سجون (الجزيرة) تمتلئ بالمعتقلين.. ما هي التُهم ومن هم المستهدفون؟
عاين- 16 يوليو 2025
تعتقل سلطات الجيش السوداني نحو 1100 مواطن في سجون ومعتقلات بمدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط البلاد، وعدد مقدر في سجن مدينة الحصاحيصا، بعد حملات اعتقالات منذ استعادتها المنطقة في يناير الماضي، وما تزال عمليات التوقيف والاحتجاز متواصلة، وهي ممارسات جعلت السكان الذين خرجوا من حرب مدمرة، في حالة خوف دائم.
في كل الحالات كانت تهمة الاعتقال هي التعاون مع قوات الدعم السريع التي سيطرت على ولاية الجزيرة لنحو عام، ومن بين المحتجزين ناشطون في الحراك الثوري، ومتطوعون في غرف الطوارئ، بالإضافة إلى نساء كن يعملن في مجال بيع الأطعمة في مدن الولاية المختلفة خلال فترة الصراع المسلح، وذلك بحسب ما أكده مصدر أمني ذو صلة بالمعتقلين في ولاية الجزيرة لـ(عاين).
وعاشت ولايتي الجزيرة وسنار أواسط السودان، عنف واسع خلال العام 2024 بعدما اجتاحتها قوات الدعم السريع، والتي ارتكبت عمليات نهب ومجازر بشعة بحق المدنيين، وفق تقارير موثقة، وعقب تمكن الجيش والفصائل المسلحة المتحالفة معه من استعادة السيطرة عليها، تعرض المدنيون إلى حرب أخرى وهي الاعتقالات التعسفية.
ويكشف المصدر الأمني لـ(عاين)، أن حوالي 600 شخص محتجزين في سجن ود مدني الكبير، ويطلق عليهم “منتظرين” حيث تجري محاكمتهم، وكان العدد الكلي للمعتقلين فيه كبيراً للغاية، لكن بدأت محاكمات في مارس الماضي بعد تفشي وباء الكوليرا في السجن، وأطلق سراح كل الذين لا توجد بينات ضدهم.
بينما تم تحويل سجن النساء في ود مدني إلى معتقل تشرف عليه الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش، ويحتجز فيه حالياً نحو 500 مواطن، تم اعتقالهم حديثاً بشبهة التعاون مع الدعم السريع، وليس هناك بينات واضحة في مواجهتهم.
مساومات مالية
عسكريون ونافذون ينخرطون في مساومات مع عائلات المعتقلين للإفراج عنهم بمقابل مالي
مصدر أمني
ويكشف المصدر الأمني الذي طلب من (عاين) حجب هويته، عن مساومات واسعة يجريها عسكريون ونافذون في ولاية الجزيرة للإفراج عن المعتقلين الذين لا توجد ضدهم بينات واضحة وأدلة تثبت تورطهم في التعاون مع قوات الدعم السريع، بعد دفع مبالغ مالية.
يقول المصدر: “الأسبوع الماضي، طلب عسكريون مبلغ 15 مليون جنيه من إحدى العائلات مقابل الإفراج عن خمسة أشخاص معتقلين بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، فالاعتقال أصبح تجارة وباباً للكسب المالي، لذلك تقوم الأجهزة الأمنية بما يشبه التنافس في ما بينها في توقيف المواطنين، فكل طرف يسعى إلى جمع أكبر عدد من المعتقلين”.
وقالت سيدتان من أسرة واحدة تقيم خارج ود مدني لـ(عاين): “دفعنا مبالغ 500 الف جينه للسلطات العسكرية بعد أن طالبت بها، وأُطْلِق سراحنا في أبريل الماضي، وقد اعتقلنا في فبراير بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، وكان شقيقنا محتجزا كذلك، لكنه توفي داخل سجن ود مدني الكبير”.
مع تكدس السجون تستمر الاعتقالات التي تركزت منذ يونيو الماضي على الناشطين والمتطوعين في غرف الطوارئ
ومع تكدس السجون تستمر القوات النظامية في اعتقال المواطنين في ولاية الجزيرة، لكن منذ يونيو الماضي تركزت الاعتقالات على الناشطين والمتطوعين في غرف الطوارئ، الذين يعتقلون بواسطة الخلية الأمنية، والاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن والشرطة.
وفي يوم 2 يوليو الجاري، اعتقلت الخلية الأمنية الطبيب والمتطوع، محمد طلب في منطقة المعيلق في ولاية الجزيرة، وقد عمل في النشاط الطوعي خلال فترة الحرب وجرى اعتقاله مرتين بواسطة قوات الدعم السريع الفترة الماضية، كما كان ضمن فريق متطوعي مبادرة شارع الحوادث في الخرطوم، وذلك بحسب ما أفادت به مجموعة محامو الطوارئ الحقوقية التي نادت بالإفراج عنه.
