القضارف.. نازحون في مواجهة العطش وتهديدات الطرد من مراكز الإيواء

عاين- 20 مايو 2024

تحت خيمة مشيدة بالمواد المحلية في أحد مراكز إيواء النازحين بمدينة القضارف شرقي السودان، يجلس ربيع أحمد، وجل أحلامه تنحصر في وفرة مياه الشرب لتروي عطشه مع أطفاله، إذ أصبحت المياه السلعة الأغلى ثمناً في المنطقة التي يأوي إليها هذه الأيام.

يكمل ربيع وعائلته شهرهم التاسع في مخيم إيواء بإحدى المدارس في مدينة القضارف تنعدم فيه أبسط مقومات الحياة، مع نقص في الغذاء والعلاج، علاوة على ذلك ظلت أجسادهم نهباً لحرارة الشمس والطقس، بينما باتوا على موعد مع موسم الخريف الذي بدأ في الدخول، حيث لا تستطيع مخيماتهم المتواضعة الصمود أمام الأمطار والرياح الشديدة المعهودة في المدينة.

ولم يكن ربيع أحمد سوى واحد من 950 ألف نازح في ولاية القضارف بحسب الأمم المتحدة، يعيشون أوضاعاً إنسانية مماثلة، وماسي يتصدرها النقص الحاد في مياه الشرب، في ظل غياب للتدخلات الحكومية، بينما قلصت المنظمات الدولية من بينها برنامج الأغذية العالمي مساعدات عينية كانت تقدمها للنازحين، وصارت شحيحة للغاية مقارنة بالحاجة الفعلية، وفق متطوعين.

يواجه النازحون شبح الإخلاء من المدارس إلى خارج المدينة، بعد أن قررت السلطات المحلية استئناف الدراسة اعتبارا من يوم 6 يونيو القادم

ومع كل ذلك، فإن النازحين في ولاية القضارف يواجهون شبح الإخلاء من المدارس إلى خارج المدينة، بعد أن قررت السلطات المحلية استئناف الدراسة اعتبارا من يوم 6 يونيو القادم، الأمر الذي وضع النازحين في حالة قلق ورعب مستمرة من مصير أكثر قسوة سيواجههم حال هُجِّرُوا إلى مناطق نائية.

قلق شديد

وتبدي أماني عبد الله وهي نازحة تقيم في مركز إيواء مدرسة سلامة غربي القضارف خوفها الشديد من تنفيذ قرار الإخلاء، والذي سوف يضعها أمام رحلة نزوح ثالثة بعد أن فرت من منزلها في الخرطوم، وبالتالي إلى ود مدني وبعدها القضارف، وهي تخشى وضعاً جديداً مليئاً بمعاناة أكبر من التي تواجهها الآن.

خيمة اقامة نازحين من الحرب بمدينة القضارف

وتقول أماني في مقابلة مع (عاين) “أُخْطِرْنَا من قبل السلطات المحلية لإخلاء المدرسة يوم 26 مايو الجاري كحد أقصى، في حين لم يبلغونا بالمكان الذي سوف ننتقل إليه، وما إن كان مهيئاً لاستقبالنا، ويحوي الخدمات الأساسية من إيواء ومياه شرب وصحة، لكني لا أعتقد أن يُوفر لنا مثل هذا المكان، فنحن داخل المدينة نعاني الوصول إلى أبسط مقومات الحياة، فكيف يكون الحال في المناطق البعيدة؟”.

وتراود أماني عبد الله تساؤلات مشروعة، حول مصير أبناء النازحين الذين أيضا يريدون مواصلة تعليمهم مثل أقرانهم الذين تعمل السلطات على إخلاء المدرسة لأجلهم، وهي وضعية غير عادلة حسب تقديرها، فاستئناف التعليم حق يجب أن يناله جميع الطلاب والأطفال بلا تمييز، لتحقيق أهداف كلية وشاملة.

المخاوف نفسها تنتاب النازح ربيع أحمد الذي يرى أن تنفيذ قرار إخلائهم من المدارس إلى خارج مدينة القضارف سيقود إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة، نسبة إلى عدم وجود مراكز إيواء مهيئة لاستضافتهم، بينما يقترب فصل الخريف من الدخول حيث تشهد المنطقة معدل أمطار عال يحتاج إلى إيواء يناسبه.

