“أيام تحت الترويع”.. روايات ضحايا وشهود من قرى ولاية الجزيرة
عاين- 28 مارس 2024
هز نحيب رجل ستيني سكون إحدى قرى غرب ولاية الجزيرة وسط السودان، وهو يبكي من شدة القهر والإذلال الذي عرضته له قوات الدعم السريع بعد اقتحام قريته الهادئة، وتلقيه تهديداً مبطناً بأن تطال انتهاكاتهم بناته اليافعات إن لم يُسلمهم مفاتيح سيارات خبأها معارف له في فناء ببيته وهو لا يعلم شيئا عن المفاتيح.
وخشية أن تتعرض بناته إلى أي نوع من الانتهاكات، انتظر الرجل حلول الظلام بفارغ الصبر، وغادر في هدوء. وقال الرجل الذي فضلت (عاين) حجب اسمه: “أخذت بناتي وخرجنا من القرية راجلين وسط الزراعة والمياه التي تغرق كل مكان، وكان البرد شديدا، مشينا حتى تورمت أقدامنا، وفي الصباح كنا نصادفهم في أماكن مختلفة، يفتشوننا إلا أنني لم أكن أحمل شيئاً يمكنهم نهبه مع إذلالهم المتواصل إلى أن وصلت إلى منطقة في شرق الجزيرة بقينا فيها أنا وبناتي إلى أن تهدأ الأحوال”.
وفي ديسمبر الماضي، اقتحمت قوات الدعم السريع مدينة ود مدني أحد أكبر المدن السودانية وسط البلاد، والتي لجأ إليها آلاف الفارين من حرب العاصمة السودانية التي اندلعت في العاصمة الخرطوم 15 أبريل الماضي.
وبعد سيطرة القوات على القيادة العسكرية التابعة للجيش في ود مدني وانسحابها إلى سنار، مارست قوات الدعم السريع انتهاكات واسعة بحق المدنيين ونهب للمتلكات والسيارات والأعيان المدنية قبل أن تنتقل إلى القرى المكتظة بالسكان والمحيطة بالمدينة، ومن بينها مدينة الحصاحيصا. وفقاً لتقارير منظمات دولية وطنية.
وعمدت القوات على ارتكاب انتهاكات أكثر وحشية في القرى النائية بعد انقطاع الاتصالات منذ 7 فبراير الماضي. وخلال مدة شهر من انقطاع الاتصالات بالكامل قبل عودتها التدريجية لم يتمكن مواطنو الجزيرة من الإبلاغ عما يحدث من انتهاكات.
لكن لجان مقاومة ومنظمات مدنية وثقت العشرات من عمليات القتل والاغتصاب والنهب. ووثق “محامو الطوارئ” مقتل (248) مدنيًا، وإصابة (347) بإصابات تتراوح بين المتوسطة والخطيرة.
فيما وثقت حملة معاً ضد الاغتصاب والعنف الجنسي 43 حالة اغتصاب بولاية الجزيرة. وشهد عشرات القرى التي هاجمتها الدعم السريع نزوح مئات الآلاف وعمليات تهجير قسرية.
رويات شهود العيان التي جمعتها (عاين) في عدد من قرى ولاية الجزيرة أكدت ممارسة قوات الدعم السريع انتهاكات ضد السكان من قتل ونهب وترويع، ولكن الانتهاكات كانت أشد وطأة على الأشخاص الذين رفضوا دخول أفراد الدعم السريع إلى منازلهم، فلقوا حتفهم قتلاً بالرصاص.
قتل مباشر
وقف “إبراهيم” 40 عاماً أمام منزله وهو أعزل لمنع أفراد من قوات الدعم السريع الدخول إلى منزله الصغير بوسط القرية خوفاً على زوجته وشقيقاته. ليباغته أحد الجنود بإطلاق النار عليه ليرديه قتيلاَ على الفور، وواصلت القوات نهبها، وأخذت كل ما يقع تحت أعينها، رغم محاولات أعيان القرية التحدث إليهم، وحثهم على عدم أذى السكان العزل.
اقتحم أفراد من قوات الدعم السريع منزل السيدة آمنة (75) عاماً بغرض أخذ سيارات كانت موجودة في المنزل، وطلب الأفراد من السيدة المسنة أن تعطيهم مفاتيح السيارات، إلا أنها أخبرتهم أنها ليست ملكهم، وأن مفاتيحها عند أصحاب السيارات الذين تركوها بمنزلها منذ فترة، وهددوها بالضرب والقتل، ولم يكتفوا بذلك حبسوا ابنها الأكبر في غرفة، وانهالوا عليه بالضرب إلى أن فقد وعيه، وتقول الحاجة آمنة لـ(عاين): “بعد عاد ابنها إلى وعيه جعلوه يذهب مشياً على الأقدام إلى منطقة أخرى لإحضار المفاتيح، وبقي الأفراد بمنزلهم يهددونها هي وبناتها الأربعة بالضرب، وسبوها بأفظع الشتائم”.