وفي الثالث من يوليو الحالي، اعتقلت الخلية الأمنية عضو لجان مقاومة الحصاحيصا والمتطوع محمد أزهري، وسلمته إلى جهاز الأمن والمخابرات في المدينة نفسها، وذلك وفق ما أفاد به متطوع من الحصاحيصا (عاين) قبل أن يفرج عنه مساء امس دون توضيح أسباب اعتقاله والافراج عنه.
نهب وابتزاز
وقال المتطوع من مدينة الحصاحيصا والذي طلب عدم ذكر اسمه بسبب المخاطر الأمنية: “تم اعتقال محمد أزهري وهو متطوع وعضو في لجان المقاومة بواسطة الخلية الأمنية، واحتجر في مباني جهاز الأمن والمخابرات في مدينة الحصاحيصا، دون ذكر أي تفاصيل أو أسباب اعتقاله، ونحن نخشى بشدة على سلامته”.
ويضيف: “الوضع الأمني في الحصاحيصا خطير جداً، ينتشر مسلحون بزي مدني في الأسواق والأحياء السكنية، ويمارسون ابتزاز المواطنين ونهب ممتلكاتهم، وكل من يعترض على نشاطهم يُعْتَقَل بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، وقد امتلأ سجن المدينة بالمعتقلين، وبدأت إجراءات المحاكمة، وقضت محكمة المدينة الأسبوع الماضي بالإعدام على أحد المحتجزين”.

وبدأت السلطات المحلية التابعة للجيش حملة اعتقالات في مختلف مدن ولاية الجزيرة بعد استعادة الجيش السيطرة على المنطقة في يناير الماضي، شملت أطباء ومتطوعين وشخصيات بارزة في الثورة الشعبية التي اطاحت بالرئيس عمر البشير في العام 2019، وأُفرج عن بعض الأطباء والمتطوعين، لكن ما يزال العشرات خلف القضبان لما يقارب 6 أشهر دون تقديمهم إلى محاكمة.
ومن بين المعتقلين، الكاتب المهتم بتوثيق تاريخ مدينة ود مدني، خالد بحيري البالغ عمره 70 عاماً، وجرى اعتقاله من منزله قبل ستة شهور، وفق مجموعة محامو الطوارئ الحقوقية، والتي دعت إلى إطلاق سراحه دون قيود.
وكان شباب متطوعون وناشطون في لجان المقاومة الثورية في ولاية الجزيرة أطلقوا حملة واسعة للمطالبة بإطلاق سراح بحيري، الذي اعتبروه رمزا لنضالاتهم السلمية، حيث كان أحد منظمي حركة الاحتجاجات ضد الرئيس السابق عمر البشير، والمظاهرات اللاحقة ضد الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ضد الحكومة الانتقالية في أكتوبر 2021
تشفي وانتقام
يستمر اعتقال والدي لستة أشهر بدافع الانتقام والتشفي، بسبب مواقفه الثورية وتاريخه النضالي
نجل المعتقل خالد بحيري
وقال ابنه محمد خالد بحيري لـ(عاين): “اُعُتقِل والدي بواسطة قوة من جهاز الأمن والمخابرات من منزله في يوم 14 يناير 2025، أي بعد ثلاثة أيام من استعادة الجيش السوداني السيطرة على مدينة ود مدني، واقتيد إلى جهة مجهولة، وبعد مضي 3 أشهر اكتشفت أسرته أنه محتجز في السجن السياسي بمدينة المناقل، وأعيد في شهر مايو الماضي إلى معتقل في ود مدني”.
وأضاف: “بعد وصول الحرب إلى ود مدني رفض والدي المغادرة، وقرر البقاء لمساعدة الناس، ونصب خيمة أمام منزله لتقديم الخدمات العلاجية للمواطنين العالقين وسط نيران القتال، كما أسس مبادرة مدني تشرب التي عملت على توفير مياه الشرب لسكان المدينة بعد ما حاصرهم العطش، وقد تعرض للاعتقال من قبل قوات الدعم السريع، ونجا من القتل، بينما قتل اثنان من أصدقائه خلال أيام الحرب”.
وتابع: “والدي يُحتجز بشكل تعسفي، ولم توجه له أي تهمة، فقط يتشفون منه بسبب مواقفه الثورية وتاريخه النضالي، ولا يوجد أي تفسير لما يجري في ولاية الجزيرة غير محاولة تصفية الثورة والفاعلين فيها. نحن نطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن والدي، لأن وضعه الصحي، وسنه لا يحتملان كل هذه الفترة من الاعتقال”.
مع تصاعد وتيرة الاستهداف والاعتقال العشوائي، أصبح المتطوعون يخشون الحركة وسط الأحياء السكنية، وتقديم العون رغم الاحتياجات المعيشية والخدمية التي يعيشها المواطنون العائدون إلى منازلهم
متطوع
وبحسب مصدر مقرب تحدث لـ(عاين) فإن خالد بحيري ومعه نحو 30 متطوعاً وناشطاً، خصص لهم الجيش معتقل بالقرب من مستشفى جراحة الأطفال في ود مدني، تحت إشراف دائرة الاستخبارات العسكرية، ويرأس هذا المركز ضابط جيش برتبة عقيد، ينوبه ضابط برتبة مقدم، بجانب عدد من الضباط برتبة رائد وأفراد آخرين كانوا معروفين بولائهم الشديد للنظام الإسلامي، وترتب الاستخبارات إلى تحويلهم إلى المحكمة.
مع تصاعد وتيرة الاستهداف والاعتقال العشوائي، أصبح المتطوعون يخشون الحركة وسط الأحياء السكنية، وتقديم العون رغم الاحتياجات والأزمات المعيشية والخدمية التي يعيشها المواطنون العائدون إلى منازلهم، وذلك وفق ما قاله أحمد محمد وهو اسم مستعار لمتطوع في ود مدني لـ(عاين).
وأضاف المتطوع: “ظللت حبيس منزلي، القوات العسكرية منتشرة في كل مكان، وتعتقل الناس بشكل عشوائي، نشعر باستياء شديد تجاه ما يحدث، ونخشى على سلامة زملائنا المعتقلين لأشهر طويلة، لا ندري ماذا يفعلون بهم”.
وتابع: “الوضع الأمني في ود مدني سيئ للغاية، وتنفذ القوات النظامية المنتشرة حملات مداهمة واقتحام للمنازل والأحياء السكنية بشكل متكرر ودون سابق إنذار، إذ تستهدف على وجه الخصوص أحياء طرفية في المدينة مثلاً، عووضة، الدباغة، حلة محجوب، بحجة وجود لصوص (شفشافة) بداخلها، ويعرضون السكان إلى إرهاب وابتزاز بغرض الحصول على المال”.
غياب أسس العدالة
ما يجري من محاكمات واعتقالات في ود مدني تخالف أسس العدالة والقانون، وهي جرائم حرب تستوجب التقصي الدولي لمحاكمة المتورطين فيها
خبير قانوني
يقول الخبير القانوني معز حضرة في مقابلة مع (عاين): “هذه محاكمات غير حقيقية وغير قانونية، وتخالف أسس المحاكمة العادلة، لا توجد في القانون تهمة اسمها التعاون مع الدعم السريع، هناك قوات نظامية – الجيش- هربت من المعركة في ود مدني، وبقي مواطنون عزل في منازلهم، فبدلا من أن يشكروا الآن يحاكمون بدوافع سياسية، ومحاكمات تفتقد إلى أبسط الشروط القانونية، وستلغى في مراحل التقاضي العليا”.
حرب على الثورة
“الحرب في الأساس قامت ضد ثورة ديسمبر، فالاعتقالات بحق الناشطين والمتطوعين في ولاية الجزيرة تأتي في سياق تركيز عناصر النظام السابق على محاربة هؤلاء الشباب بتلفيق البلاغات الكيدية ضدهم ووضعهم في السجون، دون أوامر من النيابة أو التجديد لهم بأمر القضاء، فالقانون يعطي الشرطة الاعتقال لمدة يوم والنيابة ثلاثة أيام وما زاد عن ذلك يجب أن يكون بأمر قضائي”. يضيف حضرة.

وتابع: “ما يحدث الآن اعتقالات خارج القانون ومخالفة له، ولا تتم وفق نصوص قانون الإجراءات الجنائية، فما يجري هو فوضى وأزمة للعدالة في السودان، وهي جرائم ترتكب من جهات يفترض أن تطبق القانون، وتوجه آلة الاعتقال نحو شباب صمدوا وقادوا لجان المقاومة والمطابخ المجانية”.
واعتبر أن ما يعانيه هؤلاء الشباب يأتي ضمن خطة المرحلة الثانية لكتائب الإسلاميين، والخلية الأمنية والبراء بن مالك، ضد الثورة الشعبية، وجميع هذه الجهات ليس لها أي صفة قانونية أو شرعية، وليست أجهزة رسمية لتنفيذ القانون، وقد ارتكبت العديد من الانتهاكات الموثقة في تقارير المنظمات الدولية.
وشدد حضرة “ما يجري في ولاية الجزيرة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترتكب بحق مواطنين عزل، لذلك دعونا إلى السماح بدخول لجنة تقصي الحقائق الدولية، وتوسيع ولاية المحكمة الجنائية الدولية لتشمل كل السودان بدلاً عن دارفور، بغرض توثيق هذه الجرائم ومحاكمة المتورطين في ارتكابها”.