ويقول أحمد في مقابلة مع (عاين) “السلطات المحلية لم تبلغنا بالموقع الذي تخطط لنقلنا إليه، ولكن تردد أنهم ينون ترحيلنا إلى المفازة، وهي منطقة نائية ليس فيها خدمات ولا إيواء، وحال نُقِلْنَا إلى هناك سيكون قد وُضِعْنَا في مواجهة الموت، بالثعابين والعقارب وأمراض الخريف المختلفة مثل -الصفير- الملاريا واليرقان والكوليرا، كما أن الخيام لن تستطيع الصمود أمام الأمطار والرياح الشديدة، وسنظل في العراء”.

ويضيف “نحن هنا نعاني بشدة، فلو رُحِّلْنَا سينسانا الجميع. نحث السلطات على عدم تنفيذ القرار الخاص بنقل النازحين، فمن الممكن إيواؤهم في الساحات والميادين في مدينة القضارف، فكثير منهم استطاع إيجاد مصالح معيشية عن طريق أعمال هامشية لتغطية العجز الغذائي، فضلاً عن أن ترحيهم سيخلف كارثة بحقهم”.

صفوف المياه

ورغم النقص الحاد في الغذاء، إلا أن مشكلة مياه الشرب تؤرق النازحين أكثر من غيرها في ولاية القضارف، حيث تعيش المدينة أزمة تاريخية في توفير المياه، لكنها تفاقمت هذا الصيف نتيجة زيادة الضغط السكاني بعد وصول مئات الآلاف من الفارين من نيران القتال، ويضطر النازحون إلى الوقوف في صفوف للحصول على حصة محدودة من المياه.

ناشطة مدنية: “سعر برميل المياه ارتفع إلى 5 آلاف جنيه بالقضارف، وهذا مبلع يفوق مقدرة نازحي الحرب الذين ليس لديهم مصدر دخل مالي في الوقت الراهن”.

وبحسب الناشطة في منظمات المجتمع المدني في القضارف أم كلثوم التاج، فإن سعر برميل المياه ارتفع إلى 5 آلاف جنيه، وهي مبالغ كبيرة تفوق مقدرة نازحي الحرب الذين ليس لديهم مصدر دخل مالي في الوقت الراهن، لذلك فهم الآن مضطرون للتعايش مع العطش وانتظار كميات بسيطة تصلهم من وقت لآخر.

نقص حاد في مياه الشرب

وتقول التاج في مقابلة مع (عاين) “وضع النازحين في ولاية القضارف سيئ للغاية، فهم يعانون نقص المياه والغذاء والرعاية الصحية، وهو ما يتطلب تدخلات عاجلة لتدارك الكارثة الإنسانية بالمنطقة”.

ومنذ سقوط مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة في يد قوات الدعم السريع في ديسمبر الماضي، يواصل النازحون التدفق بمعدل عال على ولايتي القضارف وكسلا شرقي السودان، ومازال مستمراً، الشي الذي خلق اكتظاظاً كبيراً في مراكز الإيواء المؤقتة، والبعض لم يجد غير ظلال الأشجار ليأوي إليها، وهي كحالة عثمان إبراهيم.

يقول إبراهيم لـ(عاين) “وصلت إلى القضارف بداية شهر مايو الجاري، بعد أن اضطررت لمغادرة منزلي في منطقة غرب ولاية الجزيرة؛ بسبب الهجمات والاعتداءات المستمرة من قوات الدعم السريع علينا، ونزلت في مدرسة سلامة غرب القضارف، ووجدت الفصول جميعها ممتلئة، فلم يكن أمامي خيار غير الاحتماء بالأشجار”.

ويضيف “هناك نقص في الطعام، فلم نتلق أي مساعدات منذ وصولنا، وسمعنا من إخوانا في المخيم أن ديوان الزكاة وبعض المنظمات الطوعية، ولكننا لم نجدها حتى الآن، أما العلاج فهو الآخر غير متوفر، حيث نُمْنَح استمارات للعلاج المجاني، لكن عندما نذهب إلى صيدلية الدواء الدائري يقولون لنا أن الأدوية غير متوفرة، بينما يستقبلنا قسم الطوارئ في مستشفيات القضارف، غير أننا لا نجد حاجتنا من العلاج”.

ويشير المتطوع في غرف الطوارئ آدم بحة في حديثه لـ(عاين) إلى أن التدفق المتزايد للنازحين على مدينة القضارف خلق اكتظاظ كبير في مراكز الإيواء، وأنهم يضطرون إلى وضع 23 شخصاً نحو 5 أسر في حجرة دراسية صغيرة، في مشهد غير إنساني، لا سيما في ظل ارتفاع درجات الحرارة مع قطوعات التيار الكهربائي.

متطوع: التدفق المتزايد للنازحين على مدين القضارف خلق اكتظاظ كبير في مراكز الإيواء، ونضطر لوضع 23 شخصاً نحو 5 أسر في حجرة دراسية صغيرة

ويقول:”يتعايش النازحون في تلك الظروف الصعبة، بعضهم في ظلال الأشجار وآخرين في مخيمات مشيدة من بالمواد المحلية، ومع ذلك يفتقدون أبسط مقومات الحياة بما في ذلك مياه الشرب، فيظل النازحون وأطفالهم طوال النهار يطوفون على الأحياء السكنية بحثاً عن مياه تروي عطشهم، في مشاهد حزينة ومأساوية”.

توقف المساعدات

ويضيف آدم:”لقد توقف الدعم الذي كان يقدمه برنامج الأغذية العالمي للنازحين في القضارف، فلم تتلق المراكز التي نشرف عليها أي مساعدات منذ شهر رمضان الماضي، وتتوقف حياتهم على التكافل الاجتماعي في المنطقة ودعم محدود يستقطبه متطوعو غرف الطواري من التجار والخيرين، فبعض النازحين يتناولون وجبة واحدة فقط في اليوم، وهذا أمر محزن للغاية”.

وبدت أوضاع النازحين في مخيم ود الحوري في ولاية القضارف الأكثر سوءا عن غيرها، إذ انقطعت المساعدات الغذائية التي تقدمها المنظمات عنهم لأكثر من ثلاثة أشهر متواصلة، ويشهد المخيم نقص حاد في مياه الشرب، وغياب شبه تام للخدمات الطبية، ويعيش المرضى خاصة أصحاب الأمراض المزمنة معاناة بالغة، وفق ما نقله المتطوع بالمخيم علي شعيب لـ(عاين).

مركز إيواء نازحين- مدينة القضارف

وبحسب شعيب، فإن المخيم يأوي 1700 شخص، نحو 357 أسرة، 40% منهم أطفال، مع وجود عدد كبير من الأشخاص ذوي الإعاقة، الذين يعاني بعضهم إصابات جراء الحرب، ولم يجدوا أي رعاية طبية، كما يعانون نقص المياه حيث يحصلون على نحو 105 براميل فقط في الأسبوع وهي كمية قليلة للغاية مقارنة بالحاجة الفعلية.

ويشير إلى أن منطقة ود الحوري فيها محطة مياه واحدة فقط، لخدمة السكان المحليين المقدر عددهم بـ12 ألف شخص، بالإضافة إلى النازحين والثروة الحيوانية، ولم تستطع الصمود أمام الضغط الكبير فتعطلت، وقد أنشأ المتطوعون محطة مياه جوفية أخرى، لكنها بحاجة إلى عمليات تحلية.

ويتوقع شعيب أن تزداد الأوضاع سواء مع حلول فصل الخريف، حيث يعيش النازحون في مخيمات من المواد البلدية، القش والحطب والحصير، وهي سوف تتعرض للسقوط نتيجة الأمطار الغزيرة والرياح العاتية في المنطقة، فضلا عن الأمراض الوبائية، الأمر الذي يستوجب عملاً كبيراً من السلطات والمنظمات الدولية والمتطوعين لتجنب وقوع كارثة إنسانية في حق النازحين.