وتروي الحاجة آمنة: أنه ريثما يحضر ابنها المفاتيح كان أفراد الدعم السريع قد نهبوا كل ما تملك في المنزل، وحطموا كل شيء لم يسلم بيتها المتواضع من بطشهم، ولم يقدروا أنها امرأة مسنة، وكانوا يلوحون بالسوط وأحيانا يضعون السلاح على رأسها.
لم تكتف قوات الدعم السريع بقتل الأشخاص وترويعهم ونهب السيارات من المنازل، وامتدت أياديهم إلى البقالات الصغيرة التي كانت بالكاد تؤمن البضائع للسكان هناك لم يتركوا حتى الملح، ونهبوا مخازن البيوت والمؤن والمحاصيل الغذائية والنقدية، وتركوا السكان يواجهون الجوع _على حد قول السيدة آمنة.
سرقة الأموال من التطبيقات البنكية تحت تهديد السلاح
حال القرى المجاورة لم يكن أفضل بحسب شهود لـ(عاين)، وتحكي سيدة أخرى من قرية مجاورة اقتحمها أفراد الدعم السريع، وطلبوا منهم فتح حساباتهم البنكية على الهواتف، ومن لم يفعل يهددونه بتفريغ السلاح على رأسه، ونهبوا الذهب والأموال، ومحلات الإجمالي التي تمد القرية وما حولها، وتقول هذه السيدة لـ(عاين):”إن لم يقتلنا أفراد الدعم السريع سيقتلنا الجوع، فقد قتلوا من قتلوا ومارسوا إذلالاً على الرجال، وقتلوا شخصاً داخل المسجد؛ لأنه رفض الخروج منه، وجعلوا آخرين يحملون المؤن على ظهورهم إلى مناطق أخرى سيراً على الأقدام ليومين كاملين، غير أنهم أهانوا السيدات، ولمدة ثلاثة أيام لا ننام في منازلنا؛ لأنهم يهاجموننا ليلاً، واضطررت للخروج من منزلي بدون أموال سير على الأقدام إلى أن وصلت منطقة أخرى”.
ويروي عمر 30 عاماً، إن انتهاكات جسيمة حدثت في جنوب الجزيرة التي استبيحت تماما، وسقط عدد كبير من القتلى برصاص قوات الدعم السريع، وفي بعض القرى تعرض النساء والأطفال لاعتداءات، وقُتِل طفل بالرصاص. وأضاف: “يواجه السكان أوضاع معيشية قاسية، والتجار الذين يؤمنون بضائع بطريقة أو أخرى تنهب منهم فور عرضها، ونواجه صعوبة كبيرة في توفير الدواء والغذاء، إذ لا يوجد وقود لتشغيل الطواحين لتوفير الدقيق، ولا تزال الأوضاع غير مستقرة”.
ورغم انتشار قوات الدعم السريع، ظل أبو بكر 45 عاماً يعمل “بالتكتك ” الذي لا يملك غيره، وينقل ما تيسر من البضائع والأدوية إلى قريته الصغيرة، قبل أن يتعرض للضرب من قبل أفراد من الدعم السريع، وأخذ “التكتك”. وبعد يومين طلبوا منه فدية مالية قدرها (مئة ألف جنيه سوداني) مقابل تسليمه ” التكتك” ولكنه تفاجأ بعد دفع المبلغ بأنهم يريدون مائة ألف أخرى وبالفعل دفع المبلغ ليستعيد ممتلكاته.
ويقول أبوبكر لـ(عاين): أنه “اقترض المال ليتمكن من إنقاذ (التكتك) الذي يعتمد عليه في إعالة أسرته، ولا يزال متخوفا من أن يساوموه مجددا”.
جرائم في الخفاء
وزاد انقطاع الاتصالات والإنترنت منذ السابع من فبراير في السودان من حدة الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة وسط السودان، ولم يتمكن مواطنو ولاية الجزيرة من الإبلاغ عما يحدث من انتهاكات، وظلوا معزولين لأكثر من شهر عن العالم، ولكن عدداً قليلاً تمكن من الخروج من مناطقهم المعزولة والعثور على شبكة (ستار لينك) وتمكنوا من التواصل مع ذويهم حينها خرجت بعض المعلومات عن الانتهاكات التي مارستها القوات بحق السكان.
وشبكة الإنترنت المتاحة عبر الأقمار الصناعية “ستار لينك” مملوكة لأفراد الدعم السريع. ويقول أحد السكان لـ(عاين): “ندفع ثلاثة آلاف جنيه سوداني مقابل الساعة الواحدة، وهذا مبلغ كبير وبعضنا لا يتمكن من توفير قوت يومه”.
وتؤكد بيانات للجان المقاومة في ولاية الجزيرة، أن قوات الدعم السريع استباحت أكثر من (53) قرية، وقتلت فيها مدنيين. وقالت لجان المقاومة في مدينتي “ود مدني” والحصاحيصا” إنه مع استمرار انقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت مارست قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين بولاية الجزيرة.
وتحكي خالدة 30 عاماً، إن قوات الدعم السريع داهمت قريتها على غفلة ذات نهار واقتحموا المنازل، وكانوا يفتحون الأبواب المغلقة عن طريق السلاح بإطلاق النار، ولا يترددوا في ضرب الموجودين في المنزل نساء كانوا أم أطفال، ولحظة عثورهم على سيارات في المنزل يعتقدون أن الشخص معه الكثير من المال والذهب والعملات الأجنبية التي يطالبون بإحضارها فوراً”.
وتقول خالدة لـ(عاين): “فعلوا ذلك مع أشخاص فقراء ومنازلهم بسيطة”. وأضافت: “لمدة أربعة أيام متتالية كانت قوات الدعم السريع تداهم القرية بحثاً عن السيارات، وبعدها نهبوا المحلات التجارية الصغيرة التي أفرغت تماماً ومخازن البيوت، حتى إننا أصبحنا لا نجد ما نأكله، وكانت معاناة كبار السن مع الجوع والوجبات البسيطة التي تقدم لهم لا سيما أصحاب الأمراض المزمنة الذين أصبحوا بلا غذاء ولا دواء”.
نهب المحاصيل الزراعية
وسط هذه الانتهاكات، بقيت محاصيل المزارعين دون حصاد لانعدام الوقود ومعدات الحصاد.
يقول المزارع عبد الرحيم: “بدأ بعض المزارعين بقطع القمح والمحاصيل الشتوية بالأيدي، حتى يتمكنوا من توفير قوتهم، ولكن سرعان ما تبددت آمالهم بالحصول على القليل من منتجاتهم لمجابهة الجوع باقتحام قوات الدعم السريع لمزارعهم ومطالبتهم بنصف ما حصدوه على قلته، ومن يرفض منحهم يأخذون كل حصاده، فيما بقي البعض الآخر ينظر إلى حصاده في حيرة وهو مهدد بالتلف مع بداية هطول الأمطار مبكراً هذا العام، غير أنهم لن يتمكنوا من التحضير إلى الموسم الصيفي القادم “. وأوضح عبد الرحيم في مقابلة مع (عاين): أن “ما تبقى من المحاصيل لن يكفي أن لم يتمكن المزارعون من حصاد القمح وزراعة الذرة في الموسم القادم”.
مخاطر صحية
بصعوبة شديدة يتحرك المرضى من القرى في ولاية الجزيرة إلى المراكز الصحية الموجودة في مناطقهم، وتبدأ مواجهتهم للمخاطر منذ بداية خروجهم من قراهم حيث يخضعون لتفتيش من قوات الدعم السريع في عدة ارتكازات متقاربة، وربما يتعرضون للنهب والترويع- بحسب جبارة الذي قال لـ(عاين):”ليس من السهل أن تجد صاحب عربة يذهب معك ويخاطر؛ لأنه سيفقدها أصبحنا ننقل الحالات الحرجة عن طريق (الكارو) وبعد الوصول إلى المشفى تقدم إسعافات بسيطة ومعظم الأدوية غير متوفرة غير الإهانات التي نتعرض في ارتكازات الدعم السريع.”
ويتابع جبارة: أن “الأوضاع الصحية والغذائية سيئة للغاية، وفي شهر رمضان نحصل على وجبات بسيطة، والمواد تموينية أسعارها مرتفعة وحتى السلع الغذائية أصبحت تباع في السوق الأسود والدواء كذلك، فقد نهبت الصيدليات مثلما حدث في المحالات التجارية الأخرى”.
تتزامن هذه الانتهاكات التي تحدث عنها شهود (عاين) مع إعلان قوات الدعم السريع مؤخرا تأسيس إدارة مدنية للولاية مقرها مدينة ود مدني. في وقت يقول الجيش السودان أنه يحشد مع حلفائه لاستعادة الولاية من الدعم السريع.
تحفظت (عاين) على نشر أسماء الشهود كاملة، وأسماء القرى التي وقعت بها الانتهاكات