير خاضعة للرقابة، يصعب متابعتها أو فرض الضرائب عليها أو حتى تتبع معدلات الإنتاج الفعلية، بحسب الباحث سليمان بلدو. ويضيف بلدو: “إنها عملية استثمار منخفض – عائد مرتفع. فالمعدات اللازمة لمعالجة الكرتة لا تتجاوز قيمتها سبعة ملايين دولار، وتصبح منتجًا من اليوم الأول.”

تقطير الذهب من التربة في عملية “المخلفات” أو “الكارتة” في ولاية نهر النيل (عاين)

لطالما ارتبط هذا النوع من التعدين بالنخب والجماعات المسلحة التابعة لها. ومنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، انخرطت كل من قوات الدعم السريع (RSF) والقوات المسلحة السودانية (SAF) في السيطرة على شركات تعمل في مجال مخلفات التعدين.

اعتبارًا من عام 2024، شهدت جميع عمليات التعدين في البلاد، بما في ذلك شركة أليانس، انتعاشًا حادًا في الإنتاج. ووفقًا لأحد مهندسي الإنتاج في الشركة، فقد استثمرت أليانس هذا العام في آلات جديدة ووسّعت نطاق عملياتها.

تشير صور الأقمار الصناعية التي جمعتها منظمة C4ADS في نوفمبر 2023 ومارس 2024 إلى استمرار النشاط التعديني، وذلك من خلال ملاحظة حركة التربة وعمليات الحفر الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى أعمال البناء. كما أن مستويات الإشعاع الليلي التي قاستها C4ADS في عام 2025 تشير أيضًا إلى عودة عمليات الحفر التعديني بعد التوقف الذي شهده القطاع في بداية الصراع الحالي.

لكن المجتمع المحلي بالكاد لاحظ أي زيادة في نشاط التعدين بشركة أليانس، بحسب ما ذكره موظفون محليون لشبكة عين، وذلك نظرًا للسرية التي تحيط بعمليات الشركة.

ووفقًا لمهندسي الإنتاج في أليانس، فإن الغرفة المخصصة لوزن وصهر الذهب وتحويله إلى سبائك محظور دخولها على الموظفين المحليين. وقال أحد المهندسين: “يتم جمع الذهب وصهره كل ثلاثة أيام وتحويله إلى سبائك. ولا يُسمح بدخول غرفة الصهر إلا للروس.”

وبحسب نفس المصادر، يتم بعد ذلك نقل الذهب ليلًا وشحنه للتصدير بعيدًا عن أعين المراقبين. وأضاف المهندسون: “تتم عملية النقل بأكملها بسرية تامة؛ ولا أحد منا يعرف إلى أين يذهب الذهب من هنا.”

التهريب واسع النطاق ودور الإمارات

وفقًا للباحث في شؤون الذهب محمد صلاح، فإن معظم الشركات العاملة في تعدين الكرتة أو مخلفات التعدين لا تفصح إلا عن جزء صغير من إنتاجها، بينما يظل الجزء الأكبر غير مُبلّغ عنه. وعند مقارنة معدلات الإنتاج المُعلنة من قبل البنك المركزي السوداني مع معدلات التصدير الفعلية، يظهر تفاوت خطير. فبحسب تقرير سويس إيد، بين عامي 2012 و2024، كانت مستويات الإنتاج أعلى من الصادرات في كل عام تقريبًا. ففي تلك الفترة، سجّلت السلطات تصدير 404 أطنان من الذهب بينما بلغ الإنتاج 919 طنًا، ما يعني وجود فارق 515 طنًا غير مُفسَّر.

ويرى مدير الشركة السودانية للموارد المعدنية (SMRC) محمد طاهر أن ما يقرب من نصف الذهب المُنتَج في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش يتم تهريبه عبر الحدود، بينما يقدّر بعض الباحثين النسبة بأنها أقرب إلى 70%. ففي عام 2023، من أصل 71 طنًا مُنتَجًا بشكل رسمي في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، لم يُعلَن للتصدير سوى 34 طنًا فقط.

ويقول الباحث سليمان بلدو إن التهريب واسع النطاق للذهب السوداني يحدث لأن الدولة متواطئة في هذه التجارة. ويضيف: “الحكومة السودانية تشجع الفساد. مسؤولو الشركة السودانية للموارد المعدنية متواطئون في العملية، والسلطات الحكومية تغض الطرف لأنها لا تدفع رواتب مجزية لموظفي الشركة.” وقد أدى اتساع شبكات تهريب الذهب في جميع قطاعات التعدين بالسودان إلى تحذير وزير المالية جبريل إبراهيم من انهيار الاقتصاد السوداني والجيش معًا إذا استمر هذا الاتجاه.

مصفاة الذهب في الخرطوم قبل الحرب- الصورة وكالة السودان للانباء

سواء تم تصدير الذهب بشكل قانوني أو عبر التهريب، فإن معظم الذهب المستخرج في السودان ينتهي به المطاف في الإمارات العربية المتحدة. ففي عام 2023، ذهب نحو 97% من صادرات الذهب من المناطق التي يسيطر عليها الجيش إلى دبي. ووفقًا لبيانات بورصة السلع الإماراتية، أصبحت الدولة الخليجية الصغيرة ثاني أكبر مصدر للذهب في العالم عام 2023، متجاوزة بريطانيا.

كما ذكر البنك المركزي السوداني العام الماضي أن صادرات الذهب من المناطق التي يسيطر عليها الجيش إلى الإمارات ظلت ثابتة عند نسبة 97%، وهو ما يدر على الدولة نحو 1.5 مليار دولار ويمثل ما يقارب نصف صادرات السودان بأكملها. وفي المقابل، صدّر السودان في عام 2024 ما قيمته 1.2 مليون دولار فقط من الذهب إلى تركيا، و7.9 مليون دولار إلى قطر، و16.3 مليون دولار إلى مصر، و24.6 مليون دولار إلى عمان.

وبحسب سويس إيد، تُعتبر الإمارات الوجهة الرئيسية للذهب المُهرَّب، إذ تم شحن ما لا يقل عن 220 طنًا مباشرة إلى دبي بين عامي 2012 و2024. وحتى الذهب المهرَّب من دول أخرى، مثل مصر المجاورة، يجد طريقه في النهاية إلى دبي.

مصر وروسيا

رغم أن الكمية الإجمالية غير معروفة، يعتقد موظفون محليون يعملون في شركة أليانس أن جزءًا كبيرًا من الذهب المستخرج من مناجمهم يُنقَل مباشرة عبر الحدود إلى مصر. وقد حققت الجارة الشمالية للسودان، والحليف الرئيسي للقوات المسلحة السودانية (SAF) في حربها، أرباحًا ضخمة من تجارة الذهب خلال السنوات الأخيرة، حيث يتم بيع معظمه إلى دبي. وتُظهر بيانات الأمم المتحدة للتجارة أن صادرات مصر من الذهب تجاوزت 1.8 مليار دولار في عام 2023، انتهى أكثر من نصفها في الإمارات.

وقال تجار ذهب تحدثوا لشبكة عاين بشرط عدم كشف هوياتهم إن أكثر من نصف الذهب المنتج في ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر ينتهي في مصر، سواء عبر التصدير القانوني أو بطرق غير شرعية. وأوضح الباحث في سويس إيد مارك أوميل لشبكة عاين: “بالنسبة للقوات المسلحة السودانية، الأمر واضح؛ أكبر طرق التهريب هي عبر مصر.” وقدّرت سويس إيد أن نحو 44 طنًا من الذهب السوداني هُرّب إلى مصر العام الماضي.

وكان وزير المالية جبريل إبراهيم قد ألمح إلى ذلك في مارس الماضي، مشيرًا إلى أن “دولة مجاورة” حصلت على 48 طنًا من الذهب المهرّب العام الماضي، محذرًا من أن الجيش السوداني سينهار إذا انهار الاقتصاد.

ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور وائل فهمي إن سياسات التحرير الاقتصادي طويلة الأمد في السودان، والتي شجّعت على الفساد والنهب، قد أضعفت إيرادات الخزانة العامة وتسببت في خسائر كبيرة في عوائد الصادرات – ويرجع ذلك أساسًا إلى تهريب المواد الخام الرئيسية، وعلى رأسها الذهب.

تجارة الذهب هي واحدة من أهم الحوافز لدى الجيش السوداني لإطالة أمد الحرب ومنع انتهائها، حتى يتمكن من الاستفادة من فساد هذه الأموال. فهذه الأموال لا تخضع لأي رقابة وتدار حصريًا من قبل قائد الجيش ومحافظ بنك السودان المركزي

مبارك الفاضل، رئيس حزب الأمة ووزير الاستثمار السابق

يُعد الذهب السوداني المهرّب عبر الحدود إلى مصر أكثر ربحية بشكل كبير بسبب السياسات الضريبية المواتية في مصر. ووفقًا لبلدو، فإن الفاعلين الأمنيين المصريين والسودانيين يستفيدون بشكل واضح من هذه الأنشطة. إذ يتم تهريب نحو 100 كيلوجرام من الذهب يوميًا من السودان إلى مصر، أي ما يعادل أكثر من 66 طنًا منذ بداية الحرب وحتى نهاية عام 2024. وقال بلدو: “هناك نظام كامل يشجع المصريون من خلاله دخول الذهب إلى مصر؛ لا يُطلب أي توثيق. والدافع للتجار السودانيين بسيط: سعر أفضل، وفرصة لجلب سلع من مصر إلى السودان زمن الحرب لتحقيق أرباح أكبر.”

وبحسب أحد تجار الذهب في بورتسودان، فإن الذهب الذي يُباع في السودان مقابل 250 ألف دولار يمكن تهريبه إلى مصر في رحلة يوم واحد وبيعه هناك مقابل 300 ألف دولار، محققًا ربحًا قدره 50 ألف دولار خلال 24 ساعة فقط.

ويقول مبارك الفاضل، رئيس حزب الأمة ووزير الاستثمار السابق ورجل أعمال له صلات بقطاع الذهب، إن بعض الذهب السوداني يصل إلى مصر عبر شركة الجيش السوداني “زادنا”. وأضاف الفاضل أن شركة زادنا العالمية للاستثمار المحدودة تصدر 700 كيلوجرام من الذهب سنويًا مقابل الغذاء وإمدادات أخرى للجيش والتجارة. وفي مايو 2023، بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب، عيّن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، الدكتور طه حسين يوسف مديرًا عامًا للشركة. وقال الفاضل: “إن كميات كبيرة من الذهب المنتَج في المناطق الحدودية مع مصر، مثل حلفا والبحر الأحمر، تُهرّب أيضًا إلى مصر.”

ولا توجد بيانات تجارية تشير إلى أن السودان يصدر الذهب إلى روسيا، لكن مجلس الاتحاد الأوروبي أفاد في عام 2023 بأن مجموعات شبه عسكرية روسية مثل فيلق أفريقيا قامت بتصدير كميات كبيرة من الذهب السوداني إلى موسكو. ووفقًا لمقال نشرته صحيفة التلغراف البريطانية، فقد استعدت روسيا للعقوبات الدولية التي فُرضت عليها عقب غزوها أوكرانيا عام 2022 من خلال تأمين احتياطيات أجنبية من الذهب من السودان ودول أخرى. غير أن غياب البيانات الداعمة لهذه الادعاءات يجعل من الصعب التأكد مما إذا كان السودان يصدر الذهب إلى روسيا، خاصة وأن السفير الروسي في السودان نفى وجود مثل هذه الصادرات.

تجارة متناقضة

بالنظر إلى تزايد الأدلة التي تربط دعم الإمارات لقوات الدعم السريع، والعديد من التصريحات العلنية للجيش التي تندد بهذا الدعم، فإن استمرار تجارة الذهب بين الجيش والإمارات يبدو تناقضًا محيرًا. فليس فقط أن الجيش يبيع الذهب لدولة تُعتبر عدوًا مفترضًا، بل إن أكبر عملية تعدين تجري في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش مملوكة في الأساس لهذه الدولة نفسها، التي تُعد الداعم الرئيسي لقوات الدعم السريع.

هناك عاملان قد يفسران هذا التناقض الواضح: ندرة الخيارات والجشع الشخصي. ووفقًا للمدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية، محمد طاهر، فإن الخيارات المتاحة لتصدير الذهب إلى دول أخرى محدودة للغاية. وأوضح طاهر أن الإمارات تمتلك نظامًا ماليًا متطورًا ونقطة وصول إلى الأسواق العالمية. وأضاف أن الحكومة تحاول إيجاد أسواق بديلة في قطر، عُمان، والمملكة العربية السعودية.

وفي مقابلة مع قناة الجزيرة، شدد وزير المالية د. جبريل إبراهيم على أن التجارة وعائدات الصادرات تتجاوز أي خلاف سياسي. وقال الوزير: “لقد سمعنا الكثير من الانتقادات حول سماحنا بتصدير الذهب إلى وجهات نحن في صراع معها، لكن الانتقال إلى أسواق جديدة يتطلب وقتًا، ونحن حاليًا ننتقل تدريجيًا إلى بدائل أخرى.”

الدولة التي يسيطر عليها الجيش سعيدة بأن تساهم شركة أليانس في خزينة الدولة، لكنها أيضًا راضية عن تبادل أشياء أخرى لا يتم الإعلان عنها

 د. سليمان بلدو- باحث

تُعَدّ الإمارات العربية المتحدة الوجهة الرئيسية للذهب المهرَّب من إفريقيا، إذ تستضيف نظامًا لغسل الذهب قائمًا منذ سنوات. ووفقًا لمنظمة سويس إيد، فقد استقبلت الإمارات خلال العقد الماضي أكثر من 2,756 طنًا من الذهب المهرَّب، بقيمة إجمالية تجاوزت 115 مليار دولار. وعلى الرغم من وجود قوانين لمكافحة تهريب الذهب، يقول أوميل إن هذه القوانين نادرًا ما يتم الالتزام بها، مما يسمح بتدفق مستمر للذهب المهرَّب إلى البلاد. كما أن الإمارات تُعَدّ مريحة لوجستيًا لمعظم تجار الذهب العاملين في إفريقيا. ويضيف أوميل: “لديهم طائرات نقل كبيرة لنقل الذهب، وما زال يتم التعامل بالنقد؛ ولا تحتاج إلى تأشيرة لدخول البلاد، ويمكنك ببساطة حمل الذهب بيدك.”

ويقول الفاضل إن مراكز الذهب العالمية الأخرى مثل لندن وسنغافورة مغلقة أمام التجار السودانيين بسبب متطلبات البيع التي تُلزم التجار بإثبات وتوضيح مصدر الذهب. “وبالتالي يفضل السودانيون، بما في ذلك السلطات العسكرية، البيع في دبي لأنها سوق حرة، حيث يمكنهم الحصول على السيولة النقدية والتصرف فيها بسهولة.” ويؤكد الفضل أن هذا ينطبق أيضًا على تجار السلاح الروس الذين يتعاملون حصريًا بالنقد في دبي.

معدن تقليدي عن الذهب في ولاية نهر النيل

وبحسب أحد تجار الذهب في بورتسودان، فإن علاقة الجيش مع الإمارات في قطاع الذهب تظل أساسية بغض النظر عن الخلافات السياسية. المعاملات التجارية، بما في ذلك صادرات الذهب إلى الإمارات، لم تتوقف بأي شكل من الأشكال. وقال التاجر لـ”عاين” مشترطًا عدم الكشف عن هويته: “كل هذه العملية تتم بعلم ومساعدة عناصر من الجيش — حتى برتبة فريق.”

مع هيمنة المُنقِّبين التقليديين وعمليات التعدين مثل شركة أليانس التي تعتمد على المُخلّفات في صناعة الذهب بالسودان، يبقى البلد بيئة خصبة لتهريب المعدن إلى الإمارات العربية المتحدة. وقال بلدو: “إنها بيئة واقعية جدًا (Realpolitik) حيث يستفيد الجميع لأنفسهم. الدولة التي يسيطر عليها الجيش سعيدة بمساهمة أليانس في خزينة الدولة، لكنها أيضًا سعيدة بتبادل أشياء أخرى لا يُعلن عنها.”

ويُظهر حجم التدفقات كيف تحوّل التعدين الأهلي صغير النطاق إلى نشاط ضخم يضم ملايين الأشخاص في السودان، وينتج كميات من الذهب تفوق بكثير ما تنتجه العمليات الصناعية الكاملة.

وبحسب مسؤول في وزارة الطاقة والتعدين في ظل الحكومة الفعلية الخاضعة لسيطرة الجيش، فإن شخصيات رفيعة داخل الجيش والنخبة الاقتصادية تساعد في تسهيل عمليات تهريب الذهب. وأوضح المصدر الوزاري لـ”عاين” مشترطًا عدم الكشف عن هويته أن جميع هؤلاء لديهم صلات بالشركات التعدينية الرئيسية العاملة في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك شركة أليانس. وقال المسؤول: “هناك شخصيات رفيعة وراء تجارة الذهب تستفيد مباشرة من هذه العمليات [التهريب]. الحرب الحالية تجعل هذه العمليات أسهل لهم بفضل ضعف الرقابة. لا أحد يراقب الآن.”

إن توسّع عمليات تعدين الذهب في السودان، إلى جانب طرق تهريب الذهب برعاية أمنية وغياب تنظيم تجارة الذهب في الإمارات، يشير إلى أن العمليات الغامضة مثل تلك التي تقوم بها أليانس ستستمر على الأرجح.

تكشف شركة أليانس للتعدين وكوش للاستكشاف والإنتاج عن عدة قضايا محورية تتعلق بالحرب الدائرة في السودان وصناعة تعدين الذهب. أولًا، الحرب الحالية في السودان بعيدة كل البعد عن أن تكون حربًا أهلية بحتة، إذ يقف وراءها عدد كبير من الأطراف الأجنبية الذين يمدونها بأسباب الاستمرار والتدمير، جزئيًا من خلال مصالحهم في تجارة الذهب. فالذهب لا يُعد العمود الفقري لاقتصاد الصادرات السوداني فحسب، بل هو أيضًا مورد أساسي يعتمد عليه طرفا النزاع – الجيش وقوات الدعم السريع – لتغذية الصراع. وكلا الطرفين يعتمدان على الإمارات في هذه العملية. وبينما يستمر الطرفان المتحاربان في عرقلة وصول المساعدات الإنسانية، مما يسبب مجاعة واسعة النطاق في البلاد، يظل الذهب يجد أسواقًا، ويبدو أن الإنتاج في طريقه للتوسع.

غالبية المواطنين السودانيين يتطلعون إلى السلام بعد أن عانوا أكثر من عامين من واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم. لكن هناك شخصيات نافذة داخل القوات المسلحة والحكومة تستفيد من الوضع الراهن عبر عمليات تهريب الذهب الجارية. وقال الفضل: “هذا أحد أهم دوافع الجيش السوداني لإطالة أمد الحرب ومنع انتهائها، حتى يتمكن من الاستفادة من فساد هذه الأموال. هذه الأموال لا تخضع لأي رقابة وتدار حصريًا من قبل القائد العام للجيش ومحافظ البنك المركزي.”

وإذا لم تتم معالجة هذه القضية، فسوف يتدفق المزيد من الذهب من السودان إلى الأسواق الدولية في الإمارات، بما يضمن للطرفين المتحاربين الحصول على المزيد من الأسلحة والمزيد من الحرب. وقال بلدو: “هذه ليست حرب أيديولوجيا، إنها حرب موارد. الأطراف المتحاربة وحلفاؤهم الدوليون يقاتلون من أجل موارد البلاد. الأمر بهذه البساطة، وبهذا القدر من القسوة.”

أضